العشاق لا يسرقون
كان الجاويش عبدالجبار(Abdel Jabbar) أول القادمين، بدأت حركة حذرة تدب في العالم النائم على حافة الفوضى. تسللت خيوط ضوء الصباح في الميدان الضخم في قلب المدينة. وارتفعت معها أصوات محركات العربات الكبيرة التي بدأت تصل إلى المكان، مختلطة بصياح الديكة والحمير، وغناء بعض السكارى الذين لم يستطيعوا النوم طويلا بسبب الجوع وأشياء أخرى ففضلوا الحضور للتفرّج على المسافرين. إنها الرحلة الشهرية الثانية للشاويش عبدالجبّار التي يحضر فيها للعاصمة لاستلام مرتبات رجال الشرطة في منطقته. قبل أشهر توفي الجاويش عوض الكريم Awadh al-Karim مدير نقطة الشرطة العتيد في القرية، وأصبح هو بالتالي الرئيس، الموت ليس سيئا دائما، فكّر وهو يتسلم خطاب تعيينه في مكان الجاويش عوض الكريم رئيسا لنقطة الشرطة، لكنه كان يشعر أن مهمة جلب المرتبات ليست عملا يليق بفترة عمله الطويلة في الشرطة، والتي اشتهر فيها كجندي منضبط وكمحارب سابق في الحرب العالمية الثانية. لكنه وجدها فرصة لزيارة شهرية للعاصمة على نفقة الحكومة كان يقوم فيها بزيارة شقيقة له تعيش هناك، وتعمل مع زوجها في عيادة طبية لطبيب عيون مشهور، كانت أخته كل مرة تأخذه للطبيب لإجراء كشف للنظر مجانا، وذات مرة قام الطبيب بتغيير النظارة الطبية له دون أن يدفع قرشا واحدا، بنظارة جديدة، أعطته مظهر ضابط برتبة كبيرة كما أكد له بعض من يعملون معه من جنود.
يحمل الجاويش عبدالجبّار مظروفا ضخما من الورق به مرتبات جنود الشرطة، في المرة الأولى كان محظوظا، لم يوجد لص بين المسافرين، كان معظمهم حجاجا قادمين من الأراضي المقدسة ولم تبد عليهم العجلة بعد لارتكاب ذنوب جديدة، خاصة وأن تكلفة غسل الذنوب أصبحت عالية بسبب ارتفاع نفقات الذهاب إلى الحج. وضع لفافة النقود آنذاك تحت رأسه ونام بعمق، تستغرق الرحلة ليلة واحدة. يقضيها الركاب في الصحراء وصبيحة اليوم التالي تصل الشاحنة إلى وجهتها. بدأ الركاب في الوصول، عرف بحاسته السادسة التي تكونت بفضل تعامله طوال سنوات مع اللصوص، أنّ ثمة لصّا بين الركاب!
يا للكارثة، لا يمكن إخفاء شيء في هذا العالم، لا بد أن خبر حمله للمرتبات قد انتشر وأثار شهية بعضهم لجني أرباح سريعة من مال الحكومة، والذي يعتقد البعض أن سرقته لا تدخل في باب الحرام لأنه مال عام يخص الشعب كله وكل فرد من الشعب لديه حصة في المال العام، ولحسن الحظ لم يكن هناك قانون يستثني اللصوص من عضوية الشعب.
عرف أنه ربما لن يستطيع ممارسة هوايته الأثيرة: النوم في مكان متحرك، مثل الطفل، كان يشعر بالتعب بسرعة ويصعب عليه بسبب السن وأشياء أخرى أن يظل طوال الليل مستيقظا. حاول تحديد اللص بين الركاب الذين جلسوا فوق البضاعة التي تم تحميلها فوق الشاحنة في اليوم السابق. كان هناك فتى يحمل طمبورا، عرف من حياد حاسته السادسة أن الفتى كان شخصا طيبا رغم الحزن في وجهه. ثم أنه يبدو عاشقا، العشاق لا يسرقون حسب خبرته الطويلة مع اللصوص، عاشق واحد سرق مرة حذاء رئيس الشرطة أثناء أداء الصلاة في مسجد القرية، لكن تبين لاحقا أنه لم يكن عاشقا حقيقيا بل مرابيا وصل القرية بسبب معلن هو الحب وسبب غير معلن هو رغبته في الزواج من امرأة التقاها مرة في القطار وعرف أنها سترث من والدها الميت بضعة أفدنة والآلاف من أشجار النخيل والموالح.
العاشق لا يسرق قال عبدالجبّار في سرّه ثم تحول بنظره إلى راكب آخر، رجل ملتح يحمل مسبحة في يده، ركز نظره عليه في البداية، ثمة مقولة شعبية تقول إن من يطلق العنان للحيته يطلق العنان أيضا لأشياء أخرى، قد تكون اللحية ستارا للطمع، ترك الرجل المسن، ثمة امرأة جلست بعيدا عن الرجال، النساء لا يسرقن إلا نادرا، قد يضربن رجالهن أحيانا إذا شربوا كثيرا وخاصة إذا لم يتمكنوا من العودة للبيت آخر الليل وساعدهم شخص ما على الحضور، تلك فضيحة تعالج بالضرب. لا يوجد قانون يمنع إعادة تربية رجل متقدم في السن. مرة واحدة سرقت امرأة فستانا لابنتها الصغيرة من السوق، لم يحرر لها الجاويش عبدالجبّار بلاغا حين أمسك بها البائع وفي حوزتها الفستان المسروق، قام الجاويش عبدالنبي بتسوية الأمر مع البائع ودفع له ثمن الفستان، لأن المرأة كانت فقيرة جدا، لكنها استجابت لبكاء ابنتها الصغيرة التي تريد ارتداء فستان جديد يوم عيد الفطر، قال في سره “لو كنت مكانها لفعلت الشيء نفسه. ليس للفقراء من شيء سوى الانتظار، انتظار الفرج”. هو نفسه كان فقيرا، المرتب الذي يحصل عليه يكفي بالكاد جزءا قليلا من مصروفات بيته القليلة ورغم ذلك يضطر في الشتاء لزراعة حقل صغير حتى لا يضطر لشراء القمح.
حين يمر به بعض الناس وهو يعمل بهمّة في حقله، يقول له البعض “ومن سيحرسنا من اللصوص حتى تفرغ من زراعتك؟”.
كان يحلو له مداعبة محدثه لا توجد مشكلة، هناك لص واحد في القرية، وهو موجود الآن بجانبي لحسن الحظ، ويضيف ضاحكا “وما دمت أنت بجانبي فإنني أؤدي عملي أيضا كشرطي بجانب عملي كمزارع!”.
مرة غضب أحدهم حين داعبه بأنه لص وهدّده أنه سيشكوه لرؤسائه لأنه يمارس عملا آخر يخل بانضباطه كشرطي، ضحك وقال لمحدثه “ومن قال لك إنه يوجد انضباط، إنني حين أمارس عملا آخر، أعمل مزارعا، أقوم بذلك بتأجيل سرقة مال الشرطة! بعض الجنود يسطون على السلطة في أوقات فراغهم، يصبحون رؤساء للبلاد ويصدرون أوامر جمهورية ينفذها الجميع، عسكريون ومدنيون!”.
لوحة: جبران هدايا
قال محدثه “لكن لم نسمع برجل شرطة قام بانقلاب!”.
تأكد عبدالجبّار من وجود لفافة النقود تحت إبطه وعاد لتفقد الركاب، رأى فتاتين جلستا بعيدا عن الركاب قريبا من المرأة المسنة، لا بد أنهما عائدتان إلى القرية بعد زيارة أحد أقاربهما، يعرف إحداهما، فتاة طيبة لا تسيء معاملة الكلاب الضالة، تقوم برعايتها وإطعامها، وتزيح الشوك والأحجار من الطريق، رغم فقر أسرتها وذهابها دائما لرعي الغنم خارج القرية لكنها كانت تجد دائما وقتا لرعاية الكلاب الضالة، وللسمر مع حماد الأعرج (Hammad) الذي يقضي سحابة نهاره تحت أشجار الجميز أو يطارد الكلاب الضالة، ذات مرة ألقم كلبا حجرا، تحطمت بعض أسنان الكلب الذي ساعدته الفتاة الصغيرة وأخرجت له الحجر من بين فكيه.
إنه ليس رجلا سيئا، رغم فقره ومطاردته للكلاب الضالة، لكنه يصبح عدوانيا أحيانا بسبب الملل وكراهيته لثمر الجميز، الغذاء الرئيسي له. ليس هنالك في القانون على كل حال ما يمنع ضرب الكلاب الضالة بالحجارة.
إذن إنه هو، قال عبدالجبّار حين رأى شخصا له شارب ضخم يجلس على مبعدة ويحاول ألا يبدو مباليا بمن حوله رغم أنه كان يتفحص كل شيء، إنه الصافي (Alsafi) الذي لا يعرف له أحد في القرية عملا، لكنه رغم ذلك كان يرتدي دائما ملابس جديدة ويعيش في رغد ويمتلك جهاز تسجيل يرتفع صوته ليلا بأغاني الطمبور حتى أن الصبية كانوا يتجمعون قريبا من بيته للاستماع إلى الغناء. يسافر كثيرا، البعض يقولون إنه يذهب إلى العاصمة ليقامر هناك وإنه يحب المقامرة وحظه ممتاز حتى أن جميع من يلعبون معه كان الفقر يصيبهم بينما تتحسن أحواله هو تدريجيا.
تحركت بوصلة حاسته السادسة تجاه الصافي، لكنه لم يهمل أيضا مراقبة راكب آخر لم يتعرف عليه، لا بد أنه أحد الذين يحضرون إلى القرية أو إلى إحدى القرى المجاورة في موسم قطع التمور ليتسلم حصته من التمر ويعود للمدينة.
بدأت الرحلة، مضى الوقت بطيئا فيما العربة الضخمة تقطع التلال الرملية، درجة الحرارة عالية جدا لكن النسيم الناجم عن حركة العربة يجعل الجو معتدلا، تفقد الجاويش عبدالجبّار الركاب مرة أخرى سرا من موقعه خلف جوال مليء بالأحذية المطاطية. اكتشف أن الصافي كان يراقبه، يا للكارثة! لا بد أنه يفكر في طريقة لسرقة النقود ليلا، لو نجح الرجل في سرقة النقود سيفقد عبدالجبار دون شك وظيفته، وربما يضطر للعمل طوال حياته ليسدد المال للحكومة.
استغرقت المرأة العجوز في النوم وتبعتها الفتاتان بعد قليل. وبسبب التراب الخفيف فوق شعر الفتاتين ووجهيهما بدتا وكأنهما تقدمتا فجأة في السن بسبب جلوسهما جوار المرأة المسنة!
توقفت العربة في مقهى صحراوي ليتناول الركاب طعامهم، كانت الشمس قد مالت للمغيب، نزل جميع الركاب الذين شعروا بالإرهاق الشديد للأكل والراحة وقضاء الحاجة، بقي الجاويش عبدالجبار قليلا بزعم بحثه عن شيء ما في حقيبته حتى نزل الركاب جميعا واتجهوا إلى داخل المقهى فيما انتشر بعضهم لقضاء حاجتهم في الخلاء. عرف الجاويش عبدالجبار أنه بسبب إرهاقه الشديد لن يستطيع منع نفسه من النوم، وأن النقود ستسرق دون شك إن نام هو للحظة واحدة. فكر في مكان يضع فيه النقود، فكر في وضعها في أحد جوالات البضاعة التي يجلسون فوقها أو إخفائها في أحد أجزاء السيارة، أو في الصندوق الذي يضع فيه سائق الشاحنة ومساعديه مؤونتهم من الطعام.
بعد قليل نزل الجاويش عبدالجبار من الشاحنة بعد أن أخفى النقود في المكان الذي اعتقد أنه سيكون الأكثر أمانا، كان الظلام قد أرخى سدوله وبزغ من بين التلال هلال جميل، حين استأنف الباص رحلته. بمجرد بزوغ القمر بدأ الصبي يعزف على طنبوره، ويغني بصوت ملائكي، كأنه استجاب لأمر خفي من القمر بأن يستأنف الغناء. تسللت النغمات الى قلب الجاويش عبدالجبار مثل السحر فاستغرق فجأة في النوم.
مجرد أن مال الهلال إلى النصف الآخر من العالم، وخفت ضوؤه، ومع تعالي غطيط الركاب وتحول نغمات طمبور الفتى النائم إلى صدى أشبه بالهمس، حتى تحرك الصافي للعمل، قام بتفتيش كل شيء وكل شبر في العربة بحذر وخبرة متناهية، شعر عبدالجبار بشخص يفتش حتى حذائه، لكنه لم يهتم به وواصل نومه. كان المساعدان يجلسان في المقدمة فوق صندوق المؤونة يتسامران ويخلدان لنوم متقطع يقطعه صراخ السائق مناديا لهما في بعض الأحيان، بحث الصافي حولهما دون أن يجعلهما يشعران بشيء. فتش متاع جميع الركاب بدقة وصبر، عثر على أحذية مطاط وأحذية محلية مصنعة من جلود الابقار يحملها الركاب هدايا لأقاربهم، عثر على نقود قليلة لم يلمسها، وساعات أطفال بلاستيكية رخيصة الثمن وملابس داخلية متسخة. لكنه لم يعثر أبدا على النقود التي يبحث عنها.
في الصباح حين أشرقت الشمس على العربة المتربة، كان الصافي هو الوحيد المستغرق في النوم بسبب إرهاق سهر البحث عن النقود، توقفت الشاحنة بعد قليل في وجهتها النهائية، أيقظه الجاويش عبدالجبار ثم أشار لحقيبته وسأله هل هذه حقيبتك؟
قال الصافي الذي بدا مرهقا بسبب السهر: نعم.
أمره عبدالجبار: افتحها.
فتح اللص حقيبته، فمد الجاويش يده وسحب مظروف النقود من تحت الملابس المكوية والمرتبة بعناية داخل الحقيبة، وقال: لم أجد مكانا اكثر أمانا لحفظ النقود من حقيبتك هذه!