هلال الحاج بدر.. أين أنت؟
عرفت «هلال الحاج بدر»، إما عام 1973، وإما عام 1982، وإما أيّ عام يقع بينهما. فأنا طوال حياتي أعاني مشكلة في حفظ التواريخ، ولكني هذه المرة أستطيع ألاّ أضع اللوم على ذاكرتي فحسب، فقد مضى من الزمن، وجرى من الأحداث، وتراكم من حطام التواريخ، ما يعطيني الحق أن أنسى ليس أيّ عام؟ بل أيضاً، كما يقال، الحليب الذي أرضعتني إياه أمي بكل سخاء. وربما أيضاً لأن تاريخا كهذا، معدوم الأهمية بالمقارنة مع ذكريات أخرى مستحيلة التسرب، حتى من ذاكرة مثقوبة كذاكرتي.
الذكريات التي صنعناها سوية أنا وهلال خلال الأشهر الستة التي استغرقتها صداقتنا. ما يدفعني، شيء لا أدري ما هو، لأن أعتبرها دون أيّ مبالغة إحدى المكونات الحياتية لما صرت عليه كإنسان عموماً وكشاعر خصوصاً. كان هلال رقيباً متطوعاً من عداد لواء المشاة الذي قضيت به الجزء الأكبر من خدمتي العسكرية الإجبارية، وما تلاها من دورات الاحتياط الكثيرة التي كنت أستدعى إليها. ورغم أنه كان يعمل في نادي اللواء الذي يقع مع بقية الأقسام الإدارية في المؤخرة، وأنا كضابط إشارة إما أن أكون أحد الضباط التابعين لسرية القيادة التي تتوسط انتشار اللواء، وإما أن أتناوب أنا وضابط آخر قيادة فصيلة المرصد في المقدمة، تماماً عند الشريط الحدودي الفاصل بيننا وبين العدو. كما أن تفاوت رتبتينا، ما يستدعي أن أقضي جلَّ وقتي مع أقراني من الضباط، وإلاّ لن يفوتني أن توجه إليّ بعض الملاحظات وربما بعض التقريع إذا ما صادف ودخل خيمتي ضابط أعلى رتبة من أصحاب النزعة العسكرية الصارمة ورآني جالساً مع الجنود أو الرقباء أشرب الشاي وأتباسط معهم في الحديث، كما حدث عندما شاهد أحد هؤلاء جندياً من إحدى القرى المجاورة لمدينتي، يروي لي قصصاً عن عمله ساقياً في أحد النوادي الليلية في بيروت، فراح يصيح به وينكزه بيده على نحو مهين لدرجة أنه لم يكن لديّ من خيار سوى أن أتحمل مسؤولية جلوسه معي، وأقول إنني من طلب منه الدخول لخيمتي. فكانت مكافأتي نتيجة ذلك تهديدي بعقوبة ثلاثة أيام سجن، لم تنفذ بسبب أنه لم يكن هناك سجن مخصص للضباط على الجبهة. إلاّ أن «هلال» بعد اكتشافه أن الشاعر الذي قرأ له قصائد في مجلة الموقف الأدبي ويطابق اسمه اسمي هو أنا، فإن شيئاً لم يكن يقدر على منعه من الاتصال بي يومياً، ليسألني ما إذا كنت أحتاج شيئاً، ثم ليدخل معي في حديث طويل، لا ينتهي إلا بتدخل عامل المقسم ومطالبته بإنهاء المكالمة لحاجة ضابط ما للخط، ولا من المجيء لعندي كلما سنحت له الفرصة، صباحاً أو ظهراً أو مساء، أقرأ له قصائدي وأريه رسومي. وهكذا قامت بيننا صداقة من ذلك النوع من الصداقات التي تربط الناس خلال الدراسة الجامعية في غير موطنهم، أو الخدمة العسكرية أو السجن، وخاصة إذا كانوا ممن قذفت بهم حظوظهم السعيدة للخدمة زمناً طويلاً في الجبهة، بعيداً عن أناسهم وأماكنهم مئات الكيلومترات. وكما توقعت، كلما تعرفت على شاب يبدي هذا النوع من الاهتمام، كان لهلال محاولات في الكتابة ولديه قصائد لم ينشرها ولم يطّلع عليها أحد.
التقط هلال بروحه العطشى أشياء كثيرة وجدها بي، ليس فقط كتابة قصيدة النثر، هو الذي كان يكتب شعراً موقعاً ومقفى وإن غير مقيد بوزن أو بقافية. فقد أحب أيضاً روايات أرسكين كالوديل ومسرحيات برتولد بريخت التي أعرتها له، كما أحب أشعار محمد سيدة وشوقي أبي شقرا وأنسي الحاج بعد أن كان متأثراً ببدر شاكر السياب وأدونيس وموريس قبق الذي سمعت اسمه أول مرة من هلال نفسه. وراح يستمع معي لأشرطة البيتلز وجوني كاش وكريس كريستوفرسون بعد أن كانت أغنيات فيروز رفيقته ليل نهار، حتى أنه صار يستخدم نوع معجون أسناني الفرنسي بطعم القرفة. لكن هذا لم يخفف، بل ربما ضاعف، الألم الشديد الذي كان يخترق روح هلال، وفي حالات كنت شاهداً عليها، يسيطر على كامل جسده، بسبب تطوعه، لأسباب خارجة عن إرادته، في الجيش. فهو بطبعه الرقيق الحساس أبعد ما يكون عن التلاؤم مع الحياة العسكرية، فما بالك بالخدمة على الجبهة، بعيداً عن كل من يستطيع أن يراعي حالته، ويقدم له يد العون. وقد أحيل للطبابة أكثر من مرة بسبب انهيارات عصبية أصيب بها، الأمر الذي تطلب نقله من اختصاصه الحقيقي وهو الدفاع الجوي إلى العمل الإداري في نادي اللواء. أذكر كيف بكى أمامي وأنا أحاول تشجيعه على طلب التسريح من الخدمة، كخطوة أولى للخروج من هذه الحالة. لكنه كان يضع أباه كعذر لا يمكن تخطيه، إضافة لكونه لا يعرف أيّ مهنة أخرى ليعمل بها ويؤمّن معاشه.
ذات مساء دخل هلال خيمتي متهللاً وهو يقول إن سبب سعادته كان قراءته لقصائد لي منشورة في ملحق صحيفة النهار الثقافي، الذي أحضره له أخوه العامل في لبنان، وكنت أنا نفسي لم أخبر بهذا بعد، وقتها لأول مرة راح يقرأ لي قصيدة كتبها متأثراً بأسلوبي. وكان هذا يعني بالنسبة إليه أن تكون القصيدة واقعية، تتحدث عن أمور جرت أحداثها مع كاتبها، إضافة لتحررها من قيود الوزن والقافية، وجاءت القصيدة وكأنها تطبيق حرفي لهذه المواصفات، وموضوعها إحدى زيارات هلال التي لم يجدني بها، ولست آسفاً لأنني لم أقم بتدوينها على دفتر أو كتاب أقرؤه، لأنني طلبت منه إعادة قراءتها مرات عدة، حتى أني حفظتها كلمة كلمة وحرفاً حرفاً، فقد كانت أول قصيدة تهدى لي:
هل كان من المحتم
هلال الحاج بدرإلى منذر مصري
هل كانَ من المحتم
أن يلحقَ بي وأنا في طريقي إليك
كلبٌ أسودُ يمشي مائلاً
بسبب عرجِ شديدٍ في إحدى قوائمه.
***
هل كان من المحتم
أن أعبرَ وأنا في طريقي إليك
بركَ وحلٍ تفوحُ منها رائحةٌ كريهةٌ زنخة.
***
هل كان من المحتم
وأنا في طريقي إليك أن ينطفئ ضوءُ بطاريتي
فيعترضني بغلٌ ضائع
ومن شدّةِ العتمة
يصطدمُ وجهي بمؤخرته.
***
هل كان من المحتم
أن أتكبَّدَ عناءَ السيرِ على قدمي
في الظلام
وفي الوحل
كل تلك المسافةِ الطويلة
فلا أجدُك..
وبما أن خدمتي الإجبارية، التي مدّدت أكثر من مرة بسبب الحرب وما تبعها، كان ولا بد وأن تنتهي، فإنه فجأة جاء أمر تسريحي. علمت بصدوره في اليوم الثالث من إلصاقه على لوحة إعلانات قيادة اللواء، فقد صدف وقتها، بعد أن تعذر عليّ الحصول على إجازة منذ أكثر من شهر، أن قررت السفر للاذقية لقضاء مساء الخميس وكامل يوم الجمعة والعودة للكتيبة صباح السبت قبل نهاية الدوام، وما أن بان خيالي قادماً من بعيد حتى أسرع إليّ إثنان من عناصر فصيلتي ليخبراني النبأ، فتوجهت مباشرة إلى براكة قائد الكتيبة، ليستقبلني أول ما رآني قائلاً «حتّى عن التسريح تتأخر يا ملازم منذر!؟». وكان عليّ أن أقوم بإجراءات براءة الذمة وتسليم كل ما كان مسجلاً على اسمي من عتاد ولباس وأدوات مكتبية في أسرع وقت، تحسباً لاحتمال أن يتبع أمر التسريح أمر عسكري لاحق بالاحتفاظ بكل الذين، لسبب أو لآخر، وما زالوا قيد الخدمة، فلم ينقض اليوم إلا وكنت قد أنهيت كل ما هو مطلوب لأسلّم الهوية العسكرية وأتسلم هويتي الشخصية، وأعود مدنياً أركب باصاً عمومياً في طريقي لمدينتي الساحلية وبين قدميّ الحقيبة التي عبأت بها أغراضي الخاصة، قليل من الثياب والمذياع المحمول وبعض الكتب والدفاتر، من بينها، الأمر الذي لم أكتشفه حتى وصولي إلى البيت، دفتر هلال الصغير ذي الغلاف البلاستيكي الأسود الذي كان قد أودعني إياه في الزيارة التي أخبرني بها أنه قد تقدم بطلب تسريحه من الخدمة وأنه مضطر لمراجعة اللجنة الطبية في دمشق، قائلاً «أخشى أن لا يروقك، إنه يحتوي القصائد التي كتبتها قبل أن أتعرف عليك». بعدها اتصلت بمقسم اللواء مرات عدة وسألت عنه قسم الذاتية ليخبروني أنه من وقتها لم يروه، ولكن في المرة الأخيرة قالوا لي إنهم قد تسلموا قرار تسريحه لعدم لياقته للخدمة العسكرية لأسباب صحية، كما أنه أعفي من دعوات الاحتياط.
قرأت دفتر هلال الأسود منذ اليوم الأول الذي تركه عندي، ولم يكن صحيحاً تماماً ما قاله، فقد كان يتضمن نوعين من القصائد، الأول، القصائد الموقعة والمقفاة، والثاني، قصائد نثرية لا ريب كتبها بعد تعرفنا، واطلاعه على مجموعة من قصائد صديقي محمد سيدة المخطوطة بيده على دفتر كنت أحمله معي أينما ذهبت. كما أن تخوفه لم يكن في محله، لأنني حقاً، أعجبت بعدد من القصائد أكثر من أن يحصى، لدرجة أنني كثيراً ما قبضت على نفسي متلبساً بسرقة بعض صوره واستخدام بعض سطوره حرفياً، مما اضطرني لوضعها بين أقواس، كما أفعل عادة عندما أقتبس جملة أو فكرة أعجبت بها من أشعار سواي، دون أن أشير لصاحبها، لأن أحداً لا يعرف صاحبها. إلاّ أن الشعور الأقوى الذي كان ينتابني وما يزال عند قراءة هذه القصائد هو أني في كل قصيدة أرى وجه هلال، وجه هلال الدائري الصغير وهو يبكي ويضحك بذات الوقت، وفي كل جملة أشعر بروحه وهي تقع ثم تقف، ثم تقع ثانية.. ثم تقف وتحاول العبور.
وفيما يلي قصائد هلال، ولكن للأسف ليست كلها، فتلك القصيدة التي أوردتها سابقاً ليست بينها، وبالتالي لا بدّ وأن هناك قصائد أشد نضجاً كتبها خلال صداقتنا، ليست موجودة في الدفتر. وكأنه آثر أن يترك معي هناك ماضيه وحاضره ويعبر طليقاً إلى مستقبله. وهذا ما تأكد لي، في يوم شتائي ماطر وأنا أنتظر حافلة النقل العامة على الرصيف المقابل لمقرّ عملي، عندما توقفت أمامي مباشرة، دون أن أشير لها، سيارة أجرة كبيرة، وكأنها مخصصة للسفر خارجاً، مد سائقها رأسه من نافذتها طالباً مني الدخول، فإذ به هلال الحاج بدر نفسه، وبعد أن أبديت بهجتي العارمة بلقائه، كان أول ما ذكرت له، أن دفتر أشعاره مازال عندي، وأنه من الواجب أن أعيده له، فإذ به يبتسم بمرارة ويقول «أرجو أن لا يكون لديك مانع أن تبقيه معك، فهذا أحفظ له، كما أنّي أحبّ أن تتذكرني به من حين إلى آخر». و»ماذا عن القصائد الأخرى التي كتبتها؟» سألته. «ليس من قصائد أخرى. عندما سرحت، ساعدني بعض الأصدقاء فلم أضطر لأن أعود، وتركت هناك كل شيء». كان هذا في 8-11-1984 كما هو مدوّن في مذكراتي، ومنذ ذلك اليوم، لم أر هلال ولم أسمع عنه شيئاً، مع أني كثيراً ما خلتُ أنني لمحته، يقود سيارة ما تعبر أمامي فجأة ثم سرعان ما تختفي في زحمة السير.
إذن ها هي قصائد نهوض هلال يتبعها أطياف عبوره، كما قسمها بنفسه في دفتره، ما يقارب العشرين قصيدة يمكن اعتبارها قصائد تفعيلة، وعشر قصائد نثرية، جميعها غير مؤرخة، آثرت بعد تردد أن أنقلها حرفياً دون أيّ تغيير، رغم قابلية مقاطع كثيرة منها للتحسين، ما عدا غضي النظر عن عدد من القصائد، كي لا يطول النص المعدّ للنشر أكثر، وكذلك بعض القصائد والأسطر المتكررة، باختلافات أحياناً بسيطة غير واضحة وأحياناً ظاهرة وشديدة، وكأنّ هلال كان يعيد كتابتها ليحسّنها. الأمر الذي ينجح به غالباً، لذا منعاً للتكرار ورغبة بتقديم هذه القصائد بأفضل وجه، رأيت أن أكتفي بالصورة الأخيرة لكل منها..
لوحة: حسين جمعان
قصائد النهوض
1
حينَ صرتُ فارساً
أصاحبُ المكانَ
وأرتدي أسمالَه
صحتُ: يا مدينتي
يا أمّي وابنتي
هذا دمي
دمي مدادُكِ فاكتبي
لكنها على طولِ المسافة
كتبت على صدري
الخرافة..
2
يا أيها الزمنُ المخادع
إنّا ما طلبنا
وما سألناكَ الخلاصَ
كلُّ همّي وهمُّ قومي
هوَ النهار
وأن تدورَ وأن تدورَ
كدورةِ الحياة
كما تدورُ الشمسُ في قبةِ السماء
ليلٌ ويتلوهُ نهار
ليلٌ ويتلوهُ نهار
يا أيها الزمنُ المخادع
أينَ النهار
أينَ النهار..
3
يا صانعَ الولادة
لا تغنّ لنا أغانيكَ المعادة
فالقلوبُ والعقولُ الجديدة
ملَّت أغانيكَ الحزينةَ والسعيدة.
يا صانعَ الولادة
لا تغنّ لنا أغانيكَ البليدة
والمعادة..
5
أبحثُ في حياتي
عن ذكرياتي السعيدة
فلا أجد
هل نسيتُ
أم أنَّ أحزاني عذراءٌ تُزفُّ كلَّ ليلة
وكآبتي
شمسيَ الوحيدة..
6
لا أصلحُ للدرزِ فأنا لستُ قماشة
لا أصلحُ للغرزِ فأنا لستُ
ورقة
لا أصلحُ للصيدِ ولا للإخلاصِ الأعمى
فأنا لستُ كلباً.
-
فوقَ الجبهةِ عندي قد دُقَّ
ألفُ مسمار
وأنتَ تعلمُ كيف!
حتى أهداب جفوني صارت تعليقةً
وأنتَ تعلمُ كيف!..!؟
لكنَّ وجهي أبداً
لا يصلحُ للأقنعةِ
ودهاناتِ الزيف!..
9
إشارات
- (المسمار)
كلما اعتدتُ على وجه
وصادقتُ المكان
أشعرُ أنّي
أُدقُّ كالمسمار..
- (العابر)
مغبرٌ أشعثُ
كشجرةِ السروِ البغي
الطيرُ يهربُ مني
والدرب يبصقني..
- (الرصيف)
وحينَ أعبرُ الطريقَ
من الرصيفِ إلى الرصيفِ
ممثلاً لشعبيَ الضعيف
لا أعبرُ الطريق..
- (أيلول)
مرَّ بذهني خاطرُ أيلول
زغردوا واقرعوا الطبول
زغردوا واقرعوا الطبول
مرَّ بذهني خاطرُ أيلول..
- (الطبول)
أفضِّلُ الطبول!
لأنها صريحة!
أفضِّلُ الطبول!
لأنها تقول!
إنَّها طبول!..
- (العنكبوت)
أخبرتُكِ كم أعشقُ الحياة
لكنني
كي أمزِّقَ عن عيونكِ
شبكةَ العنكبوت
أعشقُ أن أموت..
10
قالت ليَ الطفلةُ الصغيرة
الهضبةُ الأصيلة!
تكرهُ البغاءَ
وتكرهُ الفضيلة.
-
قالت لي الطفلةُ الصغيرة
تحلمُ الهضبةُ الأصيلة
أحلاماً مدببة!
حتى إلى حين
يا ساكني الهضبة
الهضبةُ الأصيلة
ليست حصيرة!..
12
أصبو إلى الجرحِ العظيمِ
وفي يدي
روحي مولعةٌ
وقلبي واجفُ.
-
يا ريحُ مرّي بي
يا ريحُ اعصفي
كي تمخرَ الحشدَ العجيبَ
مراكبي
يا ريحُ مرّي بي
يا ريحُ اعصفي
كي يعرفَ الحشدُ العجيبُ
شواطئي.
-
يا ريحُ مرّي بي
يا ريحُ اعصفي..
14
تقولُ لي الأحلامُ
والأحلامُ سيدتي
:عصافيرُ بأجنحةٍ من الريحِ
وألوانٍ من القزحِ
ستأتي
من ظلمةِ الليلِ
وعِبرَ ضحالةِ الفرحِ
لكي تقفَ على كفّي
وتحيا
في بياضِ يدي..
15
رجعتُ للمدينة
غنيتُ في المدينة
في الأزقةِ والحدائقِ والعيون
بعضَ أطيافِ العبور
على حنينِ الأمهاتِ
وطيبةِ الصدور.
***
بعضُ الحكايا تحيةٌ حزينة
يا رفاقَ الذاكرة
بعضُ الحكايا
تحيةٌ حزينةٌ.
***
العمرُ الأولُ طار
على جدرانِ حدائقِ النساء
أوتذكرونَ يا رفاقَ الجدار
كم كانَ حلماً مهوساً
خصرُ فتاة!
أوتذكرونَ يا رفاقَ الجدار!..
18
بعدَ أن سئمتُ من نطاحِ الصخور
عدتُ واستدرتُ للنملِ والذباب
أكسِّرُ النبالَ والرماح
على شواهدِ القبور.
***
وهل يا سادتي الحضور
وجوهكم
شواهدُ القبور..
تخطيط: حسين جمعان
19
(الجرحُ الممدود)
إلى الفنان والإنسان لؤي كيالي قبيل وفاته في 26-12-1978 بأيام.
جرحيَ الممدودُ من صدري لصدرك
قل! من يداويه وكيف؟
وهل يُداوى
ما دام في الدنيا
في أولِ الدنيا
في آخرِ الدنيا
وجهُ إنسانٍ يُمعَّسُ بالوحول
أو طفلٌ يجوعُ
وطفلٌ يُيتَّم
وأمُّ تنوحُ
وأمٌّ تموت
ماذا أقولُ
والسكينُ والمسمارُ
في عيني وقلبي
ماذا أقول
جرحُكَ الممدودُ من صدري لصدرِكَ
قل! من يداويه وكيف؟
***
حولَكَ يا حزين
يمضغُ الزيفُ ويؤكل
والحبُّ قناع
حولَكَ يا حزين
يمضغُ الحزنُ ويؤكل
والكذبُ يُباع
ربما تدري
وربَّ لا تدري
ملايينٌ من الأفراحِ والأحزان
بينَ الطفلِ والزيفِ
فقل! لي
من أينَ للأطفالِ عينُ الزيف
من أينَ للإنسانِ عينُ الزيف
جرحنا الممدودُ من صدري لصدرِك
قل! من يداويهِ وكيف.
***
حملٌ على الأكتافِ لا تُحسد عليهِ
أو ربما تُحسد!
وأمانةٌ في العنقِ يا لؤي
أن لا تبور!
أن لا يبورَ الجرح!
أن لا تبورَ الأرض!
حملٌ على الأكتافِ لا تُحسد عليهِ
أو ربما تُحسد!
أن لا يبورَ اللون..
أطيافُ العبور
1- سندباد
أقفُ أتمسَّكُ بالحبل
والمركبُ يطير
والجوقةُ تهلل للرب.
***
الأشرعة مشرعة
والبحارةُ سكارى
والمركب يطير بالجوقةِ المنشدةِ
(هاليلويا)
لأقاصي البحار المجهولة.
***
أحسُّ بالضياعِ
عندما أطالعُ البحر
ولا أراكِ
وأحسُّ بالخواء
عندما أرى الأشجار هلعةً
تقرؤها الريح بخبث
ويخطفها الإعصار.
***
مررتُ على الجبال
فكتبتها في مذكراتي
وألقيتُ على الشطآن
فأحببتها
وذابت في عينَيَّ
السفنُ والمرافئ.
***
وفي رواية أخرى
وجدتُ نفسي في قصر الثلج
ولأن النخل في بلاد الفرنجة
نادر
جعلت النخلةَ تاجي
وبغداد موطني
وكانت زوجة السلطان
تخونه مع عازفي الموسيقى
وعابري الطريق.
***
أنا متعبٌ وبردان
ولا أصلح للقتال مع العملاق
أو أن أعلو صهوة الرخِّ الأسطوري
أنا….
متعبٌ وبردان..
الأعمال الأكثر نفعاً
***
على الشعراءِ أن يكفّوا
ويجلسوا مكتوفي الأيدي
على الشعراء أن يرسلوا لي
كلَّ ما لديهم من أقلامٍ وأوراقٍ ومحابر
ويبطلوا كتابةَ الشعر
على الشعراء أن يناموا.
-
على الشعراءِ أن يلتفتوا
للأعمالِ الأكثرِ نفعاَ
ليصيرَ لي وحدي
كلُّ الأقلامِ والأوراقِ والمحابر
فأكتبُ لكِ وحدكِ
كلَّ أشعارِ الحبِّ
والقصائدِ الغزلية..
ما بينَ الشمسِ والقمر
ما بيني وبينكِ
وما بينكِ وبيني
هو ما بينَ الشمسِ والقمر
وما بين القمرِ والشمس
أقفُ في أولِ الطريق
أو في آخرِ الطريق
ودائماً في منتصفِ الطريقِ
أنتِ..
نسيتُ أن أنسى
نسيتُ أن أتذكرَ
أنا جدارٌ
أبكي بلا دموع
وأضحكُ بلا أسنان
ومن الذي
يحبُّ أن يبكي
وأن يندم
نسيتُ أن أنسى..
بسهولةٍ أقعُ في الحب
بسهولةٍ أقعُ في الحب
لأني بسهولةٍ أنزلق
***
صعب
والوقوف بعد هذا صعب
وفي الحالة الرئيسية الثالثة
لا أستطيع أن أقف
لكني أنسى
في منتصف الأمر.
***
تأكد لي
وهذا وحده يكفي لقصيدة
أنه منذ سنتين أو أكثر
أو فقط
أو أقل
أحببت في مساء واحد
خمس نساء
الأولى: تزوجها صديقي ومن غير اللائق ذكر الاسم
الثانية: نسيتها
الثالثة: روزا الحمراء
الرابعة: بريجيت باردو
الخامسة:…
الكل الكل يعرفها.
تاج أحاسيسي وثوب كلماتي
(إلى محمد سيدة عاشقاً قبل وبعد كل شيء)
هذا المساء أحسست، أنني سيف متعبٌ، وأنك غمد.
هذا المساء أحسست، أنني جسد مدحور، وأنت الحبيبة والزوجة والبيت والفراش، وماء الوجه.
هذا المساء أحسست، أنك الحرف الذي يؤلفني، والاسم الذي أنادى به، والكلمة التي تدلُّ عليّ.
***
كنت دائماً أخفي أمام الناس، وهن ساعدي، ونعومة راحتي. هذا المساء خفت من وهن ساعدي، ونعومةِ راحتي على خصركِ الرقيق، وهائل الدقة، وشعرت أن أصابعي صارت من الخشب اليابس، ولن تعرفي، لأنك قليلة الخبرة، كم ملأتني الدهشة، وكيف ساقني الارتباك، حين ذابت أصابعي، كالشمع، عندما لمست أطرافك الدافئة.
***
هل تجبينني عن قرب، أم عن بعد. وهل تحبينني شاعراً، أم من صخر.
***
تلفتي تلفتي، كما يحلو لك ويليق. فلن تتوجي بتاج أثمن من إحساسي، ولن تزفي بثوب، أجمل من كلماتي..
(انتهى الدفتر)
الخاتمة
لا ريب أن هناك في تاريخ البشرية الآلاف من هلال الحاج بدر. بشر ولدوا وعاشوا وماتوا ولم يتركوا أيّ أثر على مرورهم، سوى ذكريات عابرة في أذهان من عرفوهم والتقوا بهم، ستمّحي بغياب هؤلاء، لكن هلال ترك معي هذا الدفتر. الذي شعرت أنه من واجبي تجاهه، وتجاه كل من شابهه من بشر رائعين، كان من الممكن، لو ساعدتهم الظروف، أن يقدموا لنا الكثير والكثير مما نفتقده ونحتاجه. ولصاروا من أولئك الناس المعروفين والمشهورين الذين تتردد أسماؤهم على كل شفة ولسان، وتفتخر بهم أممهم، وربما العالم أجمع. ولكني شخصياً أحسب أنني قد أوفيت بهذا، ديني لهلال، وإن ليس كاملاً لأنه كما يقول بورخيس «لا يمكن بأيّ صفقة مع هيديس، إله العالم السفلي، استعادة حياة شخص مات».
هلال الحاج بدر.. أين أنت؟
اللاذقية 15-02-2015