\'فهرنهايت\' 2016
بذكائه المعروف استخدام الكاتب أسامة أنور عكاشة مشهد حرق الكتب في فيلم “فهرنهايت 451” تشاهده ابنة فضة المعداوي، رمز القبح والسوقية والابتذال، طبعاَ هي لا تفهم المعنى الذي أراده الفيلم؛ أن سيأتي على الإنسان يومًا يصبح فيه الفكر جريمة بالغة الشناعة، على أن راي برادبوري، مؤلف الرواية المأخوذة عنها الفيلم سالف الذكر لم يخطر بباله أن الطغاة سيتحمسون للفكرة لدرجة حرق المفكرين أنفسهم! لمَ لا وقد تحولت النهاية المفتوحة لمسلسل عكاشة (الراية البيضا) إلى واقع مُر؛ بلدوزر البلطجة والاستهلاك والاستغلال يسحق النبلاء وكل ما هو جميل. المسلسل كان يتحدث عن محاولات بائعة السمك المليونيرة المتصالحة مع قاع المدينة ومع نفوذ علية القوم، لهدم فيلا الدكتور مفيد أبو الغار، وهو ما يحدث الآن كل يوم في البنايات الأثرية في الإسكندرية، ومهما بلغ حجم الكارثة فأنت معذور إذا لم تنتبه، فهذه مسائل تهون في دولة تسلِّم عمليات ترميم آثارها الفرعونية لعمال محارة، وتزيّن معابد أجدادها بفوانيس ورقية مصنوعة في الصين لاستقبال السيد المحافظ والوفد الآسيوي!
عندما حكمت المحكمة بسجن وتغريم أحمد ناجى لنشر أحد فصول روايته “استخدام الحياة”، بعد سجن إسلام البحيري بتهمة فتح كتب التراث وتفنيد ما فيها -ولسنا بصدد مناقشة أخلاقيات الرواية أو دوافع إسلام- انطلقت حملة على موقع فيسبوك تدعو المبدعين لإحراق كتبهم بأنفسهم على سبيل الاحتجاج، وطبعاَ هذا كلام فارغ، ليس فقط لأن مكافحة العنت لا تتم بهذه الطرق الهستيرية، وإنما لأن الدولة لا تهتم بهذا الهراء بالمرة. كل ما في الأمر هو أن بعض الشباب سيجتمعون في مكان ما ليحرقوا بعض النسخ من رواياتهم التي لا تباع أصلاَ تحت سمع ونظرات بعض أمناء الشرطة الساخرة، فضلًا عن أن مرأى الكتب تحترق مشوق يثلج صدر أي حكومة متجبرة طاغية. أنت تعلم أن حتى لو كان أكبر رأس في البلد يعشق الحكمة فإنه سيضعها تحت قدميه فورًا إذا تبين أنها ضد أمانه الخاص.
كان الحاجب الأندلسي في القرن الرابع الهجري، المنصور أبن أبي عامر شغوفًا بالفلسفة، يتعمق فيها ويكرم المؤلفين لها، لكنه حين رأى جموع المتزمتين من الشيوخ ضدها وأنها قد تفض من حوله تأييدهم، انتصر لأغراضه السياسية فورًا وأخرج كل ما في خزانة الحكم المستنصر، الخليفة العاشق للكتب، وكان بها نحو أربعمئة ألف مجلد، فعزل منها كل ما كان يحوي علوم الأوائل وألقى بكل ما فيها نظريات رياضية ومناقشات فلسفية ومعادلات كيميائية، ألقى بكل شيء في النار، حرق كل العلوم حتى يظفر برضا المشايخ عن كرسيه. هذا هو مصير مكتبة الحكم، أشهر مكتبة في الغرب والأندلس.
أما أن تغرق سُفنك بيدك فهذا لا يمنحك الشجاعة التي تفترضها، بل يضطرك إلى الموت الحتمي، أو إن كان لديك بعض الوقت، إلى بناء السفينة من جديد. في أواخر الثلاثينات كان الدكتور شاكر مصطفى وبعض أصدقائه من الطلبة بالسراويل القصيرة مفتونين بالمقاومة ضد المحتل الفرنسي، يتظاهرون في الأزقة ويرمون الجنود بالحجارة ويهرولون هرباَ، ويوزعون المنشورات الخ. وفيما بعد عرفوا أنهم كانوا يضربون مسلمين مثلهم (مستعمرين لهم) إذ لجأت فرنسا إلى استخدام جند من السينغال وخيالة مغاربة، وذات يوم قال زعيم من زعمائهم الطلبة “غداَ سنحرق في نهاية المظاهرة الكتب الفرنسية!” كان الطلبة يكرهون كتب المدرسة المطبوعة بلغة المستعمر، ويهربون من تعلّمها ويضيعون دروس أساتذتها ولا يحفظون المطلوب على سبيل المقاومة.
خرجوا في اليوم التالي وكل منهم قد نفخ حقيبته بكل ما استطاع جمعه من الكتب الفرنسية والأجنبية وأيّ لغة غير العربية، بل والروايات والجرائد والمجلات وبين الصياح والصخب ألقوا أثقالهم في ساحة المدينة. هوجه ضخمة. جبل من الدفاتر والمجلدات، ولم يلتفت أحد لحياء بعضهم إزاء رش البنزين وإشعال النار في الكتب. علا لهيب ألسنة حمراء وبرتقالية تلتهم الأفكار والكلام وكانت تؤجَّج بالكتب التي يتوالى ورودها. ظنوا أنهم يحرقون الثقافة الفرنسية، ظنوا أنهم يحرقون قلب المستعمر، الذي لم تكن لديه أيّ ردة فعل على هذا الفعل الهمجي السخيف والصبية يرقصون حول النار كالمخابيل في أفلام الهنود الحمر. طبعا ردّ الفعل الوحيد هو العلقة الساخنة التي تلقاها كل واحد عندما عاد للبيت واكتشف والده أنه مضطر لشراء كتب مدرسية جديدة بدل التي أحرقها ابنه وهو يعتقد أنه وطني مناضل!
الآن يعتقدون أن الواحد إذا حرق كتب بنفسه، على طريقة الشاعر عبدالسلام ديك الجن الحمصي الذي لم يجد من حب جاريته فكاكًا إلا بخنقها وحرقها وسكر بكأس من رماد جثتها وهو يبكي “أعلمت كفي في مجال خناقها، ومدامعي تجري على خديها” لكنه ليس كحرق التوحيدي لكتبه في أواخر عمره لقلة جدواها، فحتى أغلب مثقفينا الأجلاء لم يعرفوا حتى الآن، بدافع من نصف جهل وكثير غرور، أن كتبهم محروقة على الأرفف تدور في أفلاك غامضة عبثية لا تكشف أيّ شيء، يتمترسون خلف الغشاء الرهيف بين صراحة الفكر وجرأة القلم دون ندوات وأمسيات وهراء مماثل للتابوهات التي يعتقد أصحاب الأقلام الرفيعة أنهم رائعون لأنهم يحومون حولها.
أبناء الشارع المصري في أجزاء لا يستهان بها يلعنون أديان بعضهم تحت وطأة الظلم والفقر والعنف، ويحافظون بأمانة شديدة على الموروث الشعبي من أغاني الأفراح الجنسية، وآمنوا في منطقة عميقة من الضمير الجمعي بأن تصريحات الوزراء ما هي إلا قذارة، أما رحلات تعزيز العلاقات الدولية ليست أكثر من نزهة ندفع ثمنها، ولا حاجة بهم إلى برلمان المساخر الذي تعرفه، فقد جاؤوا بالخلاصة وعرفوا أن كل المسألة هي “مصالح” لا أكثر. هذا يسكت لأن الكلام بلا جدوى، وذاك يرتشي ويتوسط ويداهن حتى يمشي الحال، وليذهب الشباب السيس إلى الجحيم إذا أرادوا ثورة جديدة، لن تكون أكثر من تسلية تحرك ملل الحياة اليومية.
الأوْلى ببعض مثقفينا أن يراجعوا مهازلهم التي تبدأ بالصمت الجبان، مروراَ بأعمدة الرأي المثيرة للغثيان في الجرائد القومية التي تمرّ بعينك من أولها إلى آخرها فلا تلفت نظرك كلمة توحد الله لها معنى واضح، تحفل بالكثير من الجملة السمجة على غرار “المطلوب في الفترة القادمة المزيد من ضبط النفس»، نهاية بالزحف المقدس لمغازلة مجلات الخليج الفاخرة وانتظار الدولارات التي يقتضي وصولها ضبط النص وتعديل ما يلزم. أما إن لزم أن تحرق ما كتبته فاتبع قول أبي سعيد السيرافي سيد العلماء لولده “تركت هذه الكتب تكتب بها خير الأجل، فإن رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار”.