‬تحطيم‭ ‬الأبواب

الثلاثاء 2016/03/01
لوحة: أسعد فرزات

لقد‭ ‬كان‭ ‬قدر‭ ‬الثورة‭ ‬التونسية‭ ‬أن‭ ‬تشتعل‭ ‬من‭ ‬جسد‭ ‬بائع‭ ‬الخضار‭ ‬محمد‭ ‬البوعزيزي‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬فكر‭ ‬المثقف‭ ‬النخبوي‭. ‬الجسد‭ ‬الذي‭ ‬التهب‭ ‬قهرا‭ ‬وجوعا‭ ‬وظلما‭ ‬والذي‭ ‬أصبح‭ ‬رمزا‭ ‬لأجساد‭ ‬أخرى‭ ‬أضرمت‭ ‬في‭ ‬نفسها‭ ‬النار‭ ‬لذات‭ ‬الأسباب‭ ‬وأكثر‭ ‬ليكونوا‭ ‬الشاهد‭ ‬الأبدي‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الثورة‭ ‬هي‭ ‬ثورة‭ ‬رجل‭ ‬الشارع‭ ‬وثورة‭ ‬الشعب‭ ‬وثورة‭ ‬الشباب…‭ ‬في‭ ‬أسبابها‭ ‬المباشرة‭ ‬وليست‭ ‬ثورة‭ ‬النخب‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬مشاربها‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬أحزاب‭ ‬سياسية‭ ‬كرتونية‭ ‬دجّنها‭ ‬النظام‭ ‬السابق‭ ‬واحتواها‭. ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬ثورة‭ ‬المثقف‭ ‬المستقيل‭ ‬من‭ ‬زمان‭ ‬أو‭ ‬المستكين‭ ‬إلى‭ ‬قدره‭ ‬أو‭ ‬العائش‭ ‬على‭ ‬فتات‭ ‬موائد‭ ‬السلطان‭.‬

بل لقد‭ ‬ساعد‭ ‬غياب‭ ‬المثقف‭ ‬واستقالته‭ ‬من‭ ‬معترك‭ ‬الحياة‭ ‬وانهزامه‭ ‬أمام‭ ‬السياسي‭ ‬على‭ ‬تأخر‭ ‬هذه‭ ‬الصحوة‭ ‬الشعبية‭ ‬التي‭ ‬اندلعت‭ ‬من‭ ‬الشارع‭. ‬إذ‭ ‬أننا‭ ‬كنا‭ ‬نعيش‭ ‬عصر‭ ‬سلطة‭ ‬السيف‭ ‬وليس‭ ‬سلطة‭ ‬القلم،‭ ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬تعبير‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭.‬

على‭ ‬أن‭ ‬ردّة‭ ‬فعل‭ ‬النخب‭ ‬السياسية‭ ‬والثقافية‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬طرفي‭ ‬نقيض‭ ‬من‭ ‬ثورة‭ ‬الشارع‭ ‬فبينما‭ ‬انقض‭ ‬السياسي‭ ‬على‭ ‬الحدث‭ ‬وسرق‭ ‬الثورة‭ ‬ونسبها‭ ‬إلى‭ ‬نفسه‭ ‬واحتل‭ ‬المناصب‭ ‬واستولى‭ ‬على‭ ‬مطبخ‭ ‬صنع‭ ‬القرار‭ ‬واعتلت‭ ‬حركة‭ ‬النهضة‭ ‬الحكم‭: ‬حزب‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬سابقا‭.‬

في‭ ‬حين‭ ‬بقي‭ ‬المثقف‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬الصدمة‭ ‬على‭ ‬هامش‭ ‬الثورة‭ ‬التي‭ ‬ركلته‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنه‭ ‬يدّعي‭ ‬دور‭ ‬الريادة‭ ‬الشعبوية‭. ‬وتحت‭ ‬وقع‭ ‬الصفعة‭ ‬التي‭ ‬علّمته‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬تفعله‭ ‬عربة‭ ‬خضار‭ ‬تعجز‭ ‬عنه‭ ‬أحيانا‭ ‬الخطب‭ ‬والمنابر‭.. ‬وبقي‭ ‬زمنا‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬الدهشة‭ ‬التي‭ ‬أيقظته‭ ‬من‭ ‬سباته‭ ‬ولا‭ ‬أقصد‭ ‬بالدهشة‭ ‬الحيرة‭ ‬الفلسفية‭ ‬كما‭ ‬قصدها‭ ‬“هايدجر”‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭.‬

وعندما‭ ‬أفاق‭ ‬بدأت‭ ‬زمرة‭ ‬منه‭ ‬لكي‭ ‬لا‭ ‬نعمّم‭ ‬بتصفية‭ ‬حساباتها‭ ‬الصغيرة،‭ ‬متقيّئة‭ ‬أحقادها‭ ‬الدفينة‭.. ‬وأخرى‭ ‬تريد‭ ‬سرقة‭ ‬هذه‭ ‬الثورة‭ ‬ونسبتها‭ ‬إلى‭ ‬نفسها‭ ‬أسوة‭ ‬بالسياسي،‭ ‬في‭ ‬تمثيل‭ ‬مواقف‭ ‬نضالية،‭ ‬بطولية،‭ ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬أنها‭ ‬تكهنت‭ ‬بالثورة‭ ‬قبل‭ ‬وقوعها،‭ ‬ومنذ‭ ‬عشرات‭ ‬السنين،‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬بائسة‭ ‬للاستحواذ‭ ‬على‭ ‬مواقع‭ ‬الريادة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الثورة‭ ‬الشعبية‭ ‬الشبابية‭. ‬وأخرى‭ ‬كانت‭ ‬أكثر‭ ‬تواضعا‭ ‬حيث‭ ‬انحنت‭ ‬إلى‭ ‬الشارع‭ ‬الذي‭ ‬حرّرها‭ ‬من‭ ‬خوفها‭ ‬وأطلق‭ ‬لسانها‭ ‬من‭ ‬عقاله‭.‬

‮ ‬ثقافة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الثورة

‮ ‬وعموما‭ ‬فقد‭ ‬ظهر‭ ‬بعد‭ ‬الثورة‭ ‬تياران مختلفان‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬التونسية لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يلتقيا‭ ‬أبدا‭ ‬هما‭: ‬تيار‭ ‬الحداثة،‭ ‬سليل‭ ‬حركات‭ ‬الإصلاح‭ ‬التونسية،‭ ‬الذي‭ ‬ينادي‭ ‬بمبادئ‭ ‬الحريات‭ ‬والديمقراطية‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان‭.. ‬وتيار‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬بدا‭ ‬في‭ ‬محاولة‮ ‬‭ ‬فرض‭ ‬سلوك‭ ‬ثقافي‭ ‬غريب‭ ‬عن‭ ‬المجتمع‭ ‬التونسي‭ ‬ومحاولة‭ ‬هيمنة‭ ‬أفكاره‭ ‬بالقوة‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تولى‭ ‬الإسلاميون‭ ‬مقاليد‭ ‬الحكم‭.. ‬ويطرح‭ ‬مفاهيم‭ ‬ثقافية‭ ‬جديدة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تثار‭ ‬إلا‭ ‬داخل‭ ‬الجدران‭ ‬والغرف‭ ‬المغلقة مثل‭ ‬مفهوم‭ ‬التكفير‭ ‬الذي‭ ‬قسّم‭ ‬الشعب‭ ‬وأثار‭ ‬فتنة‭ ‬في‭ ‬البلاد‭.. ‬والذي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬رفض‭ ‬الآخر‭ ‬الذي‭ ‬يختلف‭ ‬معه‭ ‬فكريا‭ ‬وعقائديا‭. ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الترويج‭ ‬لأفكار‭ ‬تدّعي‭ ‬كونها‭ ‬من‭ ‬جوهر‭ ‬الإسلام‭ ‬منسوبة‭ ‬إلى‭ ‬الشريعة‭ ‬الإسلامية‭. ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬دونية‭ ‬المرأة‭ ‬وعودتها‭ ‬إلى‭ ‬البيت،‭ ‬مكانها‭ ‬الطبيعي‭ ‬حسب‭ ‬رأيهم‭ ‬وتحميلها‭ ‬مسؤولية‭ ‬البطالة‭ ‬في‭ ‬البلاد‭. ‬وتنتقد‭ ‬بشدة‭ ‬مجلة‭ ‬الأحوال‭ ‬الشخصية‭ ‬التونسية‭ ‬وتدعو‭ ‬إلى‭ ‬إلغائها‭ ‬أو‭ ‬تعديلها‭ ‬في‭ ‬أحسن‭ ‬الأحوال‭ ‬وتعتبرها‭ ‬سبب‭ ‬كل‭ ‬انحلال‭ ‬أخلاقي‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭. ‬كما‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬مبدأ‭ ‬المساواة‭ ‬في‭ ‬الحقوق‭ ‬والواجبات‭ ‬بين‭ ‬المرأة‭ ‬والرجل‭ ‬بمبدأ‭ ‬التكامل‭: ‬تكون‭ ‬المرأة‭ ‬فيه‭ ‬مكمّلة‭ ‬للرجل‭ ‬وليست‭ ‬ندا‭ ‬له‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬مسودة‭ ‬الدستور‭ ‬التي‭ ‬قدمتها‭ ‬كتلة‭ ‬النهضة‭ ‬وقت‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬أغلبية‭ ‬في‭ ‬البرلمان‭ ‬مع‭ ‬محاولة‭ ‬تمرير‭ ‬بند‭ ‬الدولة‭ ‬الدينية‭.. ‬تمهيدا‭ ‬لدولة‭ ‬الخلافة‭ ‬التي‭ ‬ينادون‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬أعلى‭ ‬منابرهم‭.. ‬وقد‭ ‬وقعت‭ ‬مقاومة‭ ‬كل‭ ‬ذلك‮ ‬‭ ‬بشدة‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬وكل‭ ‬القوى‭ ‬التقدمية‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬حتى‭ ‬ألغيت‭ ‬تماما‭ ‬من‭ ‬الدستور‭..‬

كما‭ ‬أفرز‭ ‬الشارع‭ ‬مشهدا‭ ‬جديدا‮ ‬‭ ‬لواقع‭ ‬ثقافي‭/‬اجتماعي‮ ‬جديد‭ ‬كان‭ ‬مختفيا‭ ‬فظهر‭ ‬على‭ ‬السطح‭ ‬وبكثير‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬العنف‭ ‬تغذيه‭ ‬حركات‭ ‬التطرف‭ ‬الدينية الاستفزازية‭ ‬للمجتمع‭.. ‬مثل‭ ‬انتشار‭ ‬الحجاب‭ ‬أكثر‭ ‬فأكثر‭ ‬وإطلاق‭ ‬اللحى‭ ‬واللباس‭ ‬الأفغاني‭ ‬وانتشار‭ ‬النقاب‭ ‬أو‭ ‬البرقع‭ ‬عند‭ ‬النساء‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يعرفه‭ ‬المجتمع‭ ‬التونسي‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭. ‬والذي‭ ‬تسبب‭ ‬في‭ ‬أزمة‭ ‬دامت‭ ‬سنتين‭ ‬بالجامعة‭ ‬التونسية‭ ‬بمنوبة تقطعت‭ ‬إثرها‭ ‬الدروس‭ ‬وتعطلت‭ ‬لمحاولة‭ ‬بعضهن‭ ‬دخول‭ ‬الحرم‭ ‬الجامعي‭ ‬منقبات‭ ‬وفرضه‭ ‬بالقوة رغم‭ ‬مخالفته‭ ‬لقانون‭ ‬الجامعة‭ ‬الأساسي‭ ‬الذي‭ ‬ينص‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬ارتداء‭ ‬النقاب‭ ‬خاصة‭ ‬عند‭ ‬اجتياز‭ ‬الامتحانات،‭ ‬تساندها‭ ‬حركات‭ ‬متطرفة‭ ‬دخلت‭ ‬في‭ ‬مواجهات‭ ‬واشتباكات‭ ‬مع‭ ‬رئاسة‭ ‬الجامعة‭ ‬وبقية‭ ‬الطلبة‭.. ‬كما‭ ‬شهدت‭ ‬نفس‭ ‬الجامعة‭ ‬حادثة‭ ‬محاولة‭ ‬استبدال‭ ‬العلم‭ ‬التونسي‭ ‬بالراية‭ ‬السوداء‭.. ‬ولم‭ ‬تهدأ‭ ‬الأمور‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬وبعد‭ ‬كتابة‭ ‬الدستور‭ ‬الذي‭ ‬يضمن‭ ‬لكل‭ ‬مواطن‭ ‬حرية‭ ‬المعتقد‭ ‬وحق‭ ‬الاختلاف‭ ‬ويجرم‭ ‬التكفير‭..‬

‬“حدث”‭ ‬البوعزيزي‭ ‬قد‭ ‬حرك‭ ‬المشاعر‭ ‬بعنف‭ ‬وأحدث‭ ‬قطيعة‭ ‬مع‭ ‬عدة‭ ‬مفاهيم‭ ‬نفسية‭ ‬عميقة‭ ‬أهمها‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭ ‬مفاهيم‭ ‬“الخوف”‭ ‬و‭‬الخنوع‭

انتشار‭ ‬ثقافة‭ ‬الحرية

‮ ‬ومن‭ ‬أبرز‭ ‬مظاهر‭ ‬ثورة‭ ‬الشارع‭ ‬وكرد‭ ‬‮ ‬فعل‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حركات‭ ‬التطرف‭ ‬الديني‭ ‬التي‭ ‬تحرّم‭ ‬الفنون‭ ‬بكل‭ ‬أنواعها‭ ‬وخاصة‭ ‬فن‭ ‬الصورة‭ ‬والرسم‭ ‬والمسرح‭.. ‬وبعد‭ ‬واقعة‭ ‬مركز‭ ‬åالعبدليّةò‭ ‬الثقافي‭ ‬وهي‭ ‬الاعتداء‭ ‬على‭ ‬فنانين‭ ‬تشكيليين‭ ‬بالعنف‭ ‬وتمزيق‭ ‬أعمالهم‭ ‬وغلق‭ ‬الفضاء‭ ‬الثقافي‭ ‬إثر‭ ‬ذلك‭ ‬بقرار‭ ‬من‭ ‬وزير‭ ‬الثقافة‭ ‬آنذاك‭ ‬مهدي‭ ‬مبروك‭ ‬الذي‭ ‬عوض‭ ‬أن‭ ‬يدافع‭ ‬على‭ ‬الفنانين‭ ‬عاقبهم‭ ‬بغلق‭ ‬الفضاء‭. ‬وغيرها‭ ‬كثير‭.. ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬أشكال‭ ‬تعبيرية‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬والمجتمع‭ ‬صالحت‭ ‬بين‭ ‬الفضاء‭ ‬الخاص‭ ‬والعام‭ ‬وخرجت‭ ‬بالفن من‭ ‬الفضاءات‭ ‬التقليدية‭ ‬المغلقة‭ ‬إلى‭ ‬المساحات‭ ‬العامة‭ ‬والساحات‭ ‬الرحبة‭.. ‬تجسدها‭ ‬فرق‭ ‬ومجموعات‭ ‬اتخذت‭ ‬من‭ ‬الشوارع‭ ‬والجدران‭ ‬والإسفلت‭ ‬ركحا‭ ‬لأعمالها‭ ‬التي‭ ‬تمزج‭ ‬بين‭ ‬فنون‭ ‬عدة‭ ‬مثل‭ ‬الجرافيتي‭ ‬ومسرح‭ ‬الشوارع‮ ‬‭ ‬والملصقات‭ ‬الجدارية‭ ‬وعلب‭ ‬الألوان‭ ‬المستخدمة‭ ‬وشعر‭ ‬الساحات‭ ‬وفن‭ ‬الأداء‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بالتجليات‭ ‬التوليفية‭ ‬وåالبرفورمانسò‭ ‬وتمزج‭ ‬في‭ ‬تقنياتها‭ ‬فنون‭ ‬الرسم‭ ‬والتصوير‭ ‬والغناء‭ ‬والرقص والأداء‭ ‬المسرحي‭ ‬والإلقاء‭ ‬الشعري‭ ‬والصور‭ ‬وتفرض‭ ‬نفسها‭ ‬على‭ ‬المارين‭ ‬بجرأة‭ ‬تربك‭ ‬التحفظ‭ ‬الاجتماعي‭ ‬المعهود‭ ‬في‭ ‬الساحات‭ ‬العمومية‭ ‬العربية‭ ‬و‭ ‬تنشر‭ ‬ثقافة‭ ‬الحياة‮ ‬‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬ثقافة‭ ‬الموت‭.‬

كأنّ‭ ‬الثورة‭ ‬عصفت‭ ‬بكل‭ ‬الأبواب‭ ‬و‭ ‬تطايرت‭ ‬الأقفال‭ ‬فانفتحت‭ ‬الغرف‭ ‬و‭ ‬القاعات‭ ‬والفضاءات‭ ‬كلها‭ ‬على‭ ‬بعضها‭. ‬وكأن‭ ‬الشباب‭ ‬الثوري‭ ‬أعاد‭ ‬امتلاك‭ ‬الشارع‭ ‬والفضاء‭ ‬العام‭ ‬لينتشر‭ ‬فنيا‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬مباشرة‭ ‬مع‭ ‬الشعب‭ ‬دون‭ ‬حواجز‭ ‬ودون‭ ‬قاعات‭ ‬عرض‭ ‬رسمية‭ ‬فانطلق‭ ‬في‭ ‬الحدائق‭ ‬والساحات‭ ‬العامة‭ ‬والشوارع‭ ‬والأرصفة‭ ‬وحيطان‭ ‬الشوارع‭.. ‬لتحرير‭ ‬الفن‭ ‬من‭ ‬الاستبداد‭ ‬السلطوي‭ ‬السياسي‭ ‬والديني‭ ‬وكسر‭ ‬الممنوعات‭ ‬كحواجز‭ ‬تحول‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬المتلقّي‭.‬

وشوم‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬المدينة

وانتشر‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬عدة‭ ‬بلدان‭ ‬عربية‭ ‬أخرى‭ ‬بعد‭ ‬الثورة‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بفن‭ ‬الغرافيتي‭ ‬وهو‭ ‬تعبير‭ ‬حرّ‭ ‬في‭ ‬الأماكن‭ ‬العامة‭ ‬والبارزة‭ ‬والمتحركة‭ ‬والملحوظة‭ ‬كالجدران‭ ‬والأبواب‭ ‬والحافلات‭ ‬والقطارات‭ ‬والشوارع‭ ‬والأسطح‭.. ‬بأنواعه‭: ‬رسوما‭ ‬وحروفا‭ ‬فرنسية‭ ‬وإنكليزية‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬وبخّاخات‭..‬

‮ ‬وغالبا‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬التعبير‭ ‬احتجاجا‭ ‬أو‭ ‬رسائل‭ ‬مشفرة‭ ‬أو‭ ‬اعتراضا‭ ‬على‭ ‬سياسات‭ ‬معينة‭ ‬في‭ ‬غفلة‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬وبتعبير‭ ‬الناقدة‭ ‬الفنية‭ ‬ميموزا‭ ‬العراوي‭ ‬“أرسم‭ ‬على‭ ‬جسد‭ ‬المدينة‭ ‬وأختبئ‭. ‬أكتب‭ ‬وأهرب‭ ‬لن‭ ‬يقبض‭ ‬عليك‭ ‬أحد‭. ‬لن‭ ‬يقتلك‭ ‬أحد‭ ‬نهائيا‭. ‬جدار‭ ‬المدينة‭ ‬الموشوم‭ ‬بكلماتك‭ ‬برسوماتك‭ ‬يبتلع‭ ‬من‭ ‬يقترب‭ ‬منه‭ ‬خاصة‭ ‬قاتلك”‭.‬

وأبرز‭ ‬من‭ ‬يمثله‭ ‬مجموعة‭ ‬“حركة‭ ‬أهل‭ ‬الكهف”‭ ‬التي‭ ‬تعرف‭ ‬نفسها‭ ‬كونها‭ ‬مجموعة‭ ‬أرادت‭ ‬أن‭ ‬تجرب‭ ‬الإبداع‭ ‬والمقاومة‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬المنفى‭ ‬كما‭ ‬“أهل‭ ‬الكهف”‭ ‬التاريخيين‭ ‬وهم‭ ‬جماعة‭ ‬هربوا‭ ‬من‭ ‬سلطان‭ ‬ظالم‭ ‬إلى‭ ‬منفى‭ ‬الكهف‭ ‬وأصبحوا‭ ‬خارج‭ ‬الزمان‭ ‬كما‭ ‬تُروى‭ ‬قصتهم‭ ‬وكما‭ ‬وردت‭ ‬سيرتهم‭ ‬في‭ ‬الأساطير‭ ‬الدينية‭.‬

‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬فن‭ ‬“الغرافيتي”‭ ‬يزدهر‭ ‬ويظهر‭ ‬خاصة‭ ‬وقت‭ ‬التظاهرات‭ ‬والاحتجاجات‭ ‬والاعتصامات‭.. ‬ليصبح‭ ‬أو‭ ‬ليتحول‭ ‬إلى‭ ‬لوحات‭ ‬ناطقة‭ ‬كمدوّنة‭ ‬توثيقيّة‭ ‬للمحطات‭ ‬واللحظات‭ ‬الثورية‭ ‬التاريخية‭.‬‮ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الفضاء‭ ‬العام،‭ ‬كذاكرة‭ ‬حيّة‭ ‬لما‭ ‬حدث‭ ‬وما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬الحراك‭ ‬الثوري‭.. ‬ولتتحول‭ ‬الشوارع‭ ‬إلى‭ ‬مساحات‭ ‬عرض‭ ‬عفوية‭ ‬مفتوحة‭ ‬دون‭ ‬قيد‭ ‬ولا‭ ‬شرط‭ ‬ولا‭ ‬إذن‭ ‬ولا‭ ‬دفع‭..‬لالتحام‭ ‬الفن‭ ‬والإبداع‭ ‬مباشرة‭ ‬مع‭ ‬العامة،‭ ‬في‭ ‬تفاعلات‭ ‬حيّة‭ ‬مباشرة‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬تاريخية‭ ‬تزاوج‭ ‬بين‭ ‬الحراك‭ ‬السياسي‭ ‬والتغيير‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬لتثير‭ ‬دهشة‭ ‬العابرين‭ ‬وتهز‭ ‬وعيهم‭ ‬وتخلخل‭ ‬المنظومة‭ ‬التقليدية‭ ‬الساكنة‭.‬

وهناك‭ ‬مثل‭ ‬عربي‭ ‬سوري‭ ‬يقول‭ ‬“الحيطان‭ ‬دفاتر‭ ‬المجانين”‭ ‬والمجنون‭ ‬عند‭ ‬السوريين‭ ‬‭(‬الذين‭ ‬انتشر‭ ‬عندهم‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬أيضا‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬مصر‭)‬‭ ‬هو‭: ‬المعارض‭ ‬الذي‭ ‬يخالف‭ ‬النظام‭.‬

ولا‭ ‬يخلو‭ ‬الأمر‭ ‬من‭ ‬حركة‭ ‬تحدّ‭ ‬واضحة‭ ‬لكسر‭ ‬عصا‭ ‬السلطة‭ ‬إذ‭ ‬أنّ‭ ‬من‭ ‬خصائص‭ ‬“الغرافيتي”‭ ‬كتابة‭ ‬الممنوعات‭ ‬ورسم‭ ‬أشياء‭ ‬غير‭ ‬مرغوب‭ ‬فيها‭ ‬ودون‭ ‬إذن‭ ‬أصحاب‭ ‬المكان‭.. ‬كأنما‭ ‬يغتنم‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬حالة‭ ‬الفوضى‭ ‬العامة‭ ‬وضعف‭ ‬الرقابة‭ ‬وانشغال‭ ‬السلطة‭ ‬للانتشار‭. ‬نذكر‭ ‬ساحة‭ ‬القصبة‭ ‬بالمدينة‭ ‬العتيقة‭ ‬التي‭ ‬شهدت‭ ‬أكبر‭ ‬اعتصامات‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الثورة‭ ‬وكيف‭ ‬أصبحت‭ ‬جدرانها‭ ‬وأبوابها‭ ‬وأقواسها‭ ‬لوحة‭ ‬فسيفسائية‭ ‬لشعارات‭ ‬الاعتصام‭ ‬ومطالب‭ ‬الثورة‭.. ‬وكيف‭ ‬أجّجت‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬لدى‭ ‬شباب‭ ‬الثورة‭ ‬طاقات‭ ‬الخلق‭ ‬والإبداع‭ ‬العفوي‭ ‬والفوضوي‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬الوقت‭. ‬واعتصام‭ ‬باردو‭ ‬أيضا‭ ‬الذي‭ ‬أسقط‭ ‬حكومة‭ ‬النهضة‭. ‬لكن‭ ‬للأسف‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬اعتصام‭ ‬تأتي‭ ‬السلط‭ ‬البلدية‭ ‬وتمسح‭ ‬كل‭ ‬آثار‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬الاحتجاجي‭ ‬في‭ ‬غفلة‭ ‬منهم‭.‬

وكم‭ ‬أتمنى‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬موشوما‭ ‬على‭ ‬صدر‭ ‬جدراننا‭ ‬كما‭ ‬بقي‭ ‬فن‭ ‬الغرافيتي‭ ‬الأصيل‭ ‬على‭ ‬جدران‭ ‬باريس‭ ‬بعد‭ ‬ثورة‭ ‬الطلبة‭ ‬الفرنسيين‭ ‬في‭ ‬ماي‭ ‬1968‭.‬

‮ ‬ويستلهم‭ ‬“أهل‭ ‬الكهف”‭ ‬خلقهم‭ ‬وإبداعهم‭ ‬من‭ ‬الجسد‭ ‬الرمز‭ ‬جسد‭ ‬“البوعزيزي”‭ ‬المشتعل‭ ‬ويعتبرون‭ ‬ذلك‭ ‬المشهد‭ ‬بمثابة‭ ‬åالبرفورمنس‭ ‬الذي‭ ‬صنع‭ ‬الحدث‭ ‬بل‭ ‬صنع‭ ‬الثورة‭ ‬وصنع‭ ‬الدهشة‭ ‬أيضا‭ ‬التي‭ ‬هزت‭ ‬كيان‭ ‬المتلقي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬وأضرمت‭ ‬النار‭ ‬في‭ ‬كيان‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬مقهور،‭ ‬جائع‭ ‬ومظلوم‭ ‬وهي‭ ‬تجسد‭ ‬التراجيديا‭ ‬الاجتماعية‮ ‬‭ ‬في‭ ‬أعمق‭ ‬تجلياتها‭ ‬مما‭ ‬يؤكد‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬أن‭ ‬الفن‭ ‬ليس‭ ‬دائما‭ ‬سليل‭ ‬الترف‭ ‬الثقافي‭ ‬الروحاني‭ ‬كما‭ ‬يراه‭ ‬“هيجل”‭ ‬أو‭ ‬لذة‭ ‬استهلاكية‭ ‬عابرة‭ ‬كما‭ ‬صورته‭ ‬الصناعة‭ ‬الثقافية‭ ‬لفترة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭.. ‬وإنما‭ ‬فعل‭ ‬حركي‭ ‬عفوي‭ ‬وفوضوي‭ ‬يولد‭ ‬من‭ ‬صلب‭ ‬المأساة‭ ‬أيضا،‭ ‬و‭ ‬لعله‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬مفهوم‭ ‬åدولوزò‭ ‬الذي‭ ‬يعتبر‭ ‬“الحدث”‭ ‬تلك‭ ‬الواقعة‭ ‬الخارقة‭ ‬للعادة‭ ‬التي‭ ‬تغير‭ ‬الأنساق‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬بخلق‭ ‬الصدمة‭ ‬والذهول‭ ‬لدى‭ ‬المتلقي‮ ‬وتهز‭ ‬مشاعره‭ ‬بعمق‭ ‬و‭ ‬تدفعه‭ ‬إلى‭ ‬الفعل‭. ‬وهذه‭ ‬الدهشة‭ ‬هي‭ ‬الجمالية‭ ‬الصرفة‭ ‬لأنها‭ ‬لم‭ ‬تخضع‭ ‬لنية‭ ‬مسبقة‭ ‬أو‭ ‬لتخطيط‭ ‬مبيت‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬وليدة‭ ‬انفجار‭ ‬مفاجئ‭ ‬لحالة‭ ‬اجتماعية‭ ‬يائسة‭ ‬وجدت‭ ‬صدى‭ ‬كبيرا‭ ‬لذروة‭ ‬مأساتها‭ ‬الإنسانية ولتكرارها‭ ‬في‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬وفي‭ ‬الجغرافية‭ ‬العربية‭. ‬وهذا‭ ‬الانفجار‭ ‬يؤسس‭ ‬بالضرورة‭ ‬لمشهد‭ ‬اجتماعي‭ ‬جديد‭ ‬وبالتالي‭ ‬فهو‭ ‬يحمل‭ ‬دلالات‭ ‬ورموزا‭ ‬جمالية‭.‬

‮ ‬كما‭ ‬يؤكد‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬الثورة‭ ‬التونسية‭ ‬التي‭ ‬انطلقت‭ ‬شرارتها‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬جسد‭ ‬بشري‭ ‬أبعد‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬عن‭ ‬ثورة‭ ‬الياسمين‭ ‬بل‭ ‬لعلها‭ ‬ثورة‭ ‬أقرب‭ ‬لرائحة‭ ‬اللحم‭ ‬البشري‭ ‬المشوي‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬لا‭ ‬رائحة‭ ‬الياسمين‭..‬

ومهما‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬أمر‭ ‬فإن‭ ‬“حدث”‭ ‬البوعزيزي‭ ‬قد‭ ‬حرك‭ ‬المشاعر‭ ‬بعنف‭ ‬وأحدث‭ ‬قطيعة‭ ‬مع‭ ‬عدة‭ ‬مفاهيم‭ ‬نفسية‭ ‬عميقة‭ ‬أهمها‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭ ‬مفاهيم‭ ‬“الخوف”‭ ‬و‭ ‬الخنوع‭ ‬و”الرعب”‭ ‬الساكن‭ ‬في‭ ‬النفوس‭ ‬وهي‭ ‬ذات‭ ‬المفاهيم‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تكبّل‭ ‬طاقة‭ ‬الخلق‭ ‬والإبداع‭ ‬لدى‭ ‬شرائح‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬العربي‭. ‬كأننا‭ ‬انتقلنا‭ ‬من‭ ‬مقولة‭ ‬“اُكتب‭ ‬وأهرب‭ ‬إلى‭ ‬اكتب‭ ‬وابق‭. ‬فلن‭ ‬يقتلك‭ ‬أحد”‭. ‬وهكذا‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬فن‭ ‬“الغرافيتي”‭ ‬يعود‭ ‬ليبسط‭ ‬سلطته‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬بل‭ ‬ليُبعث‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬بعدما‭ ‬اختفى‭ ‬زمنا‭. ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬أصول‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬ضاربة‭ ‬في‭ ‬القدم‭ ‬وترجع‭ ‬إلى‭ ‬الحضارات‭ ‬العتيقة‭ ‬القديمة‭ ‬جدا‭ ‬فقد‭ ‬عرفة‭ ‬الفراعنة‭ ‬والإغريق‭ ‬والرومان‭ ‬وغيرهم‭..‬

‮ ‬وهو‭ ‬اليوم‭ ‬يسمى‭ ‬بالغرافيتي‭ ‬الحديث‭ ‬منذ‭ ‬نشأ‭ ‬في‭ ‬ستينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬في‭ ‬نيويورك‭ ‬بإلهام‭ ‬من‭ ‬موسيقى‭ ‬“الهيب‭ ‬هوب”‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬يعتبر‭ ‬أيضا‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬التخريب‭ ‬يعاقب‭ ‬عليه‭ ‬القانون‭ ‬في‭ ‬أميركا‭ ‬ومعظم‭ ‬دول‭ ‬العالم‭..‬

وهو‭ ‬يستخدم‭ ‬عادة‭ ‬لإيصال‭ ‬رسائل‭ ‬سياسية‭ ‬واجتماعية‭ ‬في‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬رواسب‭ ‬الاستبداد‭ ‬بطرق‭ ‬فنية‭ ‬ورمزية‭ ‬متنوعة‭ ‬وإثبات‭ ‬سلطة‭ ‬الشعب‭ ‬على‭ ‬فضاءات‭ ‬المدينة‭. ‬وكشكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الدعاية‭ ‬أيضا‭.‬

بالتالي‭ ‬إعادة‭ ‬ترميم‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬أنهكها‭ ‬الاستبداد‭ ‬وفي‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬إعادة‭ ‬إحياء‭ ‬ذاكرة‭ ‬شعبية‭ ‬وثقافية‭ ‬كانت‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬علاقة‭ ‬حميمة‭ ‬مع‭ ‬الساحات‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬فنون‭ ‬الشوارع‭ ‬مثل‭ ‬الفداوي‭ ‬والحكواتي‭ ‬وصندوق‭ ‬العجائب‭.. ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مزدهرة‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬العتيقة‭ ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬أحيائها‭ ‬القديمة‭ ‬مثل‭ ‬ساحة‭ ‬الحلفاوين‭ ‬بباب‭ ‬سويقة‭ ‬وغيرها‭.. ‬وأشهر‭ ‬منها‭ ‬ساحة‭ ‬الفناء‭ ‬في‭ ‬مراكش‭.‬

المثقف‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يحلّ‭ ‬محلّ‭ ‬أيّ‭ ‬سلطة‭ ‬ولو‭ ‬سلطة‭ ‬المعرفة‭ ‬وإنما‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬سلطة‭ ‬مضادّة‭ ‬أبدا‭ ‬بالمرصاد‭ ‬لكل‭ ‬سلطة،‭ ‬يقوّمها‭ ‬ويوجّهها

لا مركزية‭ ‬فنون‭ ‬الشارع

كتبت‭ ‬مجموعة‭ ‬‮«‬أهل‭ ‬الكهف‮»‬‭ ‬للغرافيتي‭ ‬شعارها‭ ‬الشهير‭ ‬‮«‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬أحلم‭ ‬مع‭ ‬جدّي‮»‬‭ ‬ثم‭ ‬أكملت‭ ‬“هذا‭ ‬عهد‭ ‬الأرانب”‭ ‬بعدها‭ ‬واصلت‭ ‬مجموعة‭ ‬‮«‬زواولة‮»‬‭ ‬المسيرة‭ ‬عبر‭ ‬مقولتها‭ ‬التي‭ ‬غطّت‭ ‬جدران‭ ‬المدن‭ ‬‮«‬الزوالي‭ ‬دفنوه‭ ‬وعينو‭ ‬حيّة‮»‬‭ ‬و‭(‬الزوالي‭ ‬كلمة‭ ‬محلية‭ ‬تونسية‭ ‬وتعني‭ ‬المهمّش‭ ‬والعشوائي‭ ‬والفقير‭)‬‭.‬

‮ ‬لم‭ ‬يصمت‭ ‬مسرح‭ ‬الشارع‭ ‬حيال‭ ‬الواقع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬فخرجت‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬مجموعة‭ ‬‮«‬فنّي‭ ‬رغماً‭ ‬عنّي‮»‬،‭ ‬وكانت‭ ‬مسرحية‭ ‬‮«‬دورة‭ ‬مياه‮»‬‭ ‬وصفاً‭ ‬لقذارة‭ ‬الواقع‭ ‬وقرفه‭ ‬ثم‭ ‬مسرحية‭ ‬‮«‬قتلوه‮»‬‭ ‬التي‭ ‬ترجمت‭ ‬صدمة‭ ‬الشارع‭ ‬التونسي‭ ‬من‭ ‬عمليات‭ ‬الاغتيال‭ ‬التي‭ ‬طالت‭ ‬نشطاء‭ ‬ومناضلين‭ ‬تونسيين‭. ‬ليقف‭ ‬الشارع‭ ‬وحده‭ ‬شاهد‭ ‬إثبات‭ ‬على‭ ‬حراك‭ ‬فنّي‭ ‬يعانق‭ ‬الفضاءات‭ ‬المفتوحة‭ ‬مثل‭ ‬شارع‭ ‬الحبيب‭ ‬بورقيبة‭ ‬الذي‭ ‬احتضن‭ ‬مسرحية‭ ‬‮«‬ثلاث‭ ‬نقاط‮»‬‭ ‬إنجاز‭ ‬مجموعة‭ ‬‮«‬فنّي‭ ‬رغماً‭ ‬عنّي‭ ‬لفنون‭ ‬الشارع‮»‬‭ ‬ومجموعة‭ ‬‮«‬راقصون‭ ‬مواطنون‮»‬‭. ‬شخصيات‭ ‬تحاكي‭ ‬الفضاء‭ ‬العام،‭ ‬تخاطب‭ ‬المارّين‭ ‬بمشاهد‭ ‬تقترب‭ ‬من‭ ‬حياتهم‭ ‬اليومية،‭ ‬تؤثّر‭ ‬فيهم‭ ‬وتستدرجهم‭ ‬للمشاركة،‭ ‬يُضيفون‭ ‬للعمل‭ ‬الفني‭ ‬ليصير‭ ‬لوحة‭ ‬تعانق‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أبعاده‭.‬

غادر‭ ‬الفن‭ ‬الحضري‭ ‬هذا‭ ‬الشارع‭ ‬إلى‭ ‬داخل‭ ‬تراب‭ ‬الجمهورية‭ ‬ليترسّخ‭ ‬عادة‭ ‬سنوية‭ ‬تحتفل‭ ‬بها‭ ‬حتى‭ ‬المدن‭ ‬المهمّشة‭ ‬والفقيرة‭.. ‬مثل‭ ‬مهرجان‭ ‬مدينة‭ ‬‮«‬القطار‮»‬‭ ‬لفنون‭ ‬الشارع‭ ‬الذي‭ ‬يتزامن‭ ‬مع‭ ‬ذكرى‭ ‬اغتيال‭ ‬المحامي‭ ‬والسياسي‭ ‬التونسي‭ ‬شكري‭ ‬بلعيد‭.‬‮ ‬‭ ‬و«القطار‮»‬‭ ‬هي‭ ‬مدينة‭ ‬داخلية،‭ ‬تحاذي‭ ‬الحوض‭ ‬المنجمي‭ ‬في‭ ‬محافظة‭ ‬قفصة،‭ ‬اختارت‭ ‬أن‭ ‬تزين‭ ‬شوارعها‭ ‬بعروض‭ ‬فنية‭ ‬من‭ ‬مسرح‭ ‬وغناء‭ ‬ورقص‭ ‬ورسوم‭ ‬غرافيتي‭.. ‬قبلها‭ ‬كانت‭ ‬مدينة‭ ‬قابس‭ ‬التي‭ ‬شهدت‭ ‬قضية‭ ‬‮«‬زواولة‮»‬،‭ ‬تلك‭ ‬المجموعة‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬حوكمت‭ ‬بتهمة‭ ‬نشر‭ ‬الإشاعات‭ ‬عبر‭ ‬الشعارات‭ ‬المرسومة‭ ‬على‭ ‬الحيطان‭ ‬والاعتداء‭ ‬على‭ ‬الأملاك‭ ‬الخاصة‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬التّهم،‭ ‬ثم‭ ‬مدينة‭ ‬قصر‭ ‬هلال‭ ‬في‭ ‬الساحل‭ ‬التونسي‭ ‬التي‭ ‬عايشت‭ ‬مهرجاناً‭ ‬لفنون‭ ‬الشارع‭ ‬أحيته‭ ‬“جمعية‭ ‬أبولون”‭.‬

‮ ‬وعموما‭ ‬المجموعات‭ ‬الفنية‭ ‬الشبابية‭ ‬الثورية‭ ‬هي‭ ‬ظاهرة‭ ‬مستجدة‭ ‬وحالة‭ ‬سوسيولوجية‭ ‬فريدة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭ ‬لأنها‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ ‬الأنساق‭ ‬الجمالية‭ ‬في‭ ‬المساحات‭ ‬العامة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الخطاب‭ ‬السياسي‭ ‬وتأصيلها‭ ‬في‭ ‬محيطها‭ ‬الشعبي‭. ‬وبالتالي‭ ‬فهي‭ ‬تندرج‭ ‬ضمن‭ ‬الحركات‭ ‬التي‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬فعل‭ ‬التفكيك‭ ‬النسقي،‮ ‬ولكن‭ ‬ليس‭ ‬التفكيك‭ ‬المطلق‭ ‬والعبثي‭ ‬وإنما‭ ‬من‭ ‬المنطلق‭ ‬الذي‭ ‬تحدث‭ ‬عنه‭ ‬دريدا كفعل‭ ‬يلتزم‭ ‬بعدم‭ ‬التجرد‭ ‬كليا‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يغيرها‭ ‬بل‭ ‬يشتغل‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬هذه‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬ينتقدها‭ ‬ويقوم‭ ‬بمساءلتها‭ ‬لمقارعتها‭ ‬بالتناقضات‭ ‬التي‭ ‬تكمن‭ ‬فيها‭. ‬فالغاية‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬ليست‭ ‬التفكيك‭ ‬لغاية‭ ‬التدمير‭ ‬وإنما‭ ‬لإعادة‭ ‬البناء‭.‬

يقول‭ ‬جماعة‭ ‬“فني‭ ‬رغما‭ ‬عني”‭ ‬إن‭ ‬فلسفتهم‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬المفاجأة‭ ‬والاستفزاز‭ ‬وخلق‭ ‬الصدمة‭ ‬لدى‭ ‬الناس‭ ‬لحثهم‭ ‬على‭ ‬التفكير‭ ‬ولكنهم‭ ‬لا‭ ‬يرفضون‭ ‬أيّ‭ ‬تيارات‭ ‬فكرية‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬تعصبها‭ ‬أو‭ ‬معاداتها‭ ‬لفكرة‭ ‬الفن‭ ‬بل‭ ‬يستدرجون‭ ‬أتباعها‭ ‬لمحاورتهم‭ ‬فكريا‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الفن‭ ‬كي‭ ‬يتبين‭ ‬لهم‭ ‬مواطن‭ ‬الغلو‭ ‬والتناقض‭ ‬في‭ ‬طروحاتهم‭. ‬وهو‭ ‬يعتبر‭ ‬أن‭ ‬الفن‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬فضاء‭ ‬محتويا‭ ‬ومستوعبا‭ ‬وليس‭ ‬إقصائيا‭. ‬واستعمال‭ ‬منهج‭ ‬التحاور‭ ‬الفكري‭ ‬والفني‭ ‬يعتبر‭ ‬أحد‭ ‬الخصائص‭ ‬الهامة‭ ‬لهذه‭ ‬المجموعات‭ ‬الفنية‭ ‬الشبابية‭ ‬التي‭ ‬بادرت‭ ‬بالقطع‭ ‬مع‭ ‬السلوك‭ ‬الاستبدادي‭ ‬لتمد‭ ‬جسور‭ ‬مبتكرة‭ ‬ومباشرة‭ ‬في‭ ‬التواصل‭ ‬والحوار‭.‬

‮ ‬“مبدعون‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحياة”

كما‭ ‬عرفت‭ ‬تونس‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬السنة‭ ‬المنصرمة‭ ‬تنظيم‭ ‬أكبر‭ ‬تظاهرة‭ ‬لفن‭ ‬الشارع‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬“مبدعون‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحياة”‭. ‬وشهدت‭ ‬هذه‭ ‬التظاهرة‭ ‬التي‭ ‬انتظمت‭ ‬تحت‭ ‬رعاية‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬مشاركة‭ ‬كل‭ ‬محافظات‭ ‬الجمهوريَّة،‭ ‬وسجَّلت‭ ‬مشاركة‭ ‬قياسيَّة‭ ‬في‭ ‬الرسم‭ ‬والسينما‭ ‬والرقص‭ ‬والمسرح،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الفنون‭ ‬التي‭ ‬جابت‭ ‬البلاد‭ ‬ودخلت‭ ‬المعاهد‭ ‬والمدارس‭.. ‬وأثارت‭ ‬حماسة‭ ‬الأطفال‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭. ‬هذه‭ ‬التظاهرة‭ ‬الضخمة‭ ‬كانت‭ ‬متميّزة‭ ‬وواعدة،‭ ‬خصوصاً‭ ‬مع‭ ‬حضور‭ ‬التونسيين‭ ‬لعروض‭ ‬مختلفة‭ ‬وطريفة،‭ ‬كالعزف‭ ‬داخل‭ ‬القطارات‭ ‬والحافلات‭ ‬وإشراك‭ ‬المواطنين‭ ‬في‭ ‬العروض‭ ‬المسرحية‭ ‬الحية،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الأنشطة‭ ‬التي‭ ‬قطعت‭ ‬مع‭ ‬السائد‭ ‬والمعهود‭ ‬وفجَّرت‭ ‬مواهب‭ ‬وطاقات‭ ‬مغمورة‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬العامة‭ ‬والتلاميذ‭ ‬على‭ ‬السواء‭.‬

ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ننهي‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬دون‭ ‬ذكر‭ ‬تظاهرة‭ ‬“جربة‭ ‬هود”‭ ‬بمدينة‭ ‬جربة‭ ‬العالمية‭.‬

جربة‭ ‬التي‭ ‬تحولت‭ ‬من‭ ‬قرية‭ ‬صغيرة‭ ‬إلى‭ ‬أكبر‭ ‬متحف‭ ‬مفتوح‭ ‬لفن‭ ‬الشوارع‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬عندما‭ ‬حطّ‭ ‬بها‭ ‬حوالي‭ ‬150‭ ‬رساما‭ ‬من‭ ‬كافة‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭ ‬وحولوها‭ ‬من‭ ‬قرية‭ ‬بسيطة‭ ‬هادئة‭ ‬إلى‭ ‬قرية‭ ‬تعج‭ ‬بالحياة‭ ‬عندما‭ ‬رسموا‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬السيارات‭ ‬المهجور‭ ‬والسوق‭ ‬المركزي‭ ‬القديم‭ ‬وبجانب‭ ‬أكوام‭ ‬القمامة‭ ‬والأبواب‭ ‬الصدئة‭ ‬وعلى‭ ‬صهاريج‭ ‬مياه‭ ‬قديمة‭ ‬مرمية‭ ‬في‭ ‬المذبح‭ ‬إلى‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭. ‬ومن‭ ‬إيجابيات‭ ‬هذه‭ ‬التظاهرة‭ ‬أن‭ ‬انتبهت‭ ‬السلطات‭ ‬الرسمية‭ ‬للفضاء‭ ‬العام‭ ‬وقامت‭ ‬بعملية‭ ‬تنظيف‭ ‬وتمشيط‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انتشرت‭ ‬الصور‭ ‬على‭ ‬شبكات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭.‬

المثقف‭ ‬وسؤال‭ ‬الكينونة

أخيرا‭ ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نطلق‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الفنون‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬فنون‭ ‬بديلة”؟‭ ‬أم‭ ‬هي‭ ‬مجرد‭ ‬ظواهر‭ ‬ارتبطت‭ ‬بالحراك‭ ‬الثوري‭ ‬والتغيّرات‭ ‬التي‭ ‬شهدها‭ ‬المجتمع‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رحلت‭ ‬سلطة‭ ‬سياسية‭ ‬قامعة‭ ‬وحلّت‭ ‬محلها‭ ‬أخرى‭ ‬بمضمونها‭ ‬الدستوري‭ ‬الجديد؟

عموما‭ ‬فإن‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬قبل‭ ‬الثورات‭ ‬لم‭ ‬ينتج‭ ‬إلا‭ ‬مثقفين‭ ‬منعزلين‭ ‬يعملون‭ ‬ضمن‭ ‬مسالك‭ ‬ضيّقة‭ ‬لا‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬منهج‭ ‬أو‭ ‬مدرسة،‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬فكرة‭ ‬التفاعل‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭. ‬لعله‭ ‬بهذه‭ ‬الطفرة‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬أشكال‭ ‬إبداعية‭ ‬عدة‭ ‬جديدة‭ ‬‭(‬بديلة‭)‬‭ ‬تكون‭ ‬بداية‭ ‬عهد‭ ‬جديد‭ ‬إلى‭ ‬ثقافة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الثورات‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬فشلت‭ ‬أغلبها‭ ‬سياسيا‭ ‬ما‭ ‬عدا‭ ‬تونس‭ ‬نسبيا ولعلها‭ ‬تنجح‭ ‬فنيا‭ ‬وثقافيا‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬رؤية‭ ‬فنية‭ ‬جديدة‭.‬

رغم‭ ‬أن‭ ‬المثقف‭ ‬العربي‭ ‬لم‭ ‬يطرح‭ ‬سؤال‭ ‬كينونته‭ ‬بعد‭ ‬بالمفهوم‭ ‬الذي‭ ‬ذهب‭ ‬إليه‭ ‬مطاع‭ ‬صفدي،‭ ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬عموما‭ ‬لم‭ ‬يصطدم‭ ‬مع‭ ‬المؤسسة‭ ‬الدينية‭ ‬ولا‭ ‬القبلية‭ ‬ولا‭ ‬مع‭ ‬المؤسسة‭ ‬العسكرية‭ ‬ولم‭ ‬يوجه‭ ‬المثقف‭ ‬العربي‭ ‬جهده‭ ‬لنقد‭ ‬النظام‭ ‬الاقتصادي‭ ‬المتخلف‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬ولم‭ ‬يتخذ‭ ‬المواقف‭ ‬الواضحة‭ ‬تجاه‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬السائدة‭.. ‬وطالما‭ ‬أن‭ ‬المؤسسة‭ ‬الدينية‭ ‬والقبلية‭ ‬مازالت‭ ‬تتحكم‭ ‬في‭ ‬النتاج‭ ‬الثقافي‭ ‬وتفرض‭ ‬مشروعها‭ ‬بقوة‭ ‬السلطة‭ ‬أمام‭ ‬المثقف‭ ‬الذي‭ ‬فشل‭ ‬في‭ ‬طرح‭ ‬البديل‭.‬

والآن‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬دحرت‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬القامعة‭ ‬بفعل‭ ‬الثورات‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭ ‬وجب‭ ‬على‭ ‬المثقف‭ ‬أن‭ ‬يلتقط‭ ‬أنفاسه‭ ‬ويعدّ‭ ‬مشروعه‭ ‬الذي‭ ‬يبتدئ‭ ‬بطرح‭ ‬سؤال‭ ‬الكينونة،‭ ‬ليس‭ ‬ذلك‭ ‬الطرح‭ ‬التقليدي‭ ‬“من‭ ‬نحن”؟‭ ‬و”من‭ ‬هو‭ ‬الآخر”‭ ‬لأن‭ ‬إشكاليات‭ ‬الأنا‭ ‬والآخر‭ ‬وشرق‭ ‬وغرب‭ ‬وشمال‭ ‬وجنوب‭ ‬قد‭ ‬بليت،‭ ‬وإنما‭ ‬سؤال‭ ‬الكينونة‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬“من‭ ‬يحكمنا؟‭ ‬وكيف؟”،‭ ‬وأن‭ ‬يسائل‭ ‬المؤسسة‭ ‬الدينية‭ ‬والسياسية‭: ‬كيف‭ ‬نتعامل‭ ‬مع‭ ‬النص‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬بالمقدس‭ ‬والمحرم؟‭ ‬وعلاقات‭ ‬الإنتاج‭ ‬في‭ ‬تداخلها‭ ‬مع‭ ‬الطبقة‭ ‬الحاكمة‭ ‬وبقية‭ ‬الطبقات‭.. ‬وفي‭ ‬علاقتها‭ ‬بمستويات‭ ‬الدخل‭ ‬والاستقرار‭ ‬والتنمية‭.. ‬أسئلة‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تتمحور‭ ‬حول‭ ‬“السلطة”‭ ‬بتشعّباتها‭ ‬وميكانيزماتها‭.‬

هذا‭ ‬المشروع‭ ‬يستوجب‭ ‬كمّا‭ ‬وتراكما‭ ‬معرفيا‭ ‬وحضاريا‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نستدعيه‭ ‬من‭ ‬عند‭ ‬الآخر‭ ‬دائما‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬المثقف‭ ‬العربي‭.. ‬وإنما‭ ‬المثقف‭ ‬الأصيل‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬هويته‭ ‬ليراكم‭ ‬عليها‭ ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬من‭ ‬المعارف‭ ‬والعلوم‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬خلق‭ ‬حراك‭ ‬وجدل‭ ‬ثقافي‭ ‬متواصل‭ ‬لا‭ ‬ينضب‭ ‬أبدا‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬المثقف‭ ‬و‭ ‬حسب‭ ‬“على‭ ‬حرب”‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬ينتج‭ ‬“الفاعل‭ ‬الثقافي”‭ ‬وليس‭ ‬“الإنتاج‭ ‬الثقافي”‭ ‬فما‭ ‬يهمّ‭ ‬المثقف‭ ‬هو‭ ‬الجدل‭ ‬والنقد‭.. ‬فليس‭ ‬المطلوب‭ ‬من‭ ‬المثقف‭ ‬فعل‭ ‬الولادة‭ ‬لأن‭ ‬الولادة‭ ‬تعني‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬وجوهها‭ ‬انتهاء‭ ‬الفكر‭ ‬واكتمال‭ ‬عمليّة‭ ‬الخلق‭ ‬وإنما‭ ‬المطلوب‭ ‬هو‭ ‬جعل‭ ‬الفكر‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬مخاض‭ ‬متواصل‭.. ‬وفي‭ ‬أسئلة‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭ ‬تشعلها‭ ‬الحيرة‭ ‬والدهشة‭ ‬الفلسفية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تركن‭ ‬للأجوبة‭ ‬وإنما‭ ‬حياتها‭ ‬في‭ ‬أسئلتها‭ ‬الدائمة‭ ‬أبدا‭.‬

وأن‭ ‬يخلّص‭ ‬المثقف‭ ‬العربي‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬ادّعاء‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة‭ ‬أو‭ ‬امتلاكها،‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬أداة‭ ‬سيطرة‭ ‬وتسلّط‭ ‬أيضا‭.‬

المثقف‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يحلّ‭ ‬محلّ‭ ‬أيّ‭ ‬سلطة‭ ‬ولو‭ ‬سلطة‭ ‬المعرفة‭ ‬وإنما‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬سلطة‭ ‬مضادّة‭ ‬أبدا‭ ‬بالمرصاد‭ ‬لكل‭ ‬سلطة،‭ ‬يقوّمها‭ ‬ويوجّهها‭ ‬إن‭ ‬اعوجت‭ ‬ويتناولها‭ ‬بالنقد‭ ‬ويكون‭ ‬عينها‭ ‬الساهرة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنام‭ ‬أبدا‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.