السياسة والإسلاموفوبيا
مازال العالم مصدوماً من القرار البريطاني بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ومازالت الأوساط الدولية بكافة مندرجاتها ومستوياتها تراقب عن كثب وبقلق عميق يقارب الرعب مآلات وطبيعة الإرهاصات التي ستترتب عن هذا القرار واستطالات مفاعيلها على المشهد العالمي برمته. حدث تاريخي بلا شك، لكنه قد لا يكون مفاجئاً كثيراً ولا معاكساً بشكل صارخ لتوقعات الباحثين والمحللين العلميين والأكاديميين حول العالم. نعم، لم يكن أحد ربما يتوقع أو «يتنبأ” (إن استخدمنا هذا التعبير، مع أن التنبّؤ ليس بالفعل العلمي) أن يصوّت الشعب البريطاني لصالح قرار الخروج بل أن يميل بأغلبيته لصالح قرار البقاء.
ولكن، عدم توقُّع هذا المآل لا يعني أن المعطيات والحقائق على الأرض البريطانية وفي السياق المجتمعي للدولة المذكورة لم تكن تقترح أن مثل هذا الاحتمال قائم وفعلي وغير وهمي. هناك معطيات وأسباب معينة دفعت الساحة العامة البريطانية للنحو باتجاه هذا القرار. أحد تلك الأسباب سياسي-تراثي بطبيعته، وأحدها الآخر سوسيولوجي-سيكولوجي بطبيعته. سأحاول في هذه الورقة الموجزة أن أسلّط نزراً يسيراً من الضوء على بعض المعطيات والتحليلات المفسِّرة والمستطردة حول هذين السببين المذكورين هنا.
لنبدأ أولاً بالمعطى السياسي-التراثي، والمقصود به هنا عامل الإرث الفكري المتعلق بفهم الذات التاريخي الذي يعقل به البريطانيون أنفسهم وكيف تم توظيفه في لعبة سياسية صرفة هدفها الأول والأخير الاستيلاء على السلطة والإمساك بعصا القرار في البلد. عشت في بريطانيا لخمسة أعوام، ما بين عام 2000 وعام 2005، حيث حصلت فيها على شهادة الدكتوراه الأولى في العلوم اللاهوتية المسيحية من كلية الملك في جامعة لندن. عشت تلك السنوات الخمس الرائعة في قلب المجتمع البريطاني اللندني القح وبين أهله المحليين ولم أختلط بالعرب الكثر جداً، الذين يملأون المدينة ويميلون لتكوين أشباه-كانتونات سكانية واقتصادية وبشرية لهم فيها بحرية وبأمان ومنذ عقود عديدة جداً مضت.
تجنبت متعمداً العيش بين العرب والمهاجرين وبحثت عن سكنٍ وفضاء مجتمعي محلي لندني وبريطاني أصيل، لأنني أردت أن أعرف المجتمع البريطاني من داخله وأن أندمج فيه قدر استطاعتي وأفهمه وأتحسسه من قلب فضاء عيش صانعيه. تجربتي وخبرتي المتواضعة هذه (والتي لا يجب تشويهها باعتبارها مقياسا أو حكما معمما جمعيا جامدا يتم إسقاطه من الأعلى على المجتمع البريطاني) تجعلني لا أستغرب (وإن كنت أتأسف بحق) من قرار الخروج الذي صوّت له البريطانيون للانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
لا يمكن لمن يعيش في ظهراني هذا البلد العظيم وبين أهله الراقين والمحبين في الحقيقة (مازال البريطانيون الذين تعرفت عليهم أثناء عيشي هناك من أعز الأصدقاء) إلا أن يتلمس بقايا وآثار سيكولوجية ورؤية للذات وللعالم تبدو لقارئ تاريخ المملكة البريطانية المطلع وكأنها أحد نتائج عصر الإمبراطورية الهائلة التي لا تغيب عنها الشمس والتي أسسها البريطانيون وحكموا بها العالم لقرون. هذه السيكولوجية الإرثية المتعالية والمتفوقة عن ذاك الماضي العظيم لم تمّحي كما بدا لي، ومازال، من بنية العقل الإنكليزي تحديداً (الإنكليز كجزء من الشعوب الأخرى التي تنضوي تحت علم المملكة المتحدة) على تلك الجزيرة الضخمة.
من جهة أخرى، يمتزج هذا النفس الاستعلائي في السيكولوجيا البريطانية، كما يستطيع لقارئ تاريخ بريطانيا أن يلاحظ، بإرث شعبي مقترن أيضاً بحقيقة أن جزءا من تاريخ بريطانيا اقترن بعصر القرصنة والصراع على الهيمنة على الملاحة على الكوكب. بريطانيا ليست فقط ذات تاريخ إمبراطوري، هي ذات تاريخ قرصاني كذلك. اعتاد أحد أصدقائي الإنكليز أن يقول لي «نجيب، بريطانيا جزيرة قراصنة”. معه حق في هذا برأيي، فسيكولوجيا القرصان تقول «الحرية والتفرد في القرار والقوة الذاتية هي عماد الوجود، إما أن تكون موجودا بفضل قوتك وقدرتك الذاتية المحضة، أو أنت ميت أو مسجون أو ملاحق ومضطهد من قبل الجميع. لا صديق في الحياة، هناك إمّا عدوّ أقوى منك تهابه وتهرب منه دوماً، أو عدوّ يهابك ويهرب منك دوماً”. هذا المنطق يجعل شرائح من الإنكليز، بتلك الذهنية، يعتقدون أن العالم برمّته يجب أن يشعر دوماً بأنه يحتاج لبريطانيا ويحيى في ظل إرثها وإنجازاتها في كل ما هو عليه، وإلا فإن هذا العالم سيضعهم هم في خانة الاتكال عليه والسعي دوماً لتجنب تهديده لوجودهم.
كثير من الانكليز مازالوا يؤمنون، كما عبّروا أمامي في مناسبات عدة، بأن على بريطانيا أن تري العالم دوماً أنه يحتاج لها وأنهم لا يعتقدون أبداً أنهم بحاجة لأيّ أحد. منطق قرصاني بامتياز في بلد مازالت ذكرى الهيمنة الإمبراطورية (لنتذكر أن الفضل في هذه الهيمنة يعود للسيطرة على الملاحة أي القرصنة) ماثلة في عقول كثير من البريطانيين المتقدمين في العمر، والذين صوتوا بغالبيتهم العظمى، كما تقول لنا نتائج الاستفتاء، لصالح الاستقلال عن أوروبا والخروج من الاتحاد.
هذا الجانب التراثي لمسألة القرار ترافقت مع توظيف ذكي وماكر لتلك السيكولوجيا ولمنطق الوجود أو اللاوجود قرصاني الملامح في عملية سعي قويّ لتغيير معادلات السلطة والقرار في بريطانيا. نجم هذه اللعبة السلطوية بامتياز هو سياسي شغر لفترة منصب محافظ لندن وينتمي لحزب المحافظين وهو بوريس جونسون. هناك شعور عام بين البريطانيين الذين أعرفهم بأن أفضل توصيف لشخص مثل بوريس جونسون هو «دونالد ترامب بريطانيا”. المقصود بهذا التعبير أنه يُنظر إليه على أنه شخص لا يتمتع بالذكاء الفكري السياسي بل بالحمق والعنجهية والاعتباط، شخص شعوبوي متعطش للسلطة، متمحور حول أناه الفردية العليا، يلهث بشكل محموم وعبثي وراء تحقيق أجندته الخاصة والفردية ويحلم، وبأيّ وسيلة ممكنة مهما كانت مكلفة للآخرين، بتبوّؤ منصب رئيس حكومة البلاد. لم يكن جونسون يوماً، كما يقول متابعوه البريطانيون الذين أعرفهم، من الراديكاليين اليمينيين الصريحين الذين يعبّرون عن كراهية لكل ما هو غير بريطاني أو يقولون دوماً بأن بريطانيا العظمى لا تحتاج أحدا ولا تنتمي ولا بأيّ شكل من الأشكال لأيّ كيان حضاري وثقافي آخر. وهو ليس من الذين يسوّقون للعنف ضد من يؤمن بانتماء بريطانيا للفضاء الحضاري والثقافي الأوروبيين، مثل المواطن الذي قتل النائبة البريطانية الداعية لذلك مؤخراً. المعروف عن جونسون أنه براغماتي ويلعب لعبة السلطة بكل قذارتها وأنه مستعد للقيام بأيّ شيء لمصلحة الحصول عليها. لهذا لم يشهد الشارع البريطاني من جونسون خطابات عنفية ضد أوروبا والعلاقة معها بعد انتصار صوت الداعين للانسحاب من الاتحاد. لا بل يقال إنه هو شخصياً لم يكن يتوقّع نجاح الصوت الرافض للبقاء في الاتحاد. وهو مؤخراً، وبسبب المظاهرات العارمة في الشارع الإنكليزي ضدّ القرار، قرر عدم خوض انتخابات رئاسة الحكومة بعد أن رأى سخط الشارع العام عليه وغضبه منه.
بعد أن حقق الخطاب التراثي القرصاني-الإمبراطوري هدفه يبدو أن جونسون سيرميه خلفه. كل المعطيات تقول إن بوريس جونسون لعب على السيكولوجيا البريطانية الموروثة بذكاء كي يقلب معادلة السلطة في البلد على أمل الوصول في النهاية إلى المنزل رقم 11 الكائن في شارع داونينغ في قلب العاصمة البريطانية.
أودّ فقط الإشارة إلى الرأي الذي سمعت العديد من البريطانيين يدلون به عبر الإنترنت عن سبب تصويتهم للخروج من الاتحاد الأوروبي. أثار انتباهي أن هؤلاء المصوّتين قالوا إنهم لا يريدون أن تصبح بلدهم أسيرة لتهديد المسلمين اللاجئين
هذا الجانب السياسي-التراثي هو أحد العوامل الأساس في نتائج الاستفتاء الشعبي العام في بريطانيا. ولكن هذا ليس بالعامل الأوحد في الواقع. هناك عامل آخر لا يقلّ أهمية ولا تأثيرا في السياق البريطاني. هذا العامل هو ما أسميه بالعامل السوسيولوجي-السيكولوجي، وأعني بهذا عامل الخوف من موجة اللجوء العارمة التي ضربت أوروبا مؤخراً، والتي تقترن في العقل الشعبي البريطاني (والأوروبي عموماً) بالإسلاموفوبيا. فالكل يعلم بأن أوروبا وبريطانيا معها تواجهان ظاهرة شعبية متمثلة بالرهاب الحقيقي والعميق من الإسلام ووجوده في هذا الجزء من العالم، والذي جاء تاريخياً إلى أوروبا مع موجات الهجرات المتعددة، ومؤخراً موجات اللجوء العارمة، التي وصلت إلى تلك البلاد من كافة أصقاع العالم الإسلامي، وبشكل خاص العالم الإسلامي العربي. ما يعنيني شخصياً بالدرجة الأولى هو الفوبيا المنتشرة في الشارع البريطاني (والأوروبي عموماً، كما لاحظت أثناء سنوات عيشي وعملي في ألمانيا) تجاه الحضور الإسلامي المهاجر أو اللاجئ من العالم العربي. وفي السطور اللاحقة سأتأمل قليلاً في بعض الجوانب المعرفية المتعلقة بواقعية وإرهاصات الفوبيا المذكورة، محاولاً أن أقدم تقييما نقدياً موجزاً لها.
تمتلئ المكتبة العلمية بالكثير من الدراسات والمؤلفات التي تتحدث عن مسألة الإسلاموفوبيا. لست بصدد تقديم دراسة عن هذه الظاهرة هنا (فعلت هذا في أماكن أخرى). أودّ فقط الإشارة إلى الرأي الذي سمعت العديد من البريطانيين يدلون به عبر الإنترنت عن سبب تصويتهم للخروج من الاتحاد الأوروبي. أثار انتباهي أن هؤلاء المصوّتين قالوا إنهم لا يريدون أن تصبح بلدهم أسيرة لتهديد المسلمين اللاجئين الآتين من العالم الإسلامي العربي-المشرقي (كثير منهم سمّى سوريا بالإسم)، والذين برأي هؤلاء البريطانيين يمثلون مصدر إرهاب وعنف وشرّ سيصيب المجتمع البريطاني لأنّ الفكر الديني الذي يحملونه هو فكر راديكالي عنفي دموي يكره الغرب والحضارة الغربية وكل ما هو ليس بمسلم.
قاد هذا الافتراض والتصور المسبق عن طبيعة «إسلام” اللاّجئين والمهاجرين من العالم الإسلامي العربي العديد من البريطانيين، لا بل والبريطانيين المجنّسين من أولئك الذين ينحدرون من نفس الجزء من العالم الإسلامي العربي، إلى التصويت بـ «لا” للبقاء في الاتحاد الأوروبي ودعم خيار الانعزال لغرض حماية الذات وإبعادها قدر الإمكان عن احتمالات العنف والإرهاب التي، برأي هؤلاء البريطانيين، ستأتي إليهم عبر شاطئهم الشرقي.
علينا أن نلاحظ هنا أن الفوبيا البريطانية من الإسلام لم تستيقظ لتدعو لخروج بريطانيا من الفضاء الأوروبي في العقود السابقة وهي لم تجد على الأقل صداً شعبياً مؤيداً لها كما شهدت اليوم بالذات. لماذا لم نشهد تصاعد صوت بريطاني شعبي عارم يدعو لعزل بريطانيا وقطع كل سبل وصول تهديد إسلاموي للمملكة المتحدة في العقود الماضية، حين كانت بريطانيا تستقبل العشرات، بل الآلاف، من المهاجرين المسلمين من العالم العربي، بينهم حتى قادة ودعاة إسلامويون راديكاليون بالعقيدة والفكر بشكل معلن، وكانت تمنحهم اللجوء والجنسية؟ لماذا لم تكن فوبيا الشارع البريطاني وقتها مؤثرة وعالية الصوت كما هي الآن؟ أحد الأسباب برأيي يتمثل في موجة اللجوء العارمة التي بدأت منذ حوالي السنة، حين نزح عشرات آلاف من السوريين والعراقيين (المسلمين بغالبيتهم) بالإضافة إلى المئات من المسلمين العرب من لبنان ومصر وشمال أفريقيا، باسم النزوح السوري الكبير وبذريعته، إلى الأراضي الأوروبية. يجب قراءة تنامي الإسلاموفوبيا البريطانية شعبياً (أو شارعياً) في سياق موجة النزوح المذكورة. المنطق الذي أوقد تلك الإسلاموفوبيا في السيكولوجيا والسوسيولوجيا البريطانية، والذي قاد إلى قرار عزل بريطانيا بهدف حمايتها عن باقي أوروبا، هو المنطق القائل بأن هؤلاء النازحين المسلمين السوريين وغيرهم من العرب هم بطبيعتهم مسلمون راديكاليون عنفيون ميالون لتبني ردود أفعال إرهابية وصدامية مع كل ما هو ليس بمسلم.
بكلمات أخرى، يفترض المخيال البريطاني المذكور بأن «الإسلام” الذي سيصل مع هؤلاء النازحين إلى أوروبا وبريطانيا ما هو إلا إسلام داعشي وأنَّ كل هؤلاء المسلمين لن يندمجوا ولن يصبحوا يوماً جزءا حقيقيا من الفضاء البريطاني الثقافي-التراثي لأنهم لا يتخيلون أنفسهم يعيشون سوى في «دولة دينية إسلاموية صرفة” وهم، بالتّالي، مجرّد أدوات وخزان بشريين ترسلهم الدولة الإسلامية في الشام والعراق إلى بريطانيا للشروع في تأسيس الدولة المزعومة هناك.
لو كان هذا التصور التخيّلي حقيقياً وواقعياً، ولو كنت أنا بريطانياً، لكنت سأصوت ربما لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ولكنت ربما سأعتقد أن عزل بريطانيا عن الشاطئ الأوروبي المجاور هو أحد طرق وقاية البلد من شر حقيقي ومخيف سيصل إليها مع الوافدين الجدد للعالم الأوروبي. وربما يمكننا القول بأنَّ المهاجرين المسلمين والعرب منهم الذين صاروا مسبقاً مواطنين بريطانيين اقتنعوا بتلك الحقيقة (انطلاقاً من تصوّرات مسبقة الصنع يحملونها عن أرضهم الأم ويعتقدون أنها تمثل الحقيقة الفعلية لواقع الإنسان في تلك الأرض) وصوّتوا مع خيار الانسحاب بناء عليها.
أقول إن تصويتي ربما كان سيكون نفس التصويت لو كان هذا الافتراض الذي ذكرته في الأعلى هو الواقع والحقيقة المعرِّفة لماهية الإسلام الذي يحمله هؤلاء النازحون السوريون والعرب معهم ويحضرونه في لجوئهم إلى أوروبا. ولكن، أعتقد أن هذا التصور لماهية «الإسلام” الذي يحمله النازحون واللاجئون معهم إلى أوروبا هو تصور غير دقيق وغير واقعي في الحقيقة. في السطور القليلة الباقية من الورقة، سأبين وجهة نظري حول هذه المسألة.
الخطأ العلمي الحديث عن شيء جامد اسمه «الإسلام” أو «المسيحية” أو «اليهودية” أو أو… هناك إسلامات متعددة ومتنوعة في العالم بتعدد وتنوع المسلمين المنتمين للإسلام والمجسّدين له في كل ما يتعلق بوجودهم وكينونتهم
أعتقد أنه من الخطأ العلمي والتفسيري الحقيقي أن نفترض أن الإنسان يمكنه الحديث عن أيّ ظاهرة دينية بعينها وكأنها كيان موضوعي جامد ككتلة مسمطة واحدة محددة وأحادية يمكن تعريفها بهوية وماهية مطلقة وشمولية، أو أننا يمكن أن نأخذ هذا التعريف ونسقطه بشكل أوتوماتيكي فوقي على أتباع هذه الظاهرة الدينية بصرف النظر عن تعددهم السياقي والتاريخي والثقافي والسوسيولوجي والأنثربولوجي.
بكلمات أخرى، من الخطأ العلمي الحديث عن شيء جامد اسمه «الإسلام” أو «المسيحية” أو «اليهودية” أو أو… هناك إسلامات متعددة ومتنوعة في العالم بتعدد وتنوع المسلمين المنتمين للإسلام والمجسّدين له في كل ما يتعلق بوجودهم وكينونتهم. انطلاقا من هذا، نستطيع بشكل موضوعي وتحليلي موثوق وصحيح أن نتحدث عن «إسلام غربي” أو حتى «إسلام أوروبي” و”إسلام أميركي” بقدر حديثنا عن «إسلام عربي” و”إسلام آسيوي” و”إسلام أفريقي”. وطبعاً يمكن للمرء أن يمضي أبعد من هذا في تقصّي جوانب السياقية والتنوع للحديث عن «إسلام فرنسي” و”إسلام ألماني” و”إسلام بريطاني” وسواها، مثلما نستطيع الحديث عن «إسلام سوري” و”إسلام عراقي” و”إسلام مصري” و”إسلام خليجي”… الخ.
ما أريد الإشارة إليه هنا هو أنَّ الساحة العامة الشعبية الأوروبية مازالت (تأثراً بمخيال معرفي استشراقي يقسّم العالم إلى غرب مسيحي وشرق مسلم ويخترع حواجز صلدة بين التراثات الدينية واستطالاتها الحضارية وكأن كلا منها نشأ وتداعى وفق سيرورات منفصلة ومنغلقة على ذاتها) تتحدث عن «إسلام عربي”، «إسلام آسيوي”، «إسلام أفريقي”، أو تتحدث عن «المسلمون في أوروبا” أو «المسلمون في أميركا” أو «المسلمون في بريطانيا، ” ولكنها لا تتحدث عن، أو لا تريد أن تعترف بوجود، «إسلام أوروبي” و”إسلام أميركي” و”إسلام بريطاني”.
أنا لا أتحدث فقط عن المواطنين الأوروبيين أو الأميركيين أو البريطانيين الذين يعتنقون الإسلام كدين، أنا أتحدث هنا عن فكر وفهم إسلاميين للذات وللعالم (ما يسمى بالألمانية (Weltanschauung) وبالإنكليزية (worldview)) نشآ ونميا في قلب العالم الأوروبي والبريطاني والأميركي. أتحدث عن «إسلام” بنى ماهيته الفكرية واللاهوتية والوجودية وصفاته الروحانية والدوغمائية والسلوكية في قلب العالم «غير الإسلامي”، بل و”غير العربي”. أتحدث عن «إسلام أوروبي” مثلما نتحدث عن «مسيحية أوروبية” أو «مسيحية أميركية” أو «مسيحية بريطانية”.
هناك في العالم اليوم إسلامات لا علاقة لها بالإرث العربي ولا بالمخيال الفكري والمعرفي والكينوني الوجودي العربي أو الآسيوي أو الأفريقي، أو حتى ذاك الذي يمكن تقصي آثاره في البلاد الإسلامية تاريخياً ومجتمعياً ودولتياً وتراثاً. تلك الإسلامات هي إسلامات نشأت وتكونت وتتواجد في الفضاء الأوروبي والأميركي والبريطاني وينتمي لها أبناء الجيل الثاني والثالث والرابع والحالي للمسلمين عموماً، والمسلمين العرب خصوصاً، الذين ولدوا وتربّوا في مجتمعات المهجر ولا ينتمون، وبل وربما لا يعرفون حقاً، ما معنى أن تكون أيّ شيء سوى «مسلم أوروبي” أو «مسلم بريطاني” أو «مسلم أميركي”.
ينتمي لنفس الإسلام أيضاً كثير من الجيل المعاصر الذي يعود في أصوله الإثنية والعرقية والأسرية والجغرافية والحضارية لأوروبا وأميركا وبريطانيا المحلية لغير المهاجرين. المشكلة أنَّ الغرب الأوروبي والبريطاني مازالا حتى هذه اللحظة غير مستعدين للإقرار بوجود شيء اسمه «إسلام بريطاني” أو «إسلام أوروبي”. بل يريدون فقط أن يعترفوا ببريطانية هؤلاء المسلمين وأوروبيتهم من حيث الجنسية والمواطنة والحقوق المدنية والدستورية فقط. ولكن، أوروبا وبريطانيا يجب أن تدركا أنهما باتتا في جزء من ماهيتهما «مسلمتين” أيضاً (لنتذكر أن الجزء الشرقي من أوروبا كان ولقرون عديدة «مسلماً” في أحد أوجه ماهيته).
لوحة: سعاد مردم بيك
لماذا أشير إلى حقيقة وجود هكذا إسلام في أوروبا وبريطانيا؟ لأنني أودّ الإشارة إلى حقيقة يحلو للعديد من المراقبين التعامي عنها حين ينظرون لظاهرة العنف والإرهاب المقترنين بالإسلاموية في العالم، ألا وهو أنَّ الإسلام المتمثل بداعش، الذي يرتعب منه البريطانيون ويريدون منع اللاجئين من دخول بلدهم لتجنبه، هو في الحقيقة ليس «إسلاما سوريا” أو”إسلاما عربيا” أو حتى «إسلاما شرق أوسطي” في الواقع والماهية التي تُعرِّف أتباعه. كل المعطيات التي لدينا تقول إنَّ الغالبية العظمى والساحقة من أفراد داعش ليسوا من السوريين وأنَّ القسم الأكبر منهم هم مسلمون من دول أوروبا ومن أميركا وبريطانيا (ناهيك عن أفراد من دول أخرى). أي أن ما يمثله هؤلاء هو ما يمكن وصفه في الواقع «إسلام أوروبي” أو «إسلام بريطاني” أو «إسلام أميركي”.
من يجب أن يخاف من هكذا إسلام هم السوريون والعرب في الواقع، فأوروبا وأميركا وبريطانيا هي من أرسلت مثل هكذا مسلمين من أبنائها ليدمروا سوريا والمشرق باسم «إسلام أوروبي” و”إسلام بريطاني” لم يخلقه السوريون والعرب اللاجئون بل هم الضحايا الأول له وهو سبب نزوحهم ولجوئهم في الدرجة الأولى، لأنَّ السوريين المسلمين يخافون من هذا الإسلام الأوروبي-البريطاني الذي يحمله لهم أتباع داعش الغربيون معهم إلى أرضهم الأمّ، ولأنه لا يشبه إسلامهم أبداً قامت داعش وأمثالها بذبح عشرات الألوف من المسلمين العرب السنة في سوريا والعراق ومناطق أخرى فقط لأنَّ داعش وأمثاله لا يعتبرون هؤلاء «مسلمين” في الواقع. الإسلام السوري لا يشبه أبداً إسلام داعش ولا يتماهى معه ولا يؤمن به. تقول لي سنوات عيشي وعملي العديدة في العالم الأكاديمي والجامعي الغربي في أوروبا وأميركا أن راديكاليين مسلمين من التراث الإسلامي أمثال ابن تيمية وابن قيم الجوزية والفكر السلفي والوهابي مقرؤون ومدروسون ويحظون باهتمام المسلمين الأوروبيين والغربيين والبريطانيين أكثر بكثير من أيّ اهتمام يمكن أن يحظوا به في أوساط المسلمين السوريين أو العرب (عدا الخليج ربما). وتقول لي علاقتي بمسلمين كثر في الغرب بأنَّ إسلامهم أكثر راديكالية وأصولية بما يتعلق بالسلوك والقيم الأخلاقية والنظرة لغير المسلمين بما لا يقاس مقارنة بنفس الأمور في إسلام السوريين أو المشرقيين العرب.
ما أودّ الخلوص إليه من خلال التحليل المختصر في الأعلى هو أن قرار الشعب البريطاني بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي بغرض حماية بريطانيا من إسلام اللاجئين والنازحين السوريين العربي، الذي يعتقد هذا الجزء من الشعب البريطاني بأنه داعشي، هو قرار مبنيّ على فهم خاطئ لطبيعة الإسلام الذي يحمله هؤلاء النازحون، وعلى إنكار لوجود «إسلام أوروبي” و”إسلام بريطاني” أصوليين وراديكاليين، على حد سواء.
إن كان على طرف ما أن يخاف الإسلام الداعشي فهو الطرف الذي عانى وتعرّض للقتل والموت، ومازال، على يد أولئك المجاهدين الأوروبيين والبريطانيين والأميركيين الذين يحملون معهم إلى أرض الجهاد السورية «إسلاماً” نشأ وترعرع وتكوَّن في أوروبا وبريطانيا. إن أراد البريطانيون حماية أنفسهم من إسلام داعش، عليهم أن يتعاملوا مع إسلام نشأ وترعرع وكوَّن هويته في قلب بريطانيا ذاتها. عليهم أن يتعاملوا مع «الإسلام البريطاني” الذي لا تتحمل لا أوروبا ولا السوريون ولا أيّ مهاجر مسلم يدخل اليوم للبلد مسؤولية وجوده أصلاً وترعرعه في الشارع البريطاني قبل بدء موجة النزوح الكبرى وقبل حتى ظهور داعش على الساحة المشرقية والعالمية.
في الختام، يدفع العالم اليوم برمّته، بما فيه العالم الغربي، الثمن الباهظ لنوع أو تمظهر من تمظهرات الإسلام التي نشأت وترعرعت وشكّلت ماهيتها لا في الحيز الجغرافي العربي أو الإسلامي التقليديين، بل في قلب أوروبا وبريطانيا وأميركا. الإسلام الغربي الأوروبي-البريطاني هو من يجب أن يتعامل مع إسلام إرهابي راديكالي أو سلفي-وهابي على شاكلة داعش وأمثاله، وليس الإسلام العربي السوري أو المشرقي بالدرجة الأولى.
هل سيعترف العالم الغربي يوماً بأنه بات يحمل في بنيته إسلاماً جديداً قائما بذاته وأنه ليس فقط مجرد بلدان مهجر لمسلمين جاؤوا بإسلامهم من خارجه؟ وإن اعترف الغرب يوماً بهذا العنصر الجديد الذي بات مكوناً لبنيته، كيف سيتعامل مع الإسلام على أنه ظاهرة أوروبية وأميركية وبريطانية أيضاً؟ هذا هو التساؤل المحوري الذي يجب أن يواجهه العالم ويجيب عليه في القرن الحادي والعشرين.