پاروديا سوداء لقدر الانقياد
تكتب الرواية برغبة الاستئناف، العودة إلى نقطة النهاية في المكتمل، وجعله مسترسلا، لهذا نتحدث أحيانا عن تفريع روائي لنص مركزي، وأحيانا أخرى عن تنويع، فقد يُشرع في كتابة رواية وأثناء العمل تولد ملامح نص غير منتظر، عبر مسارات مؤجلة لشخوص، أو عبر امتدادات لفضاءات ووقائع؛ ذلك ما يخبرنا به توماس مان وهنري ميلر وروائيون عديدون. وأعتقد أن رواية “ثورة الأيام الأربعة” للكاتب المغربي عبدالكريم جويطي (المركز الثقافي العربي، بيروت، 2021) الصادرة حديثا، نبتت من معطف نص سابق له حظي بشهرة واسعة هو رواية “المغاربة”، وتبدو في ملامح شخوصها وعوالمها البشرية والثقافية وعمقها المجازي والمعنوي بمثابة تنويع جديد على نواة صلبة هي “معنى أن تنتمي إلى هذه الجغرافيا النائية المسماة مغربا أقصى”.
تحكي الرواية عن حركة خروج ثوري مسلح جرت وقائعها في سنة 1973 هيأ لها معارضون مغاربة مقيمون في الجزائر وفرنسا، وأسفرت عن مواجهات في مناطق شتى من المغرب، في مدن خنيفرة وبني ملّال وتنغير والدار البيضاء وخريبكة وغيرها، وكان أشهرها “أحداث مولاي بوعزة”. وقائع أرّخت لها أدبيات تاريخية وتحقيقات شتى، أكثرها شهرة كتاب “أبطال بلا مجد: فشل ثورة 1963 – 1973″ للمهدي بنّونة، و”أطلسيات: شهادات من خلف الستار” لفاطنة البيه ويوسف مداد، بيد أن تفاصيل المغامرة الثورية لم تمثّل في رواية “ثورة الأيام الأربعة” إلا الهيكل العام لسردية تقَصَّدت استئناف ما شرع فيه الروائي في نص “المغاربة” من تمعن في طبيعة هذا المجتمع المنقاد لعقيدة البطش والمرهون لقدر الانتظار.
يقوم رجل سلطة بدرجة “قائد ممتاز”، بقتل ضابط أمن ، ثم يلوذ بالجبل مع تنظيم يساري سري لإشعال فتيل ثورة مسلحة ضد الدولة، في أحراش منطقة “تادلة”، غير بعيد عن حاضرة بني ملال. ضمّ التنظيم الماركسي المتمرد خليطا هجينا تكوّن في أغلبه من مناضلين سابقين في صفوف حزب “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”؛ “القائد” الذي يلقبه السارد بـ”جيمس دين”، لوسامته واعتداده العاتي بنفسه، و”زياد السمعلي” أستاذ الفلسفة، الذي تُروَى الوقائع الروائية على لسانه، و”الأستاذ” المنظّر ومهندس تفاصيل الخروج، وثمانية آخرون فيهم “الكتبي” و”الفحّام” و”المحارب السابق” في فيتنام، و”المعلّم”، و”عامل المصنع”، وصاحب “الحمّام” وآخرون.
تتواتر أحداث الرواية عبر عشرين فصلا، عُنون أولها بـ”القول في البغال” وآخرها بـ”ثوار وقرابين”، وما بينهما تتالت عناوين بصيغ متباينة، ما بين المبنى المجازي والرمزي و التقريري والهجائي الساخر: “سرمد”، “بلاد الخوف”، “معركة ثكنة وادي إيرس”، “يا ناسي العهد”، “اليوناني الشريد”، “سيدات الربوة”، “الجنرال والحمار”، “ثوار وقرابين”…، وغيرها، ناسجة متنا بطبقات متساندة، لتضاعيف “نزوة” الخروج الثوري لطيف غير متجانس من النماذج البشرية على سلطة لا تتهاون في العقاب، ولا تتسامح أمام خدش هيبتها الراسخة. وعبر تلاحق المحطات السردية لوقائع ما جرى، في الوقت المحاصر، شديد الضيق، تتخايل صور الوجوه والكلام والقرابة والعرف المجتمعي والتسلّط والولاء وتدبّر الأحوال في المدينة البطلة “بني ملال” وهوامشها المترامية وامتدادها الجبلي، مؤلفة مبنى روائيا محكما للداخل العميق لمغاربة منذورين لعيش البرزخ بين محافظة عاتية وحداثة ممتنعة وانتظارات لا تفتر تجدد إهاباتها.
التخييل ومسرحة الخيبات
منذ البداية تتجلى الرواية مسكونة بنوازع “المَسْرَحَة”، إذعانا للجوهر الدرامي للفعل الثوري المجهض والمثلوم، تتفاقم تدريجيا صوى التشابك اللفظي والحركي في الزمن المنسرب بخفة من ساعة الرمل، أربعة أيام تختصر رحلة ما بين “ولادة” و”موت” ثورة مزعومة. في لعبة الأقنعة الاسمية “دوغول”، “الفيتنامي”، “جيمس دين”، “التزنيتي”، “مول الشمعة” (صاحب الشمعة)، “الطوفان الأحمر”، “ر.ب.م”، “الجنرال”، “سرمد”…، كل الشخصيات الروائية تكتسب عمقا هزليا أو فجائعيا، إنما بجوهر درامي دائما. ويلتئم نزوع “المَسْرَحَة” حول مشهدين مركزيين، الأول في حفل “عيد العرش” ومقطوعة “يا ناسي العهد” الموسيقية المناقضة للسياق التي أداها البطل “زياد السمعلي”، وكانت سببا في اتهام نواياه السياسية، واستدعائه للتحقيق في مخفر الشرطة. والثاني في مسرحية التلاميذ بمدرسة الضيعة الكولونيالية، التي أخفق خلالها والد البطل (علال السمعلي) في أداء شخصية الجنرال دوغول محوّلا الفقرة الاحتفالية إلى سقطة بلهاء، وارتجال ملفق؛ فتلبّسه اللقب التهكمي “دوغول” في محيط متسقط للمهازل، مثلما سكنته رغبة التكفير عن سقطة الأداء وجعلته يعيش دور الجنرال إلى ما لا نهاية. من هنا يكف التخاطب عن الوفاء بمأرب التواصل إلى استدعاء تعابير ومجازات تستهدف الإيهام بأن لا شيء في محله، وأن الأحداث فضلا عن كون شخصياتها الروائية مدركة لوضعها المجازي، (أي أنها تؤدي أدوارا وهي في غير وضعها الحقيقي)، فإنها تبدو مجرّد لعب مسرحي اختار له المؤلف موضوع “الثورة على نظام الحكم”.
يقول السارد على لسان البطل زياد “يكفيني أن القائد قد اختار إخراجا مسرحيا لانطلاق الحدث الجلل، وجعلني أقف وأتأمل بفداحة من فوق ربوة” (ص 12) ويضيف في موضع لاحق “انتبه الأستاذ إلى أحدهم وهو يشعل سيجارة فتقدم نحوه، أخذها من يده بحركة مسرحية ودودة… ” (ص ص 36 – 37)، ليدفع بعنفوان لحظة “التمسرح” المتفاقمة إلى مداها حين ألقى القبض على شخصية اليوناني الأفاق “لم يكن ينقص هذا التهريج الثوري سوى مهرج حقيقي وها أنت أتيت به” (ص 240).
والحق أن كل مفاصل التخييل الروائي توحي بأن ثمة أفعالا وكلاما خارج المحتمل والممكن، كل المفردات، من بداية الفصل الأول، يوحي فيها السارد أن الأمر خارج عن حقيقة الأشياء، لا البطل ببطل، ولا الخروج ببطولة، ولا التمرد بثورة، هي أشباه ونظائر تدعوا للأسى وللسخرية معا. مجرد صدفة تجعل “زياد” يؤدي أغنية تفسّر على أنها تعريض سياسي بـ”المخزن”، سرعان ما يتلقفها أعضاء التنظيم السري، فيلحق بالحركة اليسارية منقادا لقناعة ليست له، ثم يخرج مع الخارجين في شبه سرنمة، مشلول الإرادة، يمشي خارج مشهد البطولة، مجرد كومبارس لتأثيث الركح، وبتلاحق الأحداث يندمج الثوري الزائف في اللعبة ، ويتحول إلى صاحب دور يؤديه باستسلام قدري حتى النهاية.
يلبس الثوار ألقابهم مثلما يرتدون لباس الجند، الذي لا يكون في مقاس أغلبهم، يوزّعون أسلحة على بعضهم، ويستولون على ثكنة شبه فارغة، ويرتجل القائد “جيمس دين” خطبة ثورية أمام جمهور من ساكنة الجبل، لا يعرف في معجمه القَبَلي مرادفا لكلمة “ثورة”. يتخذ قرار إغلاق ماخور الجبل، وتزويج بغاياه من جنود الثكنة، مشاهد “فارص” بعمق منهك، لخواطر منقادة لمصيرها، بينما يتوارى المخرجون بعيدا خلف الحدود، يؤلفون النص وينتقون الممثلين ويقذفون بالمرتجلة إلى قبائل الرعاة حيث لن يتلقفها أحد.
والشيء الأكيد أن “المَسْرَحَة” كانت الخيار الروائي الأمثل لدفع احتمالات انقشاع الوهم إلى حدوده القصوى، وملء فجوات الزمن المضغوط باحتمالات الرومانيسك؛ ساعات معدودة، ووقائع تبدو دون أفق، وثورة لا تمنح من تفاصيل المغامرة إلا النزر القليل، فلا يتبقى إلا مكنون المجابهة بين أفراد كتيبة حرب الغوار فيما بينهم، وبينهم وبين ساكنة الجبل. في الحكاية الأصلية لا شيء يغري بالتمادي في تقليب مواجع ما جرى، هوامش الصمت فقط هي الناطقة، ودرامية الفعل المغامر، التي تطل بخيباتها المتأصلة على الداخل العميق، وعلى مشهد الجبل و”وادي إيرس” ودواري “أيت سعيد أوعلي” و”آيت داود أوعلي” المتصارعين على المراعي، وماخور “الشيخة تودا” والنساء المنتظرات أزواجهن وأبناءهن وإخوتهن من أعالي الربوة، حيث الوعي الجمعي يردد أصداء قولة أحد الثوار الناهضين من حلم اليقظة العابر “لن يثور الفلاح ولا الراعي من أجل فكرة، ولا من أجل الكرامة والحرية، هذه الشعارات لن تحرّك فيه شعرة إقدام واحدة، سيفعل إن وعد بملكية الأرض والمراعي فقط، الفلاحون والرعاة فِيتيشيُّون، لا يعبدون إلا رائحة التراب وعبق العشب” (ص 206).
الانتظار هبة الخوف
ينساق الخارجون إلى قدرهم المظلم، المستنقع في خواء الحماس العابر، يتبادلون أدوار الاستنهاض وشحذ الهمم في مشاهد التهريج الثوري، وتوغل السردية في مَسْرَحَة الكشف، وتعرية الحقيقة الصاعقة، حقيقة “الخوف الجهنمي” و”الانقياد القهري”، و”الانتظار المؤبد”. لا انقياد دون خوف يلهب جذوته انتظار أي شيء ولا شيء، ذلك ما تبرع الكلمات والمجازات الروائية في نحته على حافة الوقائع الضامرة، الخرساء، والمفعمة بلاغة؛ في كل مقطع ومشهد وفصل من “ثورة الأيام الأربعة” تنبت نوازغ الانتظار، وتتفاقم مساحات وأشكال وأزمنة الانتظارية: انتظار الاستقلال، وانتظار عشرة دراهم تحت الوسادة نصيب كل فرد “من الفوسفات كما وعد زعيم اشتراكي” (ص 244)، ثم انتظار الثورة، وانتظار الأوامر، وانتظار الليل، وانتظار التحاق “الشعب”، وانتظار إشارات “الفقيه العالم بكل شيء”، وانتظار جيش السلطة، وانتظار النساء عودة أقاربهن على ربوة،… يتمثل الانتظار الروائي بما هو جبلة الناس والمحيط والمجتمع والسلطة، يبدو قرين التفرج على شريط العمر وهو يمضي إلى مستقره، بكل ما تنطوي عليه المتابعة من عواطف التسليم واللهفة والانقياد إلى ما رسخ وأقام. وكأن الأجساد تنسلخ من إرادتها وتعلقها على همم الآخرين المكبلين بالوهم ذاته، وعند حافة الالتباس الروائي المتأرجح بين رغبة الانعتاق والتسليم باللاجدوى، تملأ بيضات الخوف والخرس، عمق الدوافع الروائية، ويتحول الرعب الجبار إلى قاعدة إدراك للعالم، شأنه شأن “الصبر” و”التسليم” و”القدرية” والانقياد” و”الفشل” و”التطهر الثوري”.
في مقطع من الفصل السابع المعنون بـ”ما العمل؟” نقرأ ما يلي “الخوف الذي يصير في حالة كحالتنا أكثر من عاطفة، أكثر من يد راعشة، أكثر من نفس مختنق، أكثر من قلب يريد أن يمزق الضلوع، أكثر من امتقاع لون، الخوف الذي يشل، وينصب جدرانا حيث لا توجد ويلفك في كفن أسود، ويجعل أظافرك ترتد إلى دواخلك تنهشها؛ في انتظار اليد التي ستمسك بك أو الضربة التي ستسحقك” (ص 187).
ولأن الخوف قرين الثورة المجهضة، التي ليست في النهاية إلا فيضا له، فقد كان خارج أحاسيس الخجل والخطيئة، بات جزءا من هوية الفعل الدرامي الفاجع والهزلي لممثلين جسّد خروجهم سعيا إلى مجابهة دواخلهم، مثلما كانت عزلتهم عن حاضنة الجبل، ترجمة لانغمار المجتمع في معجم الرهاب الفطري والمكتسب، ومن ثم لا يغدو لمفردات الشجاعة والإقدام والتضحية والقتال إلا دلالة الرغبة في البقاء، والاستكانة للقاعدة، والحفاظ عليها، ثم الانتظار. إنها عبقرية السلطة التي جعلت “الخوف هو المدرسة التي عمل على أن يتخرج منها الجميع” (ص 128).
في مديح الفشل الثوري
لكن ماذا بعد الخوف والانتظارية والتهريج الثوري الذي تسترسل مشاهد الحوار والحركة والفعل المُمَسْرَح في تشييده؟ أهو فقط تأويل لغرائبية الوقت وارتكاسية التاريخ وتكلس حصون المحافظة؟ أهو مجرد سخرية متمادية من جِبِلّة مؤبدة لمغاربة محكومين بجغرافيتهم وأهوائهم؟ كل ذلك محتمل، بيد أن الشيء الأكيد أن الرواية تتوازن بتعدد أصواتها، برغم صدورها من وجهة نظر مركزية لسارد مفرد؛ إنها استكناه لهوية وانتماء، بقدر ما هي تشريح لجوهر الفعل الثوري، حين يكون في غير بيئته، وهجاء لما يتحول إليه من صور شائهة، يكتفي الشارع بمتابعتها كاحتفال فرجوي، والسعي إلى استيعاب ما تنقبض عليه من “عنف ودماء وغرائز بدائية وسيبة، وضربات غادرة، وتصفية حسابات” (ص 102)، ينجزها أبرياء ويقطف ثمارها مخرجون مهرة. ولأنها في غير محلها، بحسب الوقائع الروائية، التي تمعن في إبراز عوامل عطبها الداخلي، فإنها لن تبحث عن انتصار ولا سلطة وإنما عن عنفوان، لهذا كانت الخيبة والفشل الثوريان مبجلين، في جدلية الكلام والفعل الروائيين، ولكم كانت موحية تلك الحكمة الدارئة للندم، في خطاب السارد، مجلّلة بكل الوقار المسرحي، حين قال “فليكن فشلا يليق بنا،… أريد فشلا عظيما، من ذلك الضرب الذي يترك وجعا في التاريخ… لو انتصر الحسين في كربلاء لكان التاريخ قد أضاف خليفة آخر… لكنه انهزم وقُتل وفُصل رأسه عن جسده، كل بكاء الشيعة ولوعتهم وأحزانهم هي مديح لهذا الفشل العظيم” (ص 200).
***
ليس من شك أن عبدالكريم جويطي كتب روايته هذه برغبة تبجيل فضاء شخصي، وأناس سكنوا ذاكرته، بيد أنه كتبها أيضا بهدف التخفف من ثقل مرزئ، ومن جرح جماعي. لنقل إن “ثروة الأيام الأربعة” كتبت بدورها لتصفية حساب، تجاه أسماء وأساطير سياسية، وبداهات فكرية، وأعطاب وأوهام متراكبة، وحماس متأصل في النسوغ، بمفردات حريفة، ومجازات تنفذ إلى العمق الآسن، وبكيمياء تصويرية لها جوهر تهكمي صلب وأصيل، عما جرى في مغرب مطلع الاستقلال وتحديدا في النصف الثاني من الستينات والسبعينات من القرن الماضي، من غليان أوهام بإمكان قيام ثورة، ثم ما اكتنفها من إعاقات وخيبات، لاحقت مساراتها، دوما، دون هوادة.