الصراع الهوياتي
أتناول في هذا المقال قضية الهوية في مجتمعاتنا. سأشرع أولا بتقديم تمهيد نظري أعتبره ضروريا لأن التنظير للهوية في الفكر العربي المعاصر نادر فعلا، حيث أن أغلب ما يدعى بالمشاريع الفكرية النقدية العربية الكبرى تتجنب هذا البعد النظري. أذكر هنا على سبيل المثال مشاريع كلّ من أدونيس في كتابه “الثابت والمتحول” الذي يركز تركيزا انتقائيا على ما أدعوه بالأنساق “الحضرية العليا ” للسياسة والأيديولوجيا والثقافية العربية الاسلامية معتبرا إياها، بدون وعي أو بوعي منه، البنية الفوقية المركزية التي تنهض عليها، وتتشكل منها الهوية وهو بذلك يقصي ما أدعوه بالبنية الشعورية الثقافية الشعبية التي تعد ناظما أساسيا آخر للهوية بما في ذلك الجانب اللاواعي من هذا البنية.
هناك أيضا مشروع محمد أركون في نقده للفكر الإسلامي الذي حاول فيه تحليل المخيال الديني الإسلامي باعتباره بعد ثقافيا فكريا وذلك قصد نزع الأسطورة والخرافة عنه، ولكنه لم يدرس أيضا كيف تحول هذا المخيال الديني الأسطوري والخرافي إلى بنية ثقافية شعبية من جهة، وإلى نظام حكم من جهة أخرى. ثم هناك مشروع محمد عابد الجابري الذي انتهى فيه إلى تحديد للهوية في مجتمعاتنا على أساس أرضية قومية عربية من جهة، وإلى حكم قيمة ذي طبيعة اختزالية خاصة عندما يتمسك بفرضية يحوّلها إلى قناعة تظهر في زعمه أن هذه الهوية تنهض على وتتشكل من عناصر ما يسميه بالثقافة العالمة وبهذا نجده متشابها في النتائج الاختزالية مع أدونيس، فهما يهملان معا ثقافات الإثنيات والأعراق من المحيط إلى الخليج باعتبارها مكونا أساسيا للهوية المركبة على المستويات الوطنية وعلى المستوى العربي الإسلامي في منطقتنا الممتدة من المحيط إلى الخليج.
لا بد من ذكر مشروع مهم آخر وهو مشروع علي زيعور الذي يتميز بتوظيفه للتحليل النفسي لقراءة تضاريس اللاوعي الأسطوري والخرافي في الثقافة العربية الإسلامية وركيزتها الدينية وعلاقة كل ذلك بإنتاج الهوية الخرافية والأسطورية، غير أن مساهمة زيعور، على أهميتها، تركز بدورها على جزء من الوعي واللاوعي الثقافي والديني، ولا تشمل أجزاء أخرى مثل مكونات الهوية كالفنون ومنها المعمار، والأغنية، والأجناس الأدبية وغيرها. في هذا السياق نجد المشروع النقدي عند حسين مروة ينصبّ على التحليل الماركسي للعناصر الثقافية والدينية والمادية المكوّنة لهوية الثقافة العربية الإسلامية في منطقتنا، ولكنه يكرر بدوره المنظور الذي يهمّش مختلف أشكال ومضامين التعبير الشعبي التي لا يمكن دون تحليلها إدراك كيف تكونت ولا تزال تتكون الهوية في مجتمعاتنا. وأكثر من كل ما تقدم فإنه من الضروري الإشارة إلى أن هذه المشاريع لا تقدم لنا نظرية تقودنا إلى فهم كيف تتشكل الذاتية وطبقاتها الواعية واللاواعية معا باعتبار الذاتية، سواء كانت ذات محمول ديني، أو ثقافي، هي الطريق الملكي نحو إدراك مكونات الهوية وأزمات نموها وتطورها وانفتاحها على الهويات الأخرى.
لا شك أنه ينبغي دراسة تصورات هذه المشاريع للهوية ولكنني في هذا المقال سأركز فقط على ثلاث مسائل تبدو للوهلة الأولى غير مترابطة أو غير متبادلة التأثير، ولكن لا يمكن، في تقديرنا، فهم إحداها دون فهم الأخريين والعكس صحيح أيضا. من الملاحظ هو أن المناقشات الساخنة الدائرة حول الهوية في المشهد الفكري والثقافي والسياسي في بلداننا تدور حول عنقود من الثنائيات مثل ثنائيات الدولة الوطنية/الدولة القومية الكبرى، الدين/العلمانية، الدين/الدنيوية، الذكورة/الأنوثة، الديمقراطية/الدكتاتورية، الأصالة/المعاصرة، “النحن”/”الهم”، والأنا والآخر، وغيرها من الثنائيات.
من الملاحظ أيضا هو أنه ينظر إليها إما أنها منعزلة عن بعضها وتقوم على التوازي وليس التناص أو الهجنة، أو أنها متضادة متصارعة. إن هذا الفهم الأخير قد أدى ولا يزال يؤدي في الغالب إلى انفجار الاختلاف، وإلى التنافر في وجهات النظر وفي المواقف على مستوى التنظير الفكري المحض، وإلى التشرذم والتناقض على المستوى الأيديولوجي، وإلى الصدام العنيف على مستوى الممارسة التطبيقية للأفكار والمعتقدات المتناقضة ذات الصلة بالهوية في الفضاء الممتد من المحيط إلى الخليج في نهايات القرن الواحد والعشرين إلى يومنا هذا.
الأدهى والأمرّ هو أن المناقشات الدائرة منذ سنين طويلة حول الهوية ما فتئت تعلك قضايا يغلب عليها التجريد حينا والسقوط في فخَ الاستعادة المطلقة للماضي واعتبارها النموذج المطلق حينا
تتمثل المسألة الأولى التي سأناقشها في الملابسات المحيطة بمفهوم الهوية ذاته. وبالفعل فإن مفهوم الهوية يحتاج إلى التحليل لأن الفهم الخاطئ للمفاهيم يؤدي إلى نتائج وخيمة في أي مجتمع. رغم أن هناك فهما نظريا للهوية عندنا ينطلق من منطلق أنها ظاهرة ثقافية واجتماعية وحضارية، وأنها نتاج التفاعل، والتأثر التاريخيين، ويقف التيار الذي يعتنق هذا الفهم على تنوع المنظورات بداخله في خندق المقاومة ضد الفهم النظري السائد والمهيمن بشكل قويّ للهوية لدى أبرز التيارات الفكرية والسياسية عندنا والتي تتمسك بالاعتقاد بأنها ماهية ثابتة معطاة قبليا ولها جوهر متطابق مع نفسه، وأن هذا الجوهر يبقى قائما خارج سياج التحولات التاريخية، ويظل ثابتا مهما تغيرت الظروف حوله. أما المسألة الثانية التي سأنظر فيها فتتلخص في الإجابة على هذا السؤال: ما هي وجهة نظر التيارات الفاعلة في بلداننا بخصوص مسألة الهوية في مجتمعاتنا؟ وما هو وجه الاختلاف أو الاتفاق في ما بينها؟
أبدأ الآن في النظر في مفهوم الهوية كمدخل أوّلي وعلى ضوئه سأقوم بتحليل ومناقشة أطروحات عدد من التيارات الفكرية العربية مع تسجيل إشارات سريعة لبعض ممثّليها في الفكر العربي، ومن ثم سأستعرض التجربة الجزائرية باعتبار الهوية فيها تختزل غالبا في المسألة اللغوية مع العلم أن عناصر أخرى من أزمة الهوية الوطنية الجزائرية العميقة، مثل حسم هوية الانتماء، وهوية الخيار السياسي، والأيديولوجي تهمّش كلها دائما ولا يفتح الحوار حولها.
في دراسته المهمة “حول مسألة الهوية الثقافية ” يميز المفكر البريطاني الجنسية والجامايكي الأصول ستيوارت هول بين ثلاثة مفاهيم مختلفة للهوية في الفكر الغربي، ويتمثل الأول في مفهوم الذاتية في عصر التنوير الأوروبي/الغربي، أما الثاني فيدعوه بالمفهوم السوسيولوجي للذاتية، أما الثالث فيسميه بالمفهوم ما بعد الحداثي للذاتية. إنه يمكن لنا هنا أن نغيّر فقط الصيغة شكليا ونقول بأنه بقدرتنا تحديد عدد كبير من مفاهيم الهوية في الفكر العربي الإسلامي وهي على سبيل المثال: المفهوم القبلي، والإثني، والمفهوم الاجتماعي والسياسي، والمفهوم الديني وما يشتق منه من الطائفية والمذهبية وهلم جرا. ويبدو أن الذات وفقا لعصر التنوير الغربي تحاط بسياج دوغماطي حيث ينظر إليها أنها ذكورية غالبا، وأنها واعية، وعاقلة، وفاعلة، ومتمركزة ذاتيا، وأنها تبقى محصّنة كما هي مهما حدث لها. ويرى ستيوارت هول أن الذات السوسيولوجية تتميز بأنها غير مستقلة، أو مكتفية بنفسها، بل فإنها تتشكل على أساس “العلاقة مع الآخرين”، و”القيم، والمعاني الرمزية (الثقافات) التي تتوسط علاقة هذه الذات بالعالم”. ويعني هذا في تقديره أن الهوية، سواء كانت فردية أو جماعية، هي إفراز للتفاعل. وفي الحقيقة فإن تقدم الفكر قد أدى إلى فهم مختلف للهوية حيث أصبحت تفهم على أنها منقسمة، ومتحولة، وأنها مكونة من الوعي واللاوعي. ومن هنا قد صرنا ندرك، وخاصة مع فتوحات التحليل النفسي، أن ما نسميه بالثقافة له جانب لا نعيه رغم أنه موجود بداخلنا، ويحرك مواقفنا، وسلوكنا وكثيرا ما يتحكم في رؤيتنا للأشياء في هذا العالم. وفي هذا السياق نجد المحلل النفسي المصري البارز مصطفى صفوان يؤكد بحصافة، في الكتاب الذي ألفه بمعية المحلل النفسي اللبناني حب الله وعنوانه “مشكلات المجتمع العربي”، أن بنية الهوية الفردية والجماعية للإنسان العربي، وبالتالي للثقافة العربية لا تزال تشكلها بقايا النزعات القبلية، والطائفية التي تعتبر الناظم الثقافي المهيمن الذي لا نعيه في الغالب. وبمعنى آخر فإن الثقافة العربية لم تتخلّص بعد من هيمنة التراث القبلي، والطائفي الذي يحدد بنية الهوية، وتداعياتها في السياسة وفي العلاقات الاجتماعية علما أن هذه الظاهرة تتكرر نمطيا دون وعي منَا في كثير من الأحيان.
على ضوء هذا أرى أن محمود أمين العالم محقّ في قوله بأن علاقتنا بتراثنا ملتبسة وجدّ معقدة لأنه هو الذي يصنعنا في غفلة منَا. ولاشك أن النظرية التي تقول بأن الهوية قيد الصنع دائما يمكن أن تفيدنا في اختراق سياج الهويات الثابتة، والمتمركزة ذاتيا، والنافية للآخر، ولكن ينبغي أيضا أن نحذر من تلك المزاعم التي تردّد أن الهوية مجرد وهم، أو أنها مصنوعة لنا مسبقا ممّا ينفي في آخر المطاف قدرة الإنسان على ممارسة الفاعلية، وإقامة المسافة النقدية مع الثقافة التي يتحرك داخل تقاليدها، ومختلف أشكال سجلّها الرمزي. يبدو لي أن منطق الجبرية المفروض على مفهوم الهوية نظريا وإجرائيا في مجتمعاتنا من المحيط إلى الخليج هو الذي يكرّس ظاهرة الصراع أو الاقتتال الطائفي والقبلي والإثني، والفهم القاصر لمنطق تحوّل وتطوّر الهويات في التاريخ. وفي الواقع فإن هذه الظاهرة هي نتيجة لغياب الفاعلية والواقعية لدى التيارات السياسية والفكرية عندنا على المستوى الميداني والنظري، ونقصد هنا دوران مختلف التيارات وتنوعها، والتي تلبس لبوس العلمانية المتطرفة، أو لدى تلك التي تتخذ الدين أيديولوجية أصولية مغلقة، أو عند تلك الشرائح المتواجدة في دوائر صنع القرارات والتي تعرقل رسم وتفعيل مشروع واقعي منبثق من الطاقات التي يتوفر لديها الاندفاع الحيوي في مجتمعاتنا من أجل ربح رهان النهضة العلمية والثقافية والفكرية والفنية والاقتصادية التي تطمح الشرائح الشعبية المحرومة أن تتحقق في حياتها اليومية. والأدهى والأمرّ هو أن المناقشات الدائرة منذ سنين طويلة حول الهوية ما فتئت تعلك قضايا يغلب عليها التجريد حينا والسقوط في فخَ الاستعادة المطلقة للماضي واعتبارها النموذج المطلق حينا آخر حيث انحصرت هذه المناقشات في النبش في التراث من منظور تقديسه، وفي المعاصرة التي تربط باستمرار بما تم إنجازه في العالم الغربي من تحديث وتطور للنظم السياسية، والفكر، والتصنيع ومختلف الإنجازات.
من الواضح أن رؤية هذه التيارات للتراث تخلو في الغالب من الروح النقدية خاصة وأنها تعتبر متونه الصفراء المكتوبة والمكفّنة في الأرشيف أرض الميعاد المقدسة، وفي الوقت نفسه تعتبر المعاصرة صنما مستوردا من الغرب وليست جزءا من عناصر التراث ذاته. لا شك أن محوري التراث والمعاصرة هما أكثر المحاور التي استقطبت عندنا المثقفين والمفكرين والسياسيين بمختلف مللهم ونحلهم، وفي هذا السياق ذاته فقد نُظر ولا يزال يُنظر إلى التراث العربي الإسلامي، وإلى تراث الأقليات الإثنية والعرقية المختلفة في فضائنا الجغرافي الممتد من المحيط إلى الخليج على أنهما ثنائيتان متصارعتان ومتناحرتان وليس كظاهرتين نابعتين من تجاربنا التاريخية والحضارية وكمكوّنين لهويات مواطنينا ومواطناتنا التي باتت في وضع قلق وهي تبحث لنفسها عن مرفأ الأمان. المشكلة الأولى التي واجهت ولا تزال تواجه ما يدعى بالأنتلجنسيا المفكرة في بلداننا – والتي هي عبارة عن نخب من الدارسين والباحثين المشتتين، ومن أصحاب المواقع السياسية في داخل السلطة أو في المعارضة – تتمثل في غياب أطر ومؤسسات حرة ومستقلة تجمعهم من جهة، وفي تعدد مشاربهم الأيديولوجية التي تسيطر عليها النزعات القبلية أو الطائفية، أو الإثنية، أو العرقية الانفصالية، أو الجهوية المغرقة في الشللية.
بناء أسس أيّ تركيبة لا يتم ميكانيكيا أو بمجرّد رغبة، بل فإنها مشروطة بالحاجة التاريخية، وكثيرا ما يرافقها إسقاط عناصر من الموروث والتخلّي عنها عندما تكون غير قادرة أن تتلاءم مع بنية التركيبة الجديدة
إنه يمكن لنا أن نصنف أربعة تيارات أساسية بارزة في مشهد النقاش حول الهوية وقضايا التراث والمعاصرة في بلداننا، إذ هناك التيار التراثي الأصولي المتطرف الذي ما فتئ ينادي بأنّ هويتنا موجودة في الماضي البعيد، وأن ما يحث لنا من ضياع لا يمكن أن نتخلص منه إلا بالعودة المطلقة إلى ذلك التراث التاريخي الموغل في الماضي سواء كان هذا التراث مؤسسا على المعطى الديني أو العرقي، أو الإثني. إنه جراء هذا التطرف في الموقف من التراث ظهرت فكرة الوصاية الاستحواذية على هذا النمط من هذا التراث أو ذاك وبسبب ذلك فقد تفرّق المتصارعون إلى ملل ونتيجة لذلك حوّلوا التراث نفسه إلى حلبة صراع، واقتتال مادي أو سياسي بدلا من التعامل معه كإرث يحق للجميع أن ينهل من عناصره الحية والمستنيرة. ولقد برز ضمن هذا التيار فريق آخر يرى أن الدولة الدينية هي الضمانة الوحيدة التي تضمن تحقيق العدالة في المجتمع وترسيخ الأصالة فيه، وتجنّب شتى أشكال الاغتراب والسقوط في تقليد حداثة الغرب التي تنعت بالملحدة. إن هذا الاتجاه الإسلامي المتطرف يؤكد أنه من السخافة الفصل بين الفكر الغربي وإنجازاته وبين تجاوزات الرأسمالية وهيمنتها وسيطرتها على مقدّرات الشعوب الإسلامية وشعوب العالم الثالث بشكل عام. ولكن يلاحظ أيضا أن هذا الفريق يندمج فور وصوله إلى السلطة في اللعبة الرأسمالية الغربية، والدليل واضح في عدة تجارب مثل التجربة القصيرة للإخوان المسلمين في مصر الذين لم يقطعوا مع الرأسمالية فور وصولهم إلى الحكم. أما التيار الأصولي الثاني فأجده متمثّلا في تلك الدعوات إلى الماضي السابق للمرحلة الإسلامية الذي يرفض قطعيا أطروحات العروبة، وكذلك الكونية الإسلامية. إنَ أيديولوجيا هذا التيار تهدف إلى استعادة الهويات الثقافية والتاريخية مثل الفرعونية والأمازيغية والمارونية، والفينيقية والكردية.. الخ، وينظر إليها كمقوم وحيد لأصالتها وفرادتها، وهكذا نرى هذا التيار يعيد إنتاج مفهوم الهوية الجاهزة والثابتة، ويكرّر منطق نفي التناص مع الهويات الأخرى، ويذهب بعيدا أحيانا في اعتبار حتى تجاور الهويات خطرا محدقا على وجوده ووجود أتباعه. إن هذا الاتجاه يحاجج في مرافعاته السياسية والثقافية أن الدولة- الأمة لا يمكن أن تقوم لها قائمة دون تثبيت الأصول العرقية أو الإثنية. والحال، فإن النظرة الموضوعية لهذا النمط من الطرح تستدعي القول بأن الفرعونية والأمازيغية والفينيقية ليست في حد ذاتها عناصر خارج بنيان الهويات الوطنية، بل هي جزء منها، علما أن نزعة تجاهل حقائق الهجنة كواقع تاريخي وثقافي ودموي، وحقيقة التأثر المتبادل عبر مسار التاريخ الطويل هي نزعة تتنكر لأبسط المعارف والحقائق العلمية والأنثروبولوجية.
إن بلداننا محكومة تاريخيا وتنوعا بشريا ولغويا بضرورة القبول بالهوية المركبة المتطورة والمفتوحة على الإضافات. وفي الحقيقة فإن الحنين إلى الصفاء العرقي أيديولوجية غير مبررة تاريخيا وعلميا، وهي تتنافر مع طبيعة الثقافة نفسها التي تتميز بأنها تنشد التلاقح، والتناص، والتنوع لكي تضمن التطور والبقاء. لا شك أن مبررات هذا التيار وقوّته على الاستقطاب تعودان إلى عدم وجود الديمقراطية الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية والثقافية ببلداننا التي تعترف بالتنوع الثقافي واللغوي الأهلي، وبحقوق المواطنة حيث يحوّل من يطالب بالاعتراف بلغته وثقافته إما إلى عدوَ انعزالي أو يدفع به ليصبح شهيد اللغة والثقافة.
ومقابل هذا التيار نجد تيارا آخر يحدد الحلول لمجتمعاتنا في إجراء عمليات توفيقية للعمل على صياغة تركيبية تصالح بين القيم التنويرية للحضارة الإسلامية وبين معطيات المدنية والحضارية الغربية مع التشديد على الإيجابي منها. وبطبيعة الحال، فإن أطروحات هذا التيار تتميز بالتبسيط وبكثير من السذاجة، حيث أن بناء أسس أيّ تركيبة لا يتم ميكانيكيا أو بمجرّد رغبة، بل فإنها مشروطة بالحاجة التاريخية، وكثيرا ما يرافقها إسقاط عناصر من الموروث والتخلّي عنها عندما تكون غير قادرة أن تتلاءم مع بنية التركيبة الجديدة. إن المنطلق البراغماتي يلفّ منطق هذا التيار، حيث تقول البديهيات بأن استيراد التكنولوجيا الغريبة لا يمكن أن يكون عملية معزولة معايير وآثارا عن القيم والآليات الثقافية التي أنتجتها وتنتجها. و أكثر من ذلك فإن استيراد التكنولوجيا الغربية ليست عملية محايدة، بل إنها تفرض تغييرات في النفسية وفي العلاقات وفي أسلوب العيش، وكذلك فإنها تخلق تغييرات وتحويلات في أسلوب الإنتاج وعلاقات الإنتاج، أي أنها تخلق تغييرات في الوعي والبنية الثقافية.
ويمكن القول بأن هذه التيارات التي تعرضنا بإيجاز لأفكارها وتوجهاتها تساعد فقط على ترسيخ الأزمة وتكرّس النقاش داخلها ووفقا لمنطقها الهووي المغلق أكثر مما تعمل خارجها من أجل تجاوزها بعد فهم واستيعاب وإدراك إشكالية بنية الأزمة نفسها. وهكذا لا نفاجأ من أولئك الذين يقولون بأن الفكر العربي السائد عندنا كما هو في وضعه الحالي يتميز أنه إما هو صدى للأزمة، أو هو جزء منها، أو أنه فكر يسيّرها ولا يبحث عن البدائل التي تؤدي إلى الخروج منها.