ما بعد الأمازونية
الأمازونيات نساءٌ مقاتلاتٌ ذكرهن «هيرودوت» في تاريخه، وأشار إلى أنّهن عشن في شمال البحر الأسودِ، ورأى بعض المؤرخين أنهنّ عشنَ في أفريقيا. والمرأةُ الأمازونية امرأةٌ قوية يصطرعُ فيها الميلُ الفطري الأنثوي للرجل مع الميول القتالية الاستقلالية ؛ فهي تتزوج الرجل، وتنجبُ منه، لكنها تؤثرُ العيش مستقلة عنه، بل وتهيمنُ عليه -في كثيرٍ من الأقوال- وهي تعيشُ على القتال؛ ولذلك كانت المرأة الأمازونية تعمدُ إلى بتر أحد ثدييها حتى تتمكن من وضع الرمحِ والقوس أو السيف -عليه- بينما تحتفظُ بالثدي الآخر. من هنا اتخذتُ هذه الوضعية الأمازونية عنوانًا لهذه القراءة النقدية؛ فهي وضعية تراجيدية يصطرعُ فيها التكوين الأنثوي مع نقيضه، وتعاني فيها الأنثى من ميلها إلى الرجل، واضطرارها إلى محاربته والاستقلال عنه، في الوقت ذاته -بما يُشبه في افتراضي- وضعية التأزّم النفسي والإنساني التي تعاني منها المرأةُ العربية عامة والمبدعة العربية خاصة، حيثُ تكابد هذا الصراع وهذه المفارقات بين ميلها إلى الرجل حبيبًا، زوجًا، صديقًا -إلى آخر ذلك- وتضطر إلى مواجهة القهر والاستبداد الذكوري المُهدِّد لكينونتها وتفرّدها.
لا تزال المرأةُ، في افتراضي، تعاني من التناقض والاضطراب خاصة في المجتمع ِالعربيِّ على صعيدِ وضعيتِها الاجتماعية والإنسانية والفكرية، لا تزال تُواجهُ من قطاعِ كبيرٍ في المجتمعِ العربيِّ باعتبارِها كيانًا إنسانيًّا ناقصًا لا يكتملُ إلَّا بالتبعيّةِ للرجلِ، و لاتزالُ، في افتراضي، في صراع من أجل الدفاع عن هويّتها. ولعلّ الناقدة الأدبية والمعنيَّة بالنسوية جوليا كريستيفا قد لخّصت هذا الأمر في إشارتها إلى أنّ «المسألة النسوية قد شهدت تطورا في القرن العشرين عبر مراحل عدة، أولها: حول هوية النساء مع الرجال، والمرحلة الثانية كانت حول هوية النساء ضد الرجال، بينما شهدت المرحلة الثالثة شكّا حول مسألة الهوية برمّتها» .
وإنَّ وضعية المرأة المُبدعةُ أكثرُ تعقيدًا وتأزُّمًا؛ فهي -فضلاً عن طبيعتها الأنثوية الفيّاضة بالعاطفةِ والنشاط النفسي- تمتازُ بسماتِ الشخصية المبدعة، وما تقتضيه من حساسية ورهافةٍ، ونفاذِ روحٍ؛ فهي كيانٌ ثائرُ الفكر والشعور؛ ومن هنا تكابدُ أعمقَ مذاقات الاغتراب والتّصدع؛ النَّاتجِ من التناقض الصارخ بين ما تفرضهُ وضعيتُها الإبداعية من قيمةٍ وتقديرٍ وإكبارٍ، وما تلقاه على صعيد الواقعِ من إهمالٍ، أو إنكارٍ، أو قهرٍ، وإقلالٍ من الشأنِ.إنَّ هذه الوضعية المتأزِّمة للمرأةِ الكاتبةِ -فضلًا عن الوضعية المتأزِّمة للمرأة عامة- اقتضت كثيرًا من السماتِ الشخصانية في الكتابة النِّسائية، وهي شخصانيةٌ حتميةٌ، على صعيد المضمون والرؤى، وبعض سمات التشكيل الجمالي؛ ومن ثمَّ أتفقُ مع هيلين سيكسو في أنَّ الإبداع النسويّ «يحدثُ في مناطق غير تلك التابعة للهيمنة في النظرية الفلسفية. فهي لا تريدُ أن تدخل…، خارج المطلق النظري تتشكلُ الكتابةُ النسويةُ، وبالتحديد تتشكلُ في الثغرات التي لا تُسلط عليها الأضواءُ من قِبل البنية الفكرية الأبوية. بمعنى آخر هذه الثغرات موجودةٌ بالفعل وكائنةٌ ، لكنه غيرُ معترفٍ بها» .
بهذا المفهوم نذهبُ إلى أنَّ مصطلح «الإبداع النَّسْويّ» أدقُّ في التعبير من «الإبداعِ النِّسائيّ»؛ فالأوَّلُ «هو النصّ الذي يأخذ المرأة كفاعلٍ في اعتباره، وهو النصُّ القادرُ على تحويل الرؤية المعرفية والأنطولوجية للمرأة إلى علاقاتٍ نصيّة، وهو النصّ المهمومُ بالأنثويّ المسكوتِ عنهُ، الأنثوي الذي يُشكّلُ وجودُه خلخلةَ للثقافة المهيمنة، وهو الأنثوي الكامنُ في فجوات هذه الثقافة ، وأخيرا هو الأنثوي الذي يشغلُ الهامش». [د. شيرين: كتاب نسائي أم نسوي] .
تمثَّل النموذج الذكوريّ المُستلِب في حياة فدوى طوقان في شخصِ «أبيها «، وأخيها «يوسف»، وتمثَّل في السيرة الذاتية لبنت الشاطئ في أبيها ومحاولاته المتواصلة لحرمانها من حق التعليم والحب والزواج والعمل
وقد ارتضيتُ في هذه الدراسة أنْ أطرح مقاربة نقديةً حولَ بعضِ نماذج من السيرةِ الذَّاتية النَّسويةِ؛ لأنَّ السيرة الذاتيةَ نصُّ مُعلن يضمرُ آخر غيرَ مرئيٍّ؛ فالمُعلن هو الوقائع التي عاشتها الذاتُ الساردة، أمَّا المُضمرُ فهو الوقائع الحُلمية أو الواقعُ المُرتجى الذي ظلَّ حلمًا غيرَ مُتحقّقٍ لهذه الذات. نحنُ في السيرة الذاتية بين نصٍ ظاهر، وآخر مراوغ إشاري، وأمامَ محاولةٌ إبداعيةٌ لإعادة بناء الذات كما ذهب شاري بنستوك في تعريف هذا النمط الإبداعي؛ فهي ترتكزُ على بروز الذاتية؛ بما يجعلها النمطَ الإبداعي الأكثر قدرةً في إبراز مواجهةِ الذات الأنثوية المبدعة للآخر، وإدانة الوقائع والأغيار المُستلِبة؛ وبذلك تتصدى السيرة الذاتية للخوف التاريخي المسكون في ذاكرة المرأة من التعبير عن الذات، تتصدى لذلك الركام من الاختباء والمواربة والتورية، والتقنّع والتَّبرؤ من نسبةِ كتابتها إليها كما تقولُ جين أتوميكينس.
تخيَّرتُ في هذه المقاربة النقدية نماذج من السيرة الذاتية النَّسوية لكلٍّ من الشاعرة الفلسطينية فدوى طُوقان، الكاتبة والمُفكّرة نوال السعداوي، الأديبة والمفكرة عائشة عبدالرحمن، فضلًا عن وقفةٍ قصيرة مع الأديبة اللبنانية مي زيادة.
تُوشكُ إشكاليةُ «تأزُّم وضعية الذات الأنثوية» أن تكونَ الإشكالية التي تتسيّدُ موضوعات هذه النماذج من السيرة الذاتية، وتُطرحُ باعتبارها مؤشرًا على تخلف المجتمع العربي وتأزمه الفكري والإنساني، ودليلا على تأخره في سلّم الإنسانية، وتعمدُ بعض الأديبات إلى إرجاع قهر المرأة إلى عهد سحيقٍ من عمر الزمان ؛ فتاريخ المرأة في رأي مي زيادة «تاريخُ استشهادٍ طويل؛ فهي عبر العصور المختلفة ليست إلَّا حيوانُ لذة ومتاع السيِّد، وطفلة لاهية للعبث». ورغم هذا فإنَّ خطابَ مي زيادة في سياق المُطالبةِ بالتحرر والكينونة النّسوية خطابٌ أُنثويٌ ناعمٌ يصف الرجل بالمُنعمِ والمُنصفِ والسيّدِ الكريمِ واهب الحريةِ والتحرر؛ ممَّا نعتقدُ أنَّهُ من مُوجباتِ المرحلة التاريخية التي عاشتها مي زيادة، على النَّقيضِ ممَّا نجدهُ في خطابِ كلٍّ من: نوال السعداوي وفدوى طوقان وعائشة عبدالرحمن، مع وجودِ فوارقٍ لاختلاف السمات الشخصية واختلافِ التّجربةِ الإنسانية حيثُ يوصفُ الرجلُ بأنّهُ نموذجٌ للسُّلطة القاهرة المُستلِبة.
تمثَّل النموذج الذكوريّ المُستلِب في حياة فدوى طوقان في شخصِ «أبيها «، وأخيها «يوسف»، وتمثَّل في السيرة الذاتية لبنت الشاطئ في أبيها ومحاولاته المتواصلة لحرمانها من حق التعليم والحب والزواج والعمل، أمَّا نوال السعداوي فقد تمثَّلَ لها الرجل المُستلِب في صورة الحبيب، والزوج -عبر تجارب شخصية فاشلة- لكنها لم تقف عند هذه الحدودِ، بل أضافت إلى مخزونِها النفسيّ إرثَ التجارب المريرة المُختزن في ذاكرة جدَّتها لأمِّها، التي قالت لها «جوازتي كانت جنازتي يا بنت ابني» . كما تقولُ «منذ السادسة وأنا أحفظ هذه الكلمات الثلاث: ربنا.. المصائب.. الجواز» .
وقد تعدَّت ذلك إلى استحضار إرثَ المراراتِ النَّسوية المُختزنة في ذاكرة التاريخِ منذ ولادة الحياةِ على الأرضِ، والتي تسجِّلُ مواقف قهر الرجل للمرأةِ وعصفه بكيانِها الروحي والعاطفي، وهيمنتِه عليها فكريًّا واجتماعيًّا وإنسانيًّا؛ وهكذا أخضعت نوال السعداوي التاريخ الإنساني للمساءلة من منظور الإشكاليةِ النَّسوية، وأخضعتْ المجتمعَ العربيَّ بصفة خاصة للمساءلةِ والإدانةِ؛ حيثُ تظلُّ الوضعيةُ اللاإنسانيةِ للمرأةِ على رأسِ مظاهر التخلُّف والرجعية والاستبدادِ في هذا المجتمعِ في رؤيتِها. وهكذا استطاعتْ نوال السعداوي أن تخلقَ لها لغةَ طَرحٍ جديدة على صعيدِ إبداعها الفكريّ والأدبيّ فقد أوصلها البحثُ في جذور الإشكالية النَّسويةِ إلى مساءلةِ اللغويّ والميثولوجي والأنثربولوجي؛ فوجَّهتْ للغةِ إدانتها لانحيازها للذكورة؛ ولأنها «تخاطب المرأة بصيغة المذكر؛ كل شيء مذكّر في اللغة؛ حتى الإله والشيطان والموت.. كلمة الضمير في اللغة مذكرة مثل كلمة إنسان. لا يوجد في اللغة مؤنث كلمة ضمير» .
في السيرة الذاتية المتميزةِ «رحلة جبليَّة رحلة صعبة» تنفردُ الشاعرةُ والأديبةُ الفلسطينيّةُ فدوى طوقان بطرحٍ خاصٍ لهذه الإشكالية ؛ فهي تُبرزُ تأزُّمَ وضعية المرأة عامةً والمرأة المُبدعة خاصّةً في قالبٍ يمزجُ بين جنسِ السيرةِ الذاتيّة، والسرد القصصي واللُّغة الشاعرية، يتضحُ هذا التعالقُ بين الأجناسِ بدءًا من العنوانِ الذي يكتنزُ من الدلالاتِ أكثرَ ممَّا يبرزُ؛ فالرحلةُ الجبليّة تعبيرٌ رمزيٌّ مُخاتلٌ يحتملُ أن يكونَ وصفًا لرحلةُ كتابة السيرة وفتح مغاليق الذات، ويحتملُ أن يكونَ دلالةً إشاريةً لرحلة الذات السَّاردة أو الذات الجمعية ومكابداتها، في محاولتها التخلص من القهر والجمود الفكري، ويحتملُ أن يكونَ وصفًا لرحلة الذات الأنثوية عامَّةً في مسار الإبداع.
لوحة: جبران هداية
إنَّ فدوى طوقان كما يقولُ الشاعرُ سميحُ القاسم «قدَّمت في هذه المذكرات شيئًا جديدًا هو التعبيرُ بصدقٍ وصراحةٍ عن هموم المرأة العربية؛ فالمرأةُ العربية لم تكتب عن هذه الهموم إلَّا بالرمز والتلميح والإشارة، وجاءت فدوى تبوحُ بكل شيء، في أسلوبٍ بالغ الجمالِ والعذوبة، وفي صدقٍ وشجاعةٍ. تبرزُ فدوى طوقان القهر الذكوريّ ماثلًا في والدِها وأخيها يوسف ورجالِ العائلة، وتُوغلُ في الكشفِ عن تفاصيل الاستبداد الذكوري الذي لحقَ بأبسط الحقوقِ الإنسانية للأنثى. تقول «لم يكن بمستطاع أرباب العائلة تحمل تلك الحقيقة البديهية، حقيقة أن المرأة إنسانُ يشعر ويتوق إلى الحياة والفرح مثلما يتوق ويتطلع أي كائنٍ بشري آخر» .
وتقول «في هذا البيت وبين جدرانه العالية التي تحجبُ كل العالم الخارجي عن جماعة الحريم الموؤودة فيه انسحقت طفولتي وصباي وشيء غير قليلٍ من شبابي» وبذلك تطرحُ فدوى طوقان دلالةً مُستحدثةً لوأدِ الأنثى، حيثُ يصبحُ الوأدُ هو قهرُ الفكر والعاطفة والرؤى والشخصانية؛ لتظلّ التَّبعيةَ والانسحاق طوقَ النجاةِ التي تلوذُ به الأنثى للإبقاءِ على حياةٍ أشبه ما تكونُ بحياةِ بهيمةِ الأنعام. تقول «أمَّا الجو العائليُّ فيسيطرُ عليه الرجلُ كما في كلِّ بيتٍ، وعلى المرأة أن تنسى وجودَ لفظةِ لا في اللغة إلا عند شهادة (لا إله إلا الله) في وضوئها وصلاتها، أما (نعم)، فهي اللفظةُ الببغاويّة التي تُلقَّنُها منذ الرضاع ؛ لتصبح فيما بعد كلمة صمغية ملتصقةً على شفتيها مدى حياتها كله» .
وتقولُ «كانت الدار أشبه بحظيرة كبيرة تملؤها الطيورُ الداجنة، يُلقى إليها بالعلفِ فتزدردهُ دون نقاشٍ، راضية قانعةً به، وكان ذلك غاية الغايات، ونهاية النهايات. كانت رسالة تلك الطيور الداجنة تقتصر على تفقيس الفراخ الصغيرة واستنفاد أيام العمر بين حلل الطبخ النحاسية الكبرى وبين حطب المواقد الدائمة الاشتعال صيفًا وشتاءً» .
وتقول «حق التعبير عن النفس محظورٌ عليها، الضحك والغناء من المحرمات، ويمكنُ اختلاسُها بعد أن يغادر الرجالُ (الأربابُ) إلى أعمالهم، الاستقلالُ الشخصي مفهوم غائبٌ؛ لا حضور له إطلاقًا في حياتها». .
وحينَ تصفُ فدوى تفاصيل اغتيال الأنثى واستلابِها تُجسِّدُ هذه الوقائعَ في لغةٍ إبداعية ترتكزُ على التشخيصِ وإبراز الثنائيات الضدية المأساوية الكامنة بين وضعية الرجل/الذكر ووضعية الأنثى؛ فالأوّلُ يبدو سيدًا، بل مُطلقًا من المُطلقاتِ يعمدُ إلى قهر الأنثى خوفًا من تفجِّرها وانتصاب كيانها الإنسانيّ مُطالبًا بحقوقه؛ ولذلك يعجلُ الرجلُ في هذا الطرح بشيخوخةِ إناثه. بينما تبدو الأنثى مُتشِّيئةً مُستلبةَ الروح والقدرةِ والرأيِ والمصيرِ. تقول فدوى «كان الواقعُ المعيش في ذلك القمقم الحريمي مذلًّا مهينًا؛ حيثُ تعيشُ الإناثُ وجودها الهزيلَ القاتم. كنتُ ألتفتُ فلا أرى حولي إلَّا ضحايا بلا شخصية، بلا كيان مستقلٍ. يقبعن في بيتٍ يتعجّل فيه الرجلُ شيخوخةَ إخوته وبناتِ عمه، متخذا من القهر وسيلة لذلك التعجيل، ضحايا لم أعرفهن إلا عجائز، عجزت الواحدةُ منهن منذ الخامسة والعشرين من عمرها. لم أعرفهن إلا في ثياب التبتّل والتقشّف، يغطي شعرهنّ المنديلُ الأبيض فيما هنّ قعيدات الجدران المحيطة، ليس لهن صديقات، ليس لهنّ حياة خاصة، صبايا بشعرٍ شائب، ووجوه جعّدها الكبتُ قبل الأوان. كان تزويج البنت من رجل غريبٍ يتعارضُ وتقاليد العائلة، فإمَّا ابنُ العم شقيق الأب، أو البقاءُ على العُذرة حتى القبر» .
منذُ مرحلة قديمةٍ من الكتابةِ النَّسويةِ، ترصدُ الذاتُ الأنثويةُ بقلقٍ وتوجّسٍ طبيعةَ تلقِّي المجتمعِ لإبداعها، وموقفه من هذا الإبداعِ؛ فالأديبةُ مي زيادة تصفُ هذا التلقِّي بأنّهُ فضول وترقّب، لا تقديرا أو إكبارا
إنَّ الرجلَ في طرح فدوى طوقان يستأثر بالعوالم الروحية والجمالية، ويحرمُ الأنثى من هذه العوالمِ ممَّا يُنقصُ من حدودِ اتساعها؛ فهي تدينُ أباها الذي حرَّم على نساء المنزل الغناء والعزف بينما أباحهما لنفسه «مادام يحب الطرب فلماذا يحرمنا من العزف والغناء» .
وفي طرحٍ رمزيٍ عالٍ تصفُ فدوى تجاهل هذا الأب لذاتها الإنسانية والأنثوية فترمزُ لتغييبِه هذه الذات بإشارته لها بضمير الغائبِ. تقولُ «كان أحيانا إذا أراد أن يُبلغني أمرًا يستعملُ صيغة الغائب، ولو كنتُ حاضرةً بين عينيه؛ كان يقولُ لأمّي: قولي للبنتِ تفعل كذا.. وكذا» .
وتقول «إنه لا يؤمنُ أنني أصلحُ لشيء، إنه لا يحمل لي سوى شعور اللااكتراث، كأنني لا شيء، كأنني عدمٌ وفراغ، كأنني لا لزوم لوجودي إطلاقًا» .
ومثلما حُرمت الأنثى من عوالم الغناء والموسيقى بتسلّط الهيمنة الذكورية واستبدادِها حُرمت كذلك من أفراح الحبِّ وبهجته وعوالمه الساحرة بل كان الإحساسُ بالحبُّ في طرح فدوى طوقان منبثقًا للمزيد من الألم والاستلابِ. فقد عُوقبت على وقوعها في تجربة الحبّ الأوّل في سنِّ المراهقة من أخيها يوسف بالضربٍ والسب والإهانة؛ والحرمانِ من إتمامِ التعليم؛ ممَّا دفعها إلى التفكيرِ في الانتحار، ثم إلى العزلةِ، ثمّ ترك فيها نُدبةً نفسيَّةً عميقةً تمثَّلتْ في صورة رمزية ثريةٍ هي انحناءة الظهر التي لازمت فدوى.
إنَّ قارئ هذه السيرة الجبليّةَ يلاحظُ أنَّه أمامَ مسيرة الذات الإنسانية، لا الأنثوية فقط، حيثُ يلمسُ بوضوحٍ هيمنةَ مناخِ القهر والاستلابِ على الشخصياتِ الإنسانية في هذه السيرةِ فالأنثى تكابدُ قهر الرجل واستبداده بها، والرَّجل يكابدُ القهر والحكم الدكتاتوري ماثلًا في بعض رموز السلطةِ، والأرضُ الفلسطينيّة تكابدُ قهرَ المُحتلِّ اليهوديّ واغتصابه خيراتِها وأمنها وحقوقها…، وهكذا يبدو الاستلابُ سيِّدَ المشهدِ، وبطلَ هذه السيرة الدرامية التي تتضافرُ فيها الشخوصُ الإنسانية، وتتماسّ في بوتقة المعاناة من حياةٍ هي أشبهُ بالموتِ. ومن ثمّ فإننا نلاحظُ نوعًا من التماسّ النوعي بين حركتي المدّ والجزر في مقاومة الأنثى لقهر الرجل، ومقاومة الأرض المحتلة لقهر العدو الغاشم، وكأن السيرة الذاتية هنا أصبحت سيرةَ ذاتٍ أنثوية، وذات إنسانية، وذات قومية «فقد تحول الوطنُ إلى أرضٍ محتلة وتحولت الشاعرةُ -أو بالأحرى أصبحت- ذاتا منقسمةً بين ما تصبو إلى أن تكونَ عليه، وما هو واقعٌ» .
وبذلك تفرَّدت فدوى طوقانُ في سيرتها الـ»جبلية» ببوحٍ دراميِّ يمتزجُ فيه تأزّمُ الذات الأنثوية بتأزم الآخر؛ ممَّا يُبرزُ وعي الكتابة النسوية، واتّصافها بالأعماق الدلالية.
تأزم الذات الأنثوية المبدعة في ظل الاستلاب الاجتماعي
منذُ مرحلة قديمةٍ من الكتابةِ النَّسويةِ، ترصدُ الذاتُ الأنثويةُ بقلقٍ وتوجّسٍ طبيعةَ تلقِّي المجتمعِ لإبداعها، وموقفه من هذا الإبداعِ؛ فالأديبةُ مي زيادة تصفُ هذا التلقِّي بأنّهُ فضول وترقّب، لا تقديرا أو إكبارا.
أمَّا فدوى طوقان فهي تصفُ درجة عاليةً من التأزم بين ذاتها الأنثوية المُبدعة، والمجتمع التقليديّ المُحيطِ بها، وتُفسِّرُ هذا التأزّم بخوفِ مجتمعاتنا التقليدية من وعي المرأة القارئة الكاتبة المبدعة، وتُرجعُ هذا التأزم إلى اتصافِ هذا المجتمعِ بالازدواجية والفصام. تقولُ «لقد كانوا يرتدون الزيّ الأوروبي ويتكلمون الفرنسية والإنكليزية والتركية، ويأكلون بالشوكة والسكين، ويقعون في الحبّ، ثم يقفون بالمرصاد كلما حاولت إحدانا تحقيق إنسانيتها عن طريق التطور الطبيعي، أو التطلع إلى الأفضل والأحسن. كانوا يمثلون جمود الإنسان العربي، وعجزه الكلي عن الاحتفاظ بشخصية واحدة غير مشطورةٍ» .
ولذلك تدينُ هذا المجتمعَ؛ لأنَّه منعَ بازدواجيته وسطحيته تدفق الذات الأنثوية فكرًا وإبداعًا ؛ ممَّا قولَبها في أسر التفاهة والتبعيّة. تقول «القالبُ الفولاذي الذي يضعُنا فيه الأهلُ، ولا يسمحونَ لنا بالخروجِ عليه، القواعدُ المألوفةُ التي يصعبُ كسرها، التقاليدُ الخاليةُ من العقل، والتي تضعُ البنتَ في قمقم التفاهة، كنتُ توقًا مستمرًا إلى الانطلاق خارج مناخ الزمان والمكان، والزمان هو زمان القهر والكبت والذوبان في اللَّاشيئية، والمكانُ هو سجنُ الدار» .
لوحة: رندة حجازي
و ترصدُ من الذاكرة مشهدًا رمزيًّا عميقًا في دلالته على قهر إبداعها، وهو مشهدُ سرقة قلمها المفضّل على يد حملةِ التفتيش التي داهمت منزل العائلة؛ ممَّا يُذكِّرُ بالسيرة الذاتية للكاتبة لطيفة الزيات «حملة تفتيش- أوراق شخصية» والتي جعلت فيها السلطة التنفيذية رمزًا للقهر الذكوري والمجتمعي المتصدِّي لحرية الفكر السياسي والإبداعي عامة.
ملامح استلابِ الذات في السيرة الذاتية النسوية
من أبرز هذه الملامح التَّشظي، الاغترابُ، أو انعدامُ الشعور بالانتماء، والعجزُ عن الاندماج بالآخر. تصف نوال السعداوي خطر الاغتراب الذي هدّد ذاتها الأنثوية المُحاصرة بالقهر، تقول «كنتُ أعي ذاتي، وكنتُ على وعيٍ بأن الذات لا تتكاملُ إلّا في الجماعة وكانت الجماعةُ هناك ، وراء الجدران التي تُحاصرُني، وبينها وبيني مسافة قرون طويلة من عالم الحريم» .
وتصفُ مذاقات الشعور بالاغتراب واستلاب الكيان بقولها «كان شعوري بالاغتراب يتكثّف، وبدأ إحساسي باستلاب أحلامي وأمانيّ وتطلعاتي الطموحة يتخذُ شكلا مَرضيًّا». .
تعبِّرُ فدوى طوقان عن هذا الاغترابِ بمفردةِ «الغياب» فتقول «كنتُ مع العائلة، ولكن حضوري كان في الواقعِ غيابًا إلى أبعدِ حدود الغياب…!» كما تصف معاناتها من التّشظي، والصراع الداخلي الناجم من الاضطرار للخضوع من جهة، والرغبة القوية العارمة في الثورة من جهةٍ أخرى. تقول «هذا العالم ظل شديد الوطأة على نفسي حتى لقد سيطر عليّ الشعور بالعبودية والقسر، كنتُ على وعي بمهانة هذا الوضع، وبعجزي عن تحطيمه والخروج من إطاره؛… هكذا قام خصامٌ لا هدنة فيه بين نفسي المقهورة بالكبت، وبين الواقع المتجهم الذي أحياهُ، مما أوجد في نفسي انفصامًا شقّها إلى نصفين».
مسارات الخلاص
أفترضُ أنَّ نماذج السيرة الذاتية التي بين أيدينا قد جسَّدتْ كل هذه الأحلام واختزلتها في حلم «الحرية» الذي يتردد على لسان كلِّ أنثى كاتبة بصورةٍ ما من الصور المباشرة أو الإشارية. فلقد تمثَّلُ حلمُ الحريةِ لفدوى طوقان التوق في السفر والتحليق بعيدًا عن أجواء القهر والتّسلط والمراقبة. تقول «يقولون إن الذين عشقوا الأسفار كانوا قد عانوا عيشة الحيوانات وراء قضبان الأقفاص الحديدية، ولقد كنتُ أعيشُ تلك العيشة فعلا» . وتطرحُ هذا الحلم في صورة أخرى تتمنى فيها هدمَ كل السياجاتِ/القيودِ فتقول «كم كنتُ أشتهي النوم تحت السماء، لا سقف من فوقي، ولا جدران من حولي، ولا أقارب بجانبي…» . وتطرحُ فدوى «مفارقةً أليمةً هي ظفرُ المرأة القروية البسيطة بهذا المعنى السامي من الحرية، والذي يعني القدرة على التوحد مع الوجود، والقدرة على الاحتفاظِ بجوهر الذاتِ نقيًّا دونَ مداهمة أو قهرٍ، في الوقتِ الذي عجزت فيه المرأة المدنية عن الفوز بهذه الحرية رغم مطالبات الجمعيات والمؤسسات الحقوقية. يبرزُ الإبداعُ على رأس مسارات الخلاص والدروب الموصلة للحرية في هذه النماذج من السيرة الذاتية. تنسبُ مي زيادة إلى الإبداعِ إمدادَ الأنثى بالقدرةَ على معرفةِ الذاتِ، ومعرفة الكونِ، والقدرة على التمسّك بالحرية في كل معانيها ومستوياتها. تقول «نعم صرنا نكتبُ، ليس بمعنى تسويدِ الصحائف فحسب، بل بمعنى الانتباه للشعور قبل التحبير. لقد خبرنا الاختلاءِ بذواتنا؛ فأقبلنا على تفهُّم معاني الحياة؛ نتفرَّسُ في المشاهد بأبصارٍ جديدة، ونُصغي إلى الأصوات بمسامع منتبهةٍ، ونشوقُ إلى الحرية والاستقلالِ بقلوبٍ طروبةٍ، ونُعبِّرُ عن النزعاتِ بأقلامٍ يشفعُ الإخلاصُ في تردّدها. إنَّ الأمرَ لكذلك، وجرأتُنا هذه لم تبدُ من اللَّائي سَبقنَنا، وإقدامُنا لم يألفهُ الرجلُ من سوانا، والجمهورُ يرقبُنا بنظرةٍ خاصَّةٍ تائقًا إلى تصفُّحِ نفس المرأةِ في ما تصفُ به ذاتها، وليسَ في ما يرويه عنها الكاتبون» . وتصفُ الكتابةَ -في حفل تكريمها- بأنها «كوخ» صغيرٌ يمثّل لها الخصوصية، والعزلة، والدفء والمأوى، وبأنّه لبنةٌ في صرح النهضة النسائية. تقول «أردتم أن يكونَ هذا الكوخ حجرًا معنويًّا في صرح النهضة النسائيّة، ورمزتم بهذا العَلَم إلى راية تحرير العقول من الخرافات والأوهام، وما كانت أصواتُ الهتافاتِ إلَّا أصوات نفوسٍ تحثُّ المرأةَ والفتاة العصرية على السيرِ إلى الأمامِ» .
والإبداعُ للأنثى الكاتبةِ سبيلٌ تحرّرها الاجتماعيِّ والفكري والروحيّ -في رأيها- ومن هنا أشادتْ بكتابات باحثةُ البادية؛ حيثُ «لم يكن قلمُها إلا شرار وميض قلبها، به اختبرت البيئة المصرية في كثيرٍ من مظاهرها، ودرست المرأة المصرية في جميع أطوارها؛ ولمَّا أن هالها ما شهدت به من ذلٍّ وتعاسةٍ غمستْ قلمها في مدادٍ هو سيَّالُ قلبها الناريّ، وكتبت فصولا خالدات».
أمَّا نوال السعداوي والتي تمثِّلُ نموذجًا مغايرًا لمي زيادة على الصعيد الأيديولوجي والإبداعيّ والتكوينِ النّفسيّ فقد اعتبرتْ الإبداع خلاصًا وكينونةً صدامية تواجهُ الممارسات القمعية التي يعمدُ المجتمع من خلالِها إلى قهرِ الذات الأنثوية. تطرحُ نوال السعداوي هذه الرؤية الاعتباريّة للإبداعِ في الإهداء الذي كتبته لجدّتها في صدر كتابها «معركة جديدة في قضية المرأة» تقولُ «إلى جدتي مبروكة ‘أم أبي’، المرأة الريفية الفقيرة التي لم تعرف القراءة، وعاشت وماتت، وشوَّحتْ بيدها السمراء المشقّقة في وجه العمدة، وصاحت بأعلى صوتها أمام أهل قريتِها منذ نصف قرنٍ «إحنا مش عبيد».
مرَّت فدوى طوقان بتجربة حبٍّ فريدة غير تقليدية عبر علاقتها بأخيها إبراهيم الذي مثَّل لها الأب والأخ الكبير، والصديق والأستاذ الذي علّمها الشعر؛ فأغدقت عليه من مشاعرها الأنثوية المحرومة بسخاءٍ
عند قراءةِ السيرة الذاتية لنوال سعداوي وكذلك أعمالها الروائية والقصصية، سنلاحظُ أنّها تُوسعُ من الدائرة الدلالية لقضية قهر الأنثى في المجتمعات العربية، وترى هذا القهر حلقةً في سلسلة القهر العام الذي يتعرض له المجتمع العربي من أنظمة الحكم، واستعلاء القوى الأجنبية، بل تزيدُ من رقعة التأزّم؛ فترى إشكاليةَ قهر المرأة حلقةً من سلسلةِ القهر العالمي حيثُ ينقسمُ العالم إلى أسياد وعبيد، أو قوى كبرى، ودولٍ صغرى. وقد طرح زوجُها شريف حتاتة طبيعة فكرها وتوجهها هذا في مقدمة كتابها «معركة جديدة في قضية المرأة»، فربط بين رؤى نوال السعداوي الفكرية، وبين عموم النظام العالمي، وتأزم الوضعية العربية، بل أشار إلى وجود علاقةٍ بين ما تواجهه نوال السعداوي في حركتها وبين ازدواجية المعايير في الوضعية العربية التي تسمح باستباحة العراقِ تحت مظلة النظام العالمي الأميركي الجديد، ومزاعم الديمقراطية الجديدة، وثقافة الخرافات والسحر والنفاق والتعصّب الديني.
ومن هنا بلغتْ غاياتُ الإبداعِ آفاقًا قصوى في رؤية نوال السعداوي وهي الحريةُ بمعناها المطلق، والانسجام مع الكون، وتحقق الجمال بالمعنى الفلسفيّ الذي هو مزيجٌ من العدل والنظام والمساواة والحرية. تقولُ «ربما هو حلمٌ من أحلام الطفولة أن يصبح العالم من حولي أكثر جمالا وأكثر عدالةٍ، إنَّه أجملُ الأحلام، وأعزها على نفسي، ولستُ مستعدة لكي أستبدلُ بهذا الحلم مال الدنيا أو زينتها أو عروشها» . ومن ثمّ تظلُّ القيمة الإنسانية -في رأيها- هي معيار الحكم على الإبداع.
وفي طرحٍ إبداعيٍّ تُجسِّدُ نوال السعداوي لحظاتِ توحّدها بالكتابة، ولحظات طقوسها وتجلّيها التي تُبرزها خلاصًا وعالمًا مُرتجىً «كنتُ أحمل قلمي وأوراقي وأغادر البيت. أمشي وأمشي دون توقف. أتلفت حولي كأنما أبحثُ. أتطلع إلى الأرض والسماء والبيوت والعمارات والشوارع والأزقة. أبحث عن شقٍّ أهربُ فيه. أختفي داخله وأغلق ورائي سبعةَ أبوابٍ؛ لا يكفي بابٌ واحدٌ لطرد الأصوات. أبحثُ عن الصمت داخل الصمت… أتلفت حولي لأعرفَ أين أذهبُ. أسيرُ بحذاء نهر النيل. أتوقفُ لحظة أحملقُ في المياه أمد قدمي فوق السور وأقفزُ. أصحو من النوم مبللة بالعرق. الأوراق مبعثرة فوق السرير، وبجواري رجلٌ نائم» .
تطرحُ فدوى طوقان الكتابةَ باعتبارها الحبيب الصادق، وعالم الوجد الصوفي والانعتاق الروحي من عذابات الحياة. تقولُ «أصبح الشعرُ شغلي الشاغل في يقظتي ونومي، في وجداني وضميري، أصبح حبِّي الذي ظل طول حياتي حبا صوفيا، ليس بالمعنى الديني، بل بما في هذا الحبّ من شدة، وبما يبعثُه في أعماقي من نشوة باهرة».
يبرزُ الإبداعُ في رؤيتها سبيلا لاستعادة الذات الضائعة التي استلبها الأغيارُ تقول «في استغراقي في عالمي الجديد عرفت مذاق السعادة، كنتُ مستغرقةً في عملية خلق نفسي، وبنائها من جديد، والبحث الطموحِ عن إمكانياتي وقدراتي ممّا شكَّل ثروةَ وجودي»، وتقولُ «لم يكن أمامي إلا الانعزال الكامل في قلب العلاقات البشرية المتشابكة من حولي، والهروب من زمني البائس إلى الزمن الروائي حينًا، وأحلام اليقظة والشعر أحيانًا أخرى» .
وتصفُ الشعرَ بأنه الصوتُ الإنساني الذي أعاد علاقتها بالآخرين بعد طول عزلةٍ واغتراب فتقول «ولقد كان الشعرُ الذي نشرتُه في الصحف هو العملُ الاجتماعي الوحيد الذي استطعتُ أن أجعل منه جسرًا يصلُني بالآخرين وأنا قابعة بين جدران الأتربة».
الحب من عوالم الخلاص في هذا الطرح الإبداعي
يبرزُ الحبُّ في هذه الرؤية الإبداعية بصفته المُجرّدة، لا بصفته الواقعية المترجمة إلى علاقة ماديةٍ ملموسة، خلاصًا للذات المُستلبَة، يبرزُ عالمًا نقيًّا مكتملًا أقربُ إلى الحلم، وأقربُ إلى أن يكونَ عملية إبداعٍ مثالية، وفردوسًا أرضيًّا تتناغمُ فيه الذاتُ مع الآخر، وتكتملُ وتتماهى، وتتحقق. وقد ظل الحبّ يمثلُ هذا ا الحلم وهذه الرؤى في التصور المجرّد لأولئك المبدعات رغم تعرضِ كل مبدعة منهنّ لتجربة واقعية كفيلة بتنفيرها من الحب، وجحودها بعوالمه وغواياته ووعوده.
تقول نوال السعداويّ في تفرقةٍ أليمةٍ بين عالم الحب وعالم الزواج «كلمة الحب لم تكن هي كلمة الجواز كنتُ أغني مع الراديو للحب. لم نكف نحن البنات عن الغناء للحب. لم أسمع في حياتي أغنية واحدة عن الزواج». وتقولُ «الحب مصيدة الفئران تدخلها البنات آمنات مغمضات العيون مثل القطط المغمّضة. يفتحن عيونهن مفزوعات. تحول الحبّ إلى جدران سوداء أربعة في بناء آيل للسقوط هو بيت الزوجية» .
الحب تجربة قاسية في حياة نوال السعداوي؛ ففي العاشرة من عمرها أُعجبت برجلِ وكادت تهرب لأجله حبا في عينيه، واتضحت لها قسوة الوهم بعد ثلاثين عاما. وأحبت في سن العشرين، وهربت بالفعل معه وتزوجت وأخفقت تجربة الزواج، تقول «تزوجت للمرة الأولى تحت اسم الحب الكبير. قصة طويلة بدأت وأنا في العشرين من العمر فتاة عذراء، وانتهت وأنا في السادسة والعشرين زوجة عذراء تحولت إلى أم عذراء ثم تحررتْ بالطلاق» .
وتقول «في العشرين من عمري خفق قلبي بالحب الثاني. عيناه كالحب الأول كانت هي الشمس. هربت من بيت أبي وأمي. تركتُ كتبي وأوراقي وأقلامي وملابسي وصور طفولتي. سرتُ في الطريق إليه لا ألتفتُ ورائي. تحول الحبُ لسوء الحظ إلى زواج. فتحتُ عيني على الجدران الأربعة السوداء، داخل مطبخ في بيت قديم آيل للسقوط في حي بمدينة القاهرة اسمه المنيل».
أمَّا فدوى طوقان فقد كانت تجربتُها، في سنِّ المراهقةِ، مع الحب الأول سببا في حرمانها من التعليم، وإهانة إنسانيتها على يد أخيها يوسف. وقد تسببت هذه الحادثة في كثيرٍ من التداعيات النفسية والروحية المؤلمة في تكوين فدوى طوقان. من بين هذه الآثار ما ترسّخ داخلها من ارتباط الحب بالعار والعيب والفضيحة إلى حدّ توقيعها على القصائد الغزلية بلقب مُستعار، هو اسم الشاعرة العباسية «دنانير»، ولم تكتف بهذا بل حرصت على تصدير قصائدها الغزلية بجملة الأصفهاني في وصف «دنانير» وهي قوله «وكانت دنانير شريفة عفيفةً»، تقول فدوى «وجعلت من هذه العبارة مدخلًا أحتمي به من عار الحبّ» .
في مقابل هذا الجانب المعتم من وقائع الذات الساردة، وفي مقابل هذا النموذج المُستلِب للرجل تشتملُ السيرةُ الذاتية لكلِّ مبدعة، ممّن أشرتُ إليهن وممّن لم يتسع المجالُ للإشارة إليهنّ، على نموذجٍ ذكوريٍ مُشرق مثَّل الخلاصَ من النموذج الذكوري المُستَلِب…، مثَّل الخلاص من خلال منح العاطفة المُشبعة والمساندة الداعمة فكريا أو إبداعيا أو نفسيا. هكذا كان الزوجُ شريف حتاتة في حياة نوال السعداوي، وكان الأستاذ الدكتور أمين الخولي في حياة عائشة عبدالرحمن، وكان جبران في حياة مي زيادة ، وكان إبراهيم طوقان في حياة فدوى طوقان.
مرَّت فدوى طوقان بتجربة حبٍّ فريدة غير تقليدية عبر علاقتها بأخيها إبراهيم الذي مثَّل لها الأب والأخ الكبير، والصديق والأستاذ الذي علّمها الشعر؛ فأغدقت عليه من مشاعرها الأنثوية المحرومة بسخاءٍ، ومثّلت لها عاطفتها تجاهه خلاصًا من التأزّم والوحشة، والاغتراب والخوف. تقول فدوى «ومع وجه إبراهيم أشرق وجه الله في حياتي» .
لقد مثّل لها إبراهيم الفرحَ الحُر والحرية فتقولُ «لقد كان الخوف يُنغص عليّ أفراحي الصغيرة، أما مع إبراهيم فقد كنتُ أشعر بالتحرر من كل المُنغّصات…» . وتقولُ «أصبح هو وحده الهواءُ الذي تتنفّسه رئتاي، هواء الصحة والعافية النفسية». وتضيف «لقد كان إبراهيم المصحّ النفسي الذي أنقذني من الانهيارات الداخلية». لقد كان إبراهيم الصورة المغايرة لأبيها «أما إبراهيم فكان يطربُ لغنائي وعزفي، وكان يكافئني أحيانًا ببعض النقود أو بهدية تسعدني كثيرًا..». لقد ظلّ إبراهيمُ معنيًّا بإعادة بناء نفسي.. كان هو وحده الذي يراني ويُحس بكينونتي ووجودي» .
أمَّا عائشةُ عبدالرحمن (بنت الشاطئ)، فقد أرجأتُ طرح رؤيتي النقدية حول طبيعة كتابتِها النَّسوية؛ لأنها تبدو نموذجا مغايرًا في مجال الكتابة النَّسوية؛ فهي لا ترتكزُ في صوتها الإبداعي على الأيديولوجي الصادم مثل نوال السعداوي، كما أنَّ صوتها الإبداعي يختلفُ عن صوتِ مي زيادة المُتسم بالمواجهة الناعمة للقهر الذكوري، والاستلاب الاجتماعي. إنَّ عائشة عبدالرحمن، رغم معاناتها من تسلط الأب وممانعته في تعليمها وإعاقته رحلتها في التعليم، لم تفقد إيمانها بقيمة الرجل، ولم تفقد تقديرها لشخصيته ودوره في الحياة؛ فقد وجدت من نماذج الرجال من ساندها، وكان سببا في دعم حياتها؛ فكان جدّها لأبيها الرجلَ الأول في هذا العطاء. كذلك كان بعضُ أقاربها عونا لها، أما زوجُها وأستاذها الشيخ أمين الخولي فكان على رأس هؤلاء جميعًا، حيث مثَّل لها الأب والزوج والأستاذ الجامعي والصديق والحبيب؛ ومن هنا كانت سيرتُها الذاتية «على الجسر» طرحًا فكريًّا وعاطفيا يُجسد التَّصالح الأنثويَّ مع الرجل، ويُبرزَ الوفاء لرحلة العمر التي قطعتها مع هذا الرجل، وارتقابها فوق الجسر العالق بين الحياة والموت لحظة اللحاق به في العالم الآخر.
عائشة عبد الرحمن نموذجٌ في رأيي للمرأة المصرية والمبدعة المصرية المعتدلة، الوسطية مزاجا وروحا وفكرا؛ لأنّها لم تخرج من تجربة معاناتها من تسلّط الأب وممانعته في تعليمها وتثقيفها بفكرٍ صدامي مع عموم الرجل، ولم تتحول إلى ذاتٍ ضاريةٍ مريرةٍ في علاقتها بالآخر الرجل والمجتمع، وهي مع ذلك ذاتٌ أنثويةٌ قوية شديد الضراوة في الدفاع عن حقها في التعليم، ثم العمل والتثقيف والحب والزواج كما تشهدُ بذلك سيرتُها الذاتية.