فراشة في بيتي
فراشة عند عتبة بيتي؟ حدث لا يُصدّق ! فكل النوافذ مُقفلة؛ حتى شبّاك الفسحة التي تُفضي مباشرة إلى سطح المنزل حرصتُ على إحاطة إطاره بحاجز دقيق الحبكة، مانع لشتّى صنوف الحشرات. بَدَت لي من الوهلة الأولى كخَتْم باهت شَقّ على شُعاع خجول طَبعُه، فهممتُ بالانحناء تمحيصا للأمر وما كدتُ أفعل حتى فردتْ جناحين بديعي الألوان كأنها تستعد للطيران. غير أنها ما لبثت أن ضمتهما لتسقط من ثقلهما على أحد جانبيها ويسحبها تيّار هوائي خفيف من تحت عتبة المدخل إلى قلب الشقة!
الفراشة إذن أصبحت في بيتي، وهذا سيضطرني إلى مُهادنة عدوّ كِدتُ أقضي عليه قضاء مُبرما لو كرّرت عملية الرّشّ في بالوعة الحمّام ثلاثة أيام متتالية. والحقيقة أنّي سُررت جدا لفعّالية المبيد الذي عيّنه لي جاري وبدأت أستعيد هدوئي بعد سلسلة من نوبات غضب كانت تستولي عليّ لمّا تنجح الخنافس في مداهمة بيتي من خلال قنوات الصرف الصّحي. باكورة فصل الربيع لهذه السنة فاجأت ساكني الحي ولا نجد لتكاثر الخنافس السوداء السّافِر سببا أو تفسيرا. ومن يهتم أصلا بدراسة هذه الظواهر المتعلّقة بالحشرات أو ينظر بعين الاهتمام إلى دبيبها وزحفها اللاّفت؟ مؤسسات أو هيئات أو منظمات حماية البيئة؟ طبعا لا! وحدهم الأطفال في حيّنا يفعلون ذلك.. عندما تُنار المصابيح العمومية، تستجيب عشرات الخنافس لنداء الضوء. بعضها يأتي من مزابل صغيرة مُهملة، وأخرى تترك الأعشاب المتفرقة ومخلّفات القطط والكلاب وأحيانا البشر تحت البنايات بحثا ربما عن الدفء.. دعوني أخبركم أيها الأصدقاء أن المصباح العمومي السّاطع كان مُثبتا في الطابق الثاني والأخير من المنزل حيث أقيم أنا حسن الحظ دائما.. ولكم أن تتخيلوا مشهد صعود الحجيج إصرارها الغريزي في النفاذ إلى الشقة! أعترف أني كنت أستمتع برؤيتها عاجزة تماما عن اختراق الحاجز الدقيق الحبكة، وكم هنّأت في سِرّي نفسي على خُطّتي الاستباقية وكنتُ أستمتع أكثر بمشاهدة ثُلّة من أطفال الجيران وقد وجدوا في عملية ارتقاء الخنافس لجدار البيت فرصة لتنظيم مسابقة في إسقاط أكبر عدد منها قبل بلوغها ارتفاعا يصعب على أرجلهم تخطّيه.. كانت لهم اللعبة تسلية وكانت لي تصفية لعدد مهم من هذه الحشرات المقرفة.. نعم مقرفة، لأن فرحتي لم تدم طويلا وإصرار الخنافس هذه المرة مكّنها من إيجاد منفذ ما إلى قلب وزوايا وجميع أبعاد بيتي الهندسية! جاري بدوره لم يتراخ في مقاومة الغزاة وتجريب مشورة هذا ونصيحة ذاك.. يسكب القليل من ماء الكلور على مصطبة المدخل الرئيس للمنزل ويحرص على إبقاء منشفة بعرض عتبة الشقة في غدوّه ورواحه.. أخبرني ذات مرّة أن الخنافس لا تزعجه البتة، بل كلّ ما يخشاه أن يتأذّى طفله الذي يلتقط أي شيء يصادفه في حبوه ويضعه في فمه دون تمييز.
جُملة القول في شأن الخنافس أن أساليب مواجهتنا جعلت أعدادها في تناقص خاصة بعد اهتدائنا إلى قواعدها السريّة وما تخفيه تلك القنوات القديمة المتصدّعة من عجيب الكائنات وهوامها. أما بخصوص الفراشة، فقد استحوذت على اهتمامي على مدى أيامها المعدودة.. ولم أستطع تجاهل حضورها الجميل الآسر.. صنعتُ لها من قطعة ورق محفّة أميرة ثم رفعتها برفق من أرضية الرّواق لأرقدها بأنفاس محبوسة على تربة أصيص شجرة ظل صغيرة، وما هي إلا لحظات حتى انتعشت ودبّت الحياة والحركة في جسمها الواهن.. فإذا بسطت جناحيها وكشفت عن خطوطها وحلقاتها الزاهية تُشرق نفسي وتتعاظمني الدهشة وإذا ضمتهما حييّة من خوف أو حذر أو سبب آخر أترك مضجع الأميرة وأنا كظيم. لم تغادر الفراشة الأصيص مدّة إقامتها فيه ولربما انتقلت إلى حافته المقابلة مرّة واحدة فقط لتستقر تحت وريقات الشجرة لا تريم.. تفرد جناحيها تارة وتطويهما تارة أخرى وبذلك كنت أتحقّق حياتها إلى أن جاء صباح ثم أعقبه مساء لم تصدر عن المسكينة أدنى حركة.. انبجست من حافة الأصيص عيون ألوان وظلت على تلك الحال من الانبثاق القوس قزحي لأيام لم أجسر فيها على رشّ المبيد لمقاومة بقية الخنافس بل كنت أعيدها إلى بالوعة الحمّام وأدلق عليها سطل ماء موقنا أن ما تحتاجه من أكسجين للحياة وارتقاء القناة صوب بيتي تختزنه تحت درعها الصلب.. أأنتِ الجمال يُهذب الطبائع.. ينعش الحزانى.. يشفع في المقبوحين؟ أم الحياة في صورة فراشة تناصر بني فصيلتها.. تُندّد بجرائم إبادتها وتهتف بموت المُنتخبين؟
الفراشة الآن بين طيات مذكرتي لسنة 2015.. مازالت بهيّة وكأنها للتو طرقت باب شقتي حتى أني أشك في رقادها الأبدي.. تحيا بي في كل مرّة أتفقّد مرقدها الورقي وأحيا بدوري بتأثيرها الغامض في ثنايا روحي..
لعمري هي الجمال والحياة والنظام..
الفراشة.. تلك الفراشة.. في قلبي..