يوميّات كاتب يسكنه هاجس الانتحار
تأتي هذه الرواية “البيريتا يكسب دائماً” لكمال الرياحي، الصادرة مؤخراً، متمّمة لمسار إبداعي كان انطلق فيه الكاتب منذ سنوات حيثُ لا تقرأ رواياته كنصوص منفردة معزولة عن بعضها البعض وإنّما في سياق قرائي متشابك ومتواصل، وتتعدد الأصوات فيها –الرواية – إذ لا يُحكم الراوي قبضتهُ على السرد بل يُفسحُ المجال أمام عديد الشخصيات إن حضورا أو غيابا لسرد أجزاء متفرّقة من قصّة المسدس الضائع، حتى اكتملت قصّة فكّ اللغز. وقد كشفت لنا هذه القصص الفرعية عن شبكة من العلاقات الاجتماعية المركّبة والمعقدة أحكم الكاتب تشكيلها وبناءها وفق نسق مُربكٍ لكنّه ممتع طريف.
تُعتبرُ رواية الجريمةِ (The crime story) ضرْبًا من الكتابة الأدبيّة تتّخذُ من الجريمة – التي عادةً ما تكونُ جريمةَ قتْلٍ – مادّة خاما للكتابة الإبداعيّةً مع إضفاءِ بعضِ التّخييلِ عليها إثارةً لفضول القارئِ وتشويقهِ. وقد شكّل الأدب الإنجليزي خلال القرن 19 حاضنةً هامّةً لنشأةِ أدب الجريمة وترعرعهِ، إذْ يُرجِعُ الكثير من النقّاد نشأة هذا الفنِّ الروائي إلى الكاتب الأميركي إدغار آلان ب” (Edgar Allan Poe 1809-1849) من خلال قصّتهِ “جرائم شارع مورغ” (The Murders in the Rue Morgue1841).
وقد عرِفت رواية الجريمة أوج نضجها وانتشارها فترة ما بين الحربيْنِ ببروز عدد من الأسماء الأدبيّة التي اختصّت في هذا النوع من الكتابات، كالكاتبة الإنجليزية أجاثا كريستي (1890-1976) التي ألّفت ما يناهز الـ60 رواية بوليسيّةً لعلّ أشهرها “لغز القطار الأزرق” The Mystery of the Blue Train 1928)) و”جريمة عيد الميلاد” (Hercule Poirot’s Christma
1938) والكاتب الأميركي صمويل داشيل هاميت” (Samuel Dashiell Hammett 1894-1961) الّذي لُقّب بـ”عميد الأدب البوليسي” وبلغ أوج شُهرتهِ من خلال روايته “الحصاد الأحمر (Red Harvest 1929) التي صُنّفت ضمن قائمة أفضل مئة رواية إنجليزية. وهو ما أسّس مرجعيّة أدبيّة هامّةً ظلّ يستندُ إليها كلّ الكتّاب الإنجليز وغير الإنجليز عند خوض غمار تجربة كتابة رواية الجريمة.
بيد أنّ هذه الوفرة في كتابة رواية الجريمة بأصنافها في الأدب الغربي عامة والإنجليزي بالأساس قابلتها نُدرةٌ في إنتاج هذا النوع الأدبي في المُنجز الروائي العربي، ويُعزى ضُعفُ حُضور الرواية البوليسيّة العربيّة إلى عدّةِ أسباب يُمكنُ إجمالها في النّقاط التالية:
عدمُ جاهزيّةِ فضاء المدينة العربيّة لاحتضان أحداث القصّة البوليسيّة بكُلّ تفاصيلها ودقائقها لا حضاريًّا ولا سياسيًّا ولا اجتماعيًّا، فـ”من خصوصيات السرد البوليسي أن يرفق فضاءه المكاني بإجراء تقني يمنحه لوناً بوليسياً، يسمى ‘التطويع’، أي تحويل المكان من بنية سردية عامة إلى بنية بوليسية خاصة تغذي المخيال وتؤطره. غير أنه يعترضنا إشكال مرجعي للمغامرة البوليسية العربية التي يفترض فيها أن تقع في مدينة ما، تتوفر على أدنى شروط البوليسية. فهل تستجيب المدينة العربية لمتطلبات هذا الجنس أو تصلح فضاءً لواقع يمكن أن يُبنى عليه تخييل سردي بوليسي في مستوى عالمي؟” (محمد الأمين بحري، البوليسي في السرد العربي… مساءلة المرجع والمخيال، القدس العربي، 24 /10/2016).
التّضييق الّذي يُمارسُ على الكُتّاب والمُبدعين من قبيل منعهم من الاِطّلاعِ على ملفّات التّحقيق في جرائم القتل والسّرقة والتّرويج للمنوعات وهو ما حدَّ من انتشارِ الأعمال الأدبية البوليسيّة (قصّة أو رواية أو مذكّرات…) لغياب أهمِّ مقوّم من مقوّمات الكتابة (الجريمة وما يصاحبها من تحريّات ومحاولات لفكّ ألغازها)، إذْ يُشترطُ في كاتب الأدب البوليسي أن يكون على “اِطّلاع واسعٍ بطُرق التّحقيق والقُدرةِ على فكِّ الألغاز وتتبّع الآثار والطبّ الجنائي، وشيء من أصول القوانين وعلم الإجرام ودوافع الجريمةِ لدى الإنسان، مع خبرةٍ عميقةٍ بالنوازع البشريّة” ( ممدوح فرّاج النّابي، أهو الأدبُ غير النّظيف، مجلّة الجديد، العدد 51، أفريل 2019، ص 64).
مستوى التلقّي، ونقصدُ بذلك النّظرة السلبيّة للنقّاد تُجاه هذا النّمط من الكتابةِ الروائيّة باعتباره درجة ثانية من الإبداع وضربا من التسلية واللعب الخالي من الأدبيّة، إذْ لاقتْ الرواية البوليسيّة في العالم العربي الكثير من التحقير والتجاهل باعتبارها “أدبًا غير نظيف أو أنّها أدب المراهقين” كما يذهب النابي. ولشدّما حوربت الرواية البوليسية من بعض المحسوبين على الشقّ المحافظ الدّاعين إلى طهوريّة الأدب والتأسيس لأدب نظيف خال من المجون والإجرام لاعتبار ذلك مفسدة لأذواق الناشئةِ وتدميرا سريعا لقيم المجتمع وثوابتهِ.
هيمنة بعض الأجناس الكتابيّة الأخرى المتاخمةِ لأدبِ الجريمةِ كأدب المخابرات وروايات الجوسسة على حساب الرواية البوليسيّة، وقد عرف هذا النوع من الكتابة انتعاشةً خاصّة في مصر وحسبنا أن نذكر هنا “الصعود إلى الهاوية” و”دموع في عيون وقحة ” لصالح مرسي. الأمر الذي ولّد فراغا كبيرا وملموسا في الأدب العربي الحديث في ما يخصُّ الرواية البوليسيّة، رغم بعض المحاولات هنا وهناك على غرار تجربة محمود سالم الذي أصدر تلك السّلسلة الشهيرة الخاصّة بالأطفال “المغامرون الخمسة” التي يقوم ببطولتها خمسة أولاد (نوسة، لوزة، تختخ، عاطف، محب وكلبهم زنجر) ثمّ أعقبها بسلسلة “الشياطين 13” ينضاف إلى ذلك نجيب محفوظ الذي نجح في توظيف ثيمة الجريمة في مؤلفه “اللص والكلاب”. دون أن نُغفل ذكر الكاتب الإذاعي التونسي صلاح الدين بلهوان الّذي ألّف للتلفزة التونسيّة تلك السلسلة البوليسيّة الشهيرة “ابحث معنا” ثمانينات القرن الماضي.
لكن وخلال العشريّة الأخيرة بدأت تبرزُ بعض الروايات البوليسيّة الجادّة على الساحة العربيّة نذكر على سبيل المثال “لغز الجريمة الغامضة” للمصري رائد يونس النبراوي و”سكرات نجمة” للجزائرية أمل بوشارب، و”المأدبة الحمراء” للفلسطيني محمد هاني أبو زياد، و”البيريتا يكسبُ دائما” للتونسي كمال الرياحي وهي آخر إصداراتهِ.
1- في تقديم الأثر ومحاولة استقرائه عتباتيًّا
“البيريتا يكسبُ دائما” عنوان رواية للكاتب التونسي كمال الرياحي (من مواليد 1974) صادرة عن “منشورات المتوسّط – إيطاليا”، في طبعة أنيقة تضُمُّ 237 صفحة. تُزيّنُ الغلاف الخارجي صورة تنتمي إلى الفن التشخيصي الحُرّ (Configuration libre) تزاوج بين اللونين الأسود والبرتقالي وتُجسّدُ صورة رأس والنصف العلوي من جذع رجل غير واضح التفاصيل والسّمات لا تبرز منه سوى آثار خدوش أو جروح مرتوقةٍ، ورُسم الفم في شكل ندبة مخاطة وهو ما يحيل إلى إغلاق باب الحوار مُقابل هيمنة لغة البيريتا باحتلالها موضع الدماغ الذي يرمز للعقل والتفكير ما يجعل من هذا الشخص عدائيا لا يرى إلا دوامة القتل والدماء التي ترجمتها العين المرسومة في شكل لولبي مما جعل المكان الذي يحيط بالشخص والذي ساده اللون الأحمر محيطا يرمز الى الدماء والقتل. أماّ حلاقة شعر الرّأس فقد قُدّت على هيئة مسدّسٍ أسود اللون، يحملُ إيحاءً بما أشار إليه العنوان وبما قد يجده القارئ طيَّ النصِّ. وهي صورة تمسح حيّزا جغرافيًّا هاما من فضاء الورقة المطليّة باللون الأحمر القاني بما يكتنزه من معان ومدلولات تقترن أساسا بفكرة القتل/الاغتيال/الانتحار.. وما يترتّب عنها من نتائج، وهي فكرة لازمت كافة الشخصيات التي تناوبت الحضور داخل النص (علي كلاب، ستيلا، دجو/يوسف غربال، دايفيد). وقد ورد اللون هنا علامة سيميائيّة تهيّئنا لولوج عالم الرواية الذي تحكمه ثيمة القتل إمّا انتقاما أو نشدانا للراحة وبحثا عن الخلاص.
ضمّت الصورة كذلك اسم المؤلّف الذي كُتب اسمه باللون الأبيض أعلى الرأس تحقيقا لبعض التباين الضوئي بين الأسود (شعر الرأس/المسدّس) والأبيض (اسم المؤلّف) وعنوان الكتاب أسفل الرقبة. وما يلفت النظر في هذه الصورة اعتماد راسمها تقنية التّذكير (Technique du rappel) في توزيع اللونين (الأسود/الأحمر) وهي تقنية تُعتمدُ في الرسم لإضفاء وحدة فنيّة على اللوحة، فاللون الأحمر وهو اللون الطاغي على كامل الصورة إضافة إلى وروده كخلفية للرسم اعتمده الرّاسم لونا لزناد المسدّس والخيط الذي أحكم غلق الفم وكأننا إزاء علاقة سببيّة إذا فتحت فمك ضغطتُ على زناد مسدّسي إضافة إلى إحدى كلمات العنوان “يكسبُ” أما اللون الأسود فكان من نصيب المسدّس وثلثي العنوان ورتوق الرقبة وتلك الخطوط اللولبية المنحنية التي تحيط بمساحة العين، وهو ما من شأنه أن يريح عين الرائي وهي تتجول داخل فضاء الصورةِ.
أمّا العنوان “البيريتا يكسبُ دائما” فقد ورد نحويّا جملة اسميّة مركّبة تكوّنت من نواة إسناد أصلية مبدوءة بمسند إليه اسم جنس “البيريتا” وهو اسم مشتق من الكلمة الإيطالية (Beretta) وهو نوع من الأسلحة الناريّة نسبة لمُصنّعها بييترو بيريتا (Beretta Pietro) وقد ورد تعريف هذا السلاح تعريفا دقيقا مُفصّلا في الصفحتين 130-131 من الروايةِ، ومُسند ورد تركيبا إسناديًّا فعليّا تكون من فعل وفاعل (يكسبُ) ومفعول مطلق (دائما) وهو ما يُمثّل النواة الإسنادية الفرعيّة أو الثانويّة في الجُملة، وقد أحال دلاليًّا على المنطق السائد كلّما غاب صوت العدل أي منطق القوّة والبطش حيثُ البقاء والغلبة للأقوى وهو ما دلّ عليه التركيب “يكسبُ دائما”. والعنوان في هذه الرواية علاوة عن كونه يُشكّلُ العتبة النصيّة الأولى التي تُغري باقتحام مجاهل النصِّ فإنّهُ كذلك يُشكّلُ منتهاه في المشهد الأخير من الرواية الذي أسدل الستارة على نهاية الصراع الباطني الحاد الذي اقتسمه القارئ مع شخصيات الرواية وهو صراع وجودي يتنازع طرفاه قوّتان تتقارعان ضمنيّا (البقاء/الفناء، الخير/الشر).
2- في بنية الرواية وتعدّد أصوات السرد
تتأسّسُ رواية “البيريتا يكسبُ دائما” على تداخل الأجناس الكتابية وتفاعلها في تأليف النسيج الحكائي للنصِّ، وهي من تقنيات الكتابة الروائية الحديثة اللافتة للانتباه والتي تحوّلت عبرها الرواية إلى نصٍّ جامع أو نصٍّ مفتوح تستوعب في بنائها كافّة أشكال الكتابة الأدبيّة، وتمخّض عن هذا شكل روائي يقوم على تعدد الأصوات، مختلفًا عن الرواية الكلاسيكيّة التي تحملُ راويا واحدا وبذلك صوتا واحدا.
وهو الشكل الذي يتواءمُ خاصّةً مع مقتضيات الرواية البوليسية وشروطها البنائيّة فهي تقوم على قصّتين “تلك الّتي قادت إلى الجريمةِ، ويجبُ إعادة تشكيلها أو تمثيلها، وقصّة التحقيق التي يتّبعُ القارئُ تفاصيلها خطوة بخطوة” (عبدالعزيز جدير، متى تُشرقُ شمس الرواية البوليسيّة العربيّة؟، مجلّة الجديد، العدد 51، أفريل 2019،)، وهو ما استجابت له رواية “البيريتا يكسبُ دائما” إذ يجدُ القارئُ نفسه ينوس بين زمانين مختلفين وبين قصتين أو ضربين من الكتابة:
أ- رواية تحقيق بطلها المُفتّش “علي كلاب” الذي يُحقّقُ في جريمة قتلٍ ويحاول الكشف عن ملابساتها عبر ما وقع العثور عليه من أدلّة في مكان ارتكابها، فالرواية البوليسية تنهض على ثلاث دعائم هي الجريمة والمفتّش أو المحقّق أو ضابط الشرطة وطريقة فكّ ألغاز الجريمةِ. ومهمّة الكاتب إحكام الرّبط بين هذه العناصر والجمع بينها لتأسيس نصٍّ متماسكٍ.
إذْ تنفتحُ الروايةُ بمشهدِ اِقتحامِ ضابط الشرطة علي كلاب مصحوبا بخمسة رجالٍ لشقّةٍ لا نعلم صاحبها أو موقعها ويتوزّعون داخلها وينطلقون في عمليّة التّفتيش إثر تلقّي بلاغٍ من إحدى ساكنات العمارة “الآنسة بيّة” تُعلم فيه بمشاهدتها مرتكب الجريمة وهو يحاول مواراة الجثّة وإخفاءها، وتُسفرُ عمليّة التّفتيشِ عن بقايا عظام جُثّةٍ مدفونةٍ في أحواض الزّينةِ بالشّرفةِ وهاتف سامسونغ يحتوي تسجيلات صوتيّة لحوارات بين “ملاك” (أحد ساكني الشقّة) و”ماري” (صديقتهما) وكومة من الأوراق موضوعة بخزانة فولاذيّة صغيرة، ستُمثّل هذه الجريمة الشرارة التي توقد فتيل السّرد طيلة الروايةِ والمُحرّك الرئيس لأجزاء النصِّ.
يركّز كمال الرياحي النّظر خلال ذلك على الضابط علي كلاب أخطر وأعنف ضُبّاط الشّرطة بتونس على الإطلاق، مسلّطا الضّوء على مختلف جوانب شخصيّتهِ المهتزّةِ بعد سقوط النظام السابقِ الذي كان يحميهِ واستئنافه العمل في سلك الشرطة غداة الثّورة بعد فترة من الاِيقاف والمحاكمات إثر تورّطه في مقتل ذاك الشاب الأسود بطل رواية “الغوريلا” عندما تسلّق برج الساعة صائفة 2009 فتفنّن في تعذيبه وتسبّب في موتِه عبر الصعقات الكهربائيّة في محاولة لإنزاله من أعلى الساعة. فبعد تورّطه في تلك القضيّةِ تعرّضَ لتتبُّع عدلي وظلَّ يرتادُ المحاكم مدّة سنتين هاجمه خلالها السكّري و”عاشَ تجربة مريرةً، فقد سقطَ النّظام الّذي يحميه، وسقطت معهُ أسنانُ فكّهِ السّفلي. لم يتصوّر أنّهُ سيأتي يومٌ يُضربُ فيه على قفاهُ أو يُتفلُ على وجههِ. الغريبُ والّذي قهر علي كلاب أنّ من كان يفعلُ به ذلك هم تلاميذهُ من الضبّاط الصّغار الّذين قفزوا فجأةً في رُتبهم”، وهو ما يُفسّر الحالات الهستيريّة التي تُباغته بين الحين والآخر.
ويضيء الكاتب في الأثناء بعض الجوانب الغامضة فيه كسرِّ تسميته بـ”علي كلاب” وقد أرجع الكاتب ذلك إلى العلاقة العدائيّة التي تربط “علي” بالكلاب إثر تعرّضهِ لعضّة كلْبٍ لخصيتيهِ خلال حصص التّدريب أوّل التحاقهِ بسلك الشّرطةِ فتولّدت لديه نزعة انتقاميّة ترجمتها الجرائم الفظيعة التي كان يرتكبها في حقّ الكلاب السّائبة بمُسدّسهِ وتكديسها أكواما أمام باب السوق المركزيّةِ مع تعمّد تركها مكوّمةً هناك حتّى تفوح نتونةً. عبر هذه القصّة يُطلعنا الكاتبُ أيضًا على سرّ مُسدّس “البيريتا” الضائع من علي كلاب خلال إحدى عمليّات الملاحقة للكلاب وقد كان ليلتها تحت نشوة الصّيد “عندما شعُرَ أنّهُ في حاجةٍ إلى سلاح أكبر للتخلّصِ من تلك الكائنات النابحةِ في رأسهِ. شعُرَ أنّهُ في حاجةٍ إلى رشّاشٍ، ليحصد المزيد من الرؤوس. اِلتقطَ وقتها بُندقيّةَ الصّيدِ من الملازمِ وراحَ يطرقُ رؤوسها واحدة واحدة. كانوا كلّهم يتصايحونَ من حولهِ إعجابًا بدقّتهِ في الرّمايةِ. رصاصة واحدة لكلِّ كلبٍ. لا يذْكرُ ساعتها أين قذف بالمُسدّسِ. كان يعْتقدُ أنّهُ أعادهُ إلى غمدهِ. لكنْ يبدو أنّهُ سقطَ منهُ في العربةِ أو سلّمهُ لأحد أولئك الحمقى الّذين كانوا يهتفون باسْمهِ” (المرجع نفسه، ص 17). وهو مُسدّس تحصّل عليه علي صُدفة من شاب جزائري التقاه عند عودته من الجزائر في منطقة مهجورة قريبة من الحدود وأرغمه على اقتنائه بعد ترويعه بثعبان، فما كان من علي كلاب إلّا قتلهُ بطريقة موحشة وساديّة عبر إرغامه على أكل ذلك الثعبان بعد وضعه داخل رغيف خبزٍ.
وخلال هذه القصّةِ نكتشفُ سرّ فوبيا علي كلاب من الحمام ولعن صاحبها فإذا السرُّ هو تورّطهُ في بتر ساق الملاكم السابق “محمد علي المنصوري” خلال عملية التحقيق معهُ ما سبّب له إعاقة دائمةً أقعدته على كرسي متحرّك أمام جامع الفتح بالعاصمة يرعى أسراب الحمام التي اشتراها وزيّنها بشرائط ملوّنةٍ. ونفهم إذّاك سرّ ارتباك بيّة أول التقائها بعلي كلاب عندما اقتحم الشقّة، عندما يُتبيّنُ لنا أنّها كانت متواطئة في هذه الجريمة مع علي كلاب عندما قدّمت شهادة زائفةً على اغتصاب هذا الملاكم لها.
إنّ هذه الحيثيّات والتّفاصيل المتعلّقة بشخصيّة علي كلاب كشفَت عنها المقاطع السرديّة التذكريّة التي عمد من خلالها السّارد إلى كسر نسقيّة السرد وخطيّته عبر الارتداد بنا إلى الماضي إزالةً لكلّ ما يداخل الأحداث من غموض وإبهام. ناهيك عن الحوار الذي دار بين ضبّاط الشّرطة (زملاء علي)، فالسّرد في هذه الرواية ينحسرُ انحسارا واضحا لحساب الحوار وهي من الظواهر الفنيّة المستجدّة واللافتة للانتباه في المنجز الروائي لكمال الرياحي.
ب- اليوميّات: تُمثّلُ هذه اليوميّات إلى جانب التسجيلات الصوتية التي عُثر عليها ورسالتان من زوجة يوسف (كاتب اليوميات) إلى صديقتها مريم أدلّة لفكّ لُغز الجريمة، فثلاثتها تكمّل بعضها البعض.
تمسحُ هذه اليوميّات قسمًا هامًّا من الرواية (من الصفحة 51 إلى الصفحة 233) وهي 40 يوميّة تمتدُّ زمانيًّا على ما يُقاربُ الثلاثة أشهرٍ من 16 مايو/أيار إلى 10 أوت/أغسطس من السّنة نفسها وهي يوميّات غير منتظمة، عُنونت كلُّ يوميّةٍ بتاريخ كتابتها (اليوم والشّهر) وساعته دون ذكر السّنةِ. واستغرق أمرُ قراءتها من علي كلاب ليلة كاملة إذ انطلق في ذلك إثر اِنتهاء الدّوام مساء ليفرغ من قراءتها فجر اليوم التالي، بعد أن وجد نفسه متورّطا في قراءتها بحثًا عن سرِّ هذه الجُثّة المدفونة في شرفة الشقّة. وهي يوميّات تنفتحُ على المُذكّرات، ضمّنها كاتبها أهمّ ما عاشهُ أو اعترضهُ من مشاكلَ أو أرّقه من هواجس خلال يوم التّدوين ذاك، وتتضمّنُ هذه اليوميّات إضافة إلى ذلك مقاطع سرديّة منها ما ينتمي إلى محكي الطفولة كحديثه عن علاقته الجنسيّة بأستاذة الفلسفة التي كانت تدرّسه (يومية 11 جويلية/ يوليو) ومنها ما ينتمي إلى أدب الرسائل كالرسائل الإلكترونية التي يبعث بها “الحشّاش الفلسطيني” رئيس تحرير صحيفة “الواشنطوني العربي” إلى يوسف (يومية 22 جوان/يونيو، يومية 23 جوان/بونيو، يومية 05 جويلية/يوليو، يومية 09 جويلية/يوليو)، ومنها ما ينتمي إلى المقال الصحفي (مقطع من يومية 23 جوان/يونيو) والبعض الآخر خصّصه الكاتب (يوسف غربال) لكتابة مخطوط قصّة انتحار “دايفيد فوستر والاس”.
تُضيءُ لنا هذه اليوميات جوانب هامة من ملابسات الجريمة وسيرة المسدّس المشبوه الذي يتنقّلُ بين الأيدي كما تكشف لنا شبكة معقدة جدا من العلاقات الاجتماعيّة يؤلّف بينها “مسدّس”. يُتّضحُ من التقدّم في فعل القراءة الذي يقوم به علي كلاب أنّ صاحب هذه اليوميّات هو صُحفي تونسي يُدعى “يوسف غربال” ويُكنّى بـ”دجو” نكتشف عبر التقدّم في سبر أغوار النصِّ أنّهُ أحدُ ضحايا علي كلاب تسبّبَ في بتْرِ إبهام ساقهِ اليُمنى عندما نشرَ مقالا بجريدة “الواشنطوني العربي” يتحدّثُ فيه عن السّلاح المُستخدم في جريمةِ قتلِ الشّهيد شُكري بالعيد (البيريتا) فتمّ اِتّهامه بالتّخابر مع جهات أجنبيّة وكان علي كلاب هو من حقّق معهُ لنفْهم بذلك سرّ الجوارب الكثيرةِ المنشورة فوق حبل الغسيلِ – التي تحدّثت عنها “بيّة” عندما أدلت بشهادتها بخصوص الجريمة – رغبةً من “يوسف” في إخفاء إبهام ساقهِ المبتورِ.
يُصوّرُ كاتبُ اليوميّات التغيير الطارئ على حياته منذُ وصول مُسدّسَ “البيريتا” إلى يديه صُدفةً إذْ يقول متحدّثًا عن ذلك “مُنذُ اِكتشفْتهُ في الكيسِ صرتُ مجنونا. آلام في الرأسِ طوال الوقتِ. هناك من جهة دماغي”، موضّحا كيفيّة عثورهِ عليه وسط كيس جرائد وملفات قديمةٍ ألقتهُ زوجتهُ في وجهه عندما طردتهُ من البيتِ، يقولُ “تذكّرتُ يوما أنّني عندما التقطتُ منها الكيس بالدّرج، ورأيتها تُغلقُ الباب بعُنفٍ. حاولتُ أن أعدّلَ البنطال الذي تراخى قليلا، فلمسْتُ شيئًا صلْبًا بالكيسِ غير الصّحُفِ. ركضْتُ نحو الغرفةِ. أحكمتُ غلق الباب حتّى لا يدخُلَ عليّ أحد، ومزّقتُ الكيسَ… برز بالكيسِ مقصٌّ ضخمٌ، كنتُ أستعملهُ في قصِّ أخبار ديف… في لحظةٍ تصوّرتُ أنّهُ هو الجسم الصّلبُ الّذي أبحثُ عنهُ. لولا أنَّ صرصارا خرج من لفّةٍ أخرى من الجرائد… ضربتهُ ضربةً قويّة بكفّي. آلمتني الضّربةُ، لكنّني سحقتهُ. نفضْتُ الصّحيفةَ من جُثّةِ الصّرصارِ. كان هناك ملفوفا في منديلٍ أبيضَ. يسْرقُ منّي اِبتسامةَ الانتصارِ على الصّرصارِ.
فككتُ من حولهِ المنديل بحذرٍ. مسدّس.. مسدّس ثقيل كاليوم الأول من جريمةٍ”. وهو ما ضاعف من شكوكه نحو زوجته التي كان يلازمه إحساس عميق بأنها تخونه فأضحى المسدّس دليلا قاطعا على ذلك وأمارة على مهنة من تخونه زوجته معهُ وقد كان تخمينه في محلهِ ففي إحدى الرسالتين التين عُثر عليهما خلال تفتيش الشقّة كتبت صاحبتهما إلى صديقتها مريم “أخذ يستجوبني بعُنف. أين ذهبت بالمُسدّس الذي تركتهُ عندك؟ لا أعرف. لا أعرف فعلا، يا مريم… نسيتُ أنّني خبّأتهُ في الكيسِ ونسيتُ عندما ألقيتُ الكيسَ في وجه الحيوان. كان كلُّ ما بقي له عندي مع كرتونة الكُتب. لم يبقَ عندك هنا شيء. اذهبْ إلى الجحيم. أذكر ذلك الآنَ. رميتهُ في وجهه الكيس. نسيتُ. نسيتُ، يا مريم، أنّي خبّأتُ البيريتا هناك” ( المصدر نفسه، ص ص 138-139). ولم يكُن هذا الشّرطيُّ سوى “ستيلا” أحد زملاء علي كلاب وقد أكّد يوسف كاتب اليوميات ذلك في يومية 07 جويلية/يوليو عندما استرجع واقعة إيقافه ليلةً من طرف أعوان الشرطة وتذكّر ما توجّه به إليه أحد الأعوان من كلام “لماذا طلّقتها؟ فرجُها لذيذ، كما رأيتُ، لا أدري لماذا تملّونَ بسُرعة من الفروج التي آوتكم؟ عُدْ إلى فرجك الأوّلِ، يا دجو. سأتركهُ لكَ متى أردتَ. أنا الكنغر الذي يُضاجعُ زوجتكَ. أنا الذي رأيتني تحت الدّرج، وتخشى أن تكتب ذلك إلى اليوم. أنا ستيلا الذي دوّخ العالم كلّهُ. اسأل جبّار عنّي. أنت لا تعرف جبّار. أنت لا تعرفُ شيئا. مهمّتي لم تنته بعد. لن تنتهي الآنَ. ليس قبل أن أجد البيريتا، وأستلّ روحك “(المصدر نفسه، ص 178).
لقد ساهمت هذه اليوميات في إماطة اللثام عن سرّ القضيّة محلّ الدّرس فإذا برفات الجثّة المعثور عليها يتّضحُ أنّها لكلبٍ صار يُشكّل مصدر قلق لصاحبه الذي يُعاني اضطرابات نفسيّة حادّةً، فقرر أن يضع حدّا لحياة كلبه فقتله بهذا المسدّس الذي بحوزته ولم يجد طريقة يتخلّص بها منه سوى تقطيعه وردمه في أحواض الزينة والنباتات بالشرفةِ. وهذه القضيّة لم تكن في الواقع سوى مفتاح لقضيّة أخرى أهمَّ أرّقت علي كلاب سنوات وكادت تُذهب عقلهُ وهي قضيّة مسدّسه الذي ضاع منه في إحدى عمليات الملاحقة فكشفت سارقه ورحلته التي قطع وإلى أيّ يد وصل.
إنَّ هذه اليوميات زيادة عن كونها أداةً لكشف الجريمة ساعدت المفتّش على حلّ لُغز قضيّتين وصوّرت للقارئ حجم الجرائم البشرية التي تُرتكب في حقّ المواطن والوطن تحت شعار تطبيق القانون، فقد صوّرت لنا بعض تفاصيل حياة كاتب مسكون بهاجس الانتحارِ، شديد التأثّرِ بالكاتب الأميركي دايفيد فوستر والاس (1962 – 2008) مُعتبرا حياته امتدادا لهُ لما بينهما من تقاطعاتٍ ففي حياة كلّ منهما امرأتان تختفي الأولى لتحلّ الثانية محلّها فلدايفيد عشيقتهُ “ماري” الشّاعرة التي اختفت فجأةً وظهرت بدلا منها “كارين غرين” التي استمرّت علاقته بها مدّة أربع سنوات وكانت كفيلة بأن يضع دايفيد بعدها حدًّا لحياتهِ بعد أن تخلّتُ عنهُ أو هكذا كان يتهيّأُ لهُ. وليوسف في حياته امرأتان كذلك زوجته التي قرّرت الانفصال عنه بعد أن سئمت العيش معه وصديقتها “مريم” التي صارت على علاقة بهِ. ومن أوجه التّماثل الأخرى أنّ في حياة كل من دايفيد ويوسف صديق (ملاك/جونثان) تحوم حولهُ الشّبهات.
إنّ يوميات “يوسف غربال” مرتكب جريمة قتل الكلب تنطوي على صنف آخر من الكتابة متمثلا في قصّة تحقيق حول مقتل دايفيد فوستر والاس، إذْ يحاول هذا الصّحفي – يوسف – اختلاق قصّة انتحار دايفيد فيُعمل خيالهُ في نسجِ خيوط حكايةٍ مُتخيّلةٍ ورسم شخصيّات بعضها واقعي والآخر مُتخيّل لسبك نسيج النصّ الروائي، فيجمعُ جُذاذات الصّحف التي تحدّثت عنهُ وعن وفاته والتي بدأ تجميعها منذ سنوات. وعبثا يحاول صياغة سيناريو يكشف فيه لغز موته دون جدوى. ويبلغ هذا التأثر بشخصية دايفيد والبحث في سرّ وفاتها حدّ التفكير في الانتحار مثله وكثيرا ما تخامره فكرة الإلقاء بنفسه من النافذةِ، يقولُ “عندي نافذة، نافذة عالية بما يكفي لكي أتهشّم بنجاحٍ”.
إنّ قصّة بحث “يوسف غربال” عن سبب اِنتحار دايفيد تُشبهُ إلى حدٍّ كبير رواية “من قتل أسعد المروري” للحبيب السائح إذْ يحاول خلالها الصّحفي “رُستم معاود” متابعة حيثيات مقتل الأستاذ الجامعي بجامعة وهران “أسعد المروري” ويغدو السؤال “من قتل أسعد؟” إلى قلق يقض مضجع الصحفي. وفي هذا السؤال تتقاطع رحلتا بحث يوسف غربال ورستم معاود.
الرواية البوليسيّة قناع أم توثيق
لقد كانت الرواية البوليسيّة عند كمال الرياحي قناعا أراد من ورائه كاتبه إثارةَ عدد من القضايا السياسيّة كموجة الاغتيالات السياسيّة التي اجتاحت تونس سنة 2012 بدءًا باغتيال الشهيد شكري بالعيد مرورا إلى الشهيد محمد البراهمي، ناهيك عن إثارة قضية العدالة الاجتماعية إذْ “تتناول الجريمة المُرتَكبة في العمل مفهوم العدل المُجتمعي ومداه من خلال سردِ آثارها في فترة زمنية ما. حيثُ يمكنك من خلال القراءة الاستدلال على مدى سلامة المجتمع وعدالته في تلك الحقبة الزمنية، وعن طبيعة الشرور والجرائم فيه وطرق السيطرة عليها. وبناءً على ذلك، فأدب الجريمة على وجه الخصوص يزوّد القُرَّاء بلمحة من المواقف السائدة عن طبيعة العدالة ومدى تطبيق القانون في المجتمع، وتلفت الانتباه إلى الجرائم التي يمكن أن تهدد الأمن العام والوعي الجماعي” (هبة خميس، أدب الجريمة: حين يكون الغموض هو سيد الموقف، “الباحثون المصريون”- موقع إلكتروني ) فنجح بذلك في التخلّص من مأزق التوثيق والتأريخ وأكسب العمل طابعا تخييليًّا اِمتاعيا.
لقد وُفّقَ كمال الرياحي عبر هذه الرواية بما تضمّهُ من أجناس كتابيّة متنوّعة في تشريح الواقع السياسي غداة الثورةِ، الغارق في التصفيات السياسية والمُثخن بالانشقاقات الأيديولوجيّة التي أثقلت كاهله وساهمت في مزيد انحداره نحو الهاوية والمجهول وهي إلى ذلك تمثّل شهادة هامّة من مثقّفٍ لم يتنصّل من مسؤوليته التاريخيّة في تحليل الواقع ونقده وتشخيص هناته في مرحلة مفصليّة هامّة تتنازعها التجاذبات من كل صوب حتى تكاد تعصفُ بثمرة الانتقال الديمقراطي وتعود بنا القهقرى.