آفاق الرواية
تُعدُّ الناقدة والقاصة العراقية لطفية الدليمي واحدة من الكاتبات العربيات المنشغلات بهاجس الكتابة السردية على مستوى الإبداع حيث ألفت العديد من الأعمال القصصية والروائية مثل «ممر إلى أحزان الرجال” (1970)، «البشارة” (1975)، «التمثال” (1977)، المجموعة القصصية «إذا كنت تحب” (1980)، «عالم النساء الوحيدات” (1986)، «مَن يرث الفردوس» (القاهرة 1987)، رواية «بذور النار” (1988)، ولها كذلك أعمال مترجمة مثل «بلاد الثلوج” رواية ياسونارى كواباتا (1985)، «ضوء نهار مشرق” و”أنيتا ديساي” (1989)، «من يوميات أناييس نن” دار أزمنة – الأردن (1999)، «شجرة الكاميليا” (قصص عالمية). ولها كذلك نشاط بارز في التحرير حيث عملت في العراق محررة للقصة في مجلة الطليعة الأدبية، ثم مديرة تحرير مجلة الثقافة الأجنبية. ترجمت مؤخرًا كتابًا مهمًّا بعنوان «تطور الرواية الحديثة” من تأليف جيسي ماتز رئيس قسم الأدب وأستاذ النظرية السرديّة في جامعة كينون الأميركية.
الرواية الآن
في عدد مايو 2016 من «الجديد» المعنون بتساؤل إشكالي ملحّ وفقًا للواقع الراهن الذي تمر به الدول العربية «أهو حقًا صراع هويات؟!” قدمت الناقدة العراقية المقيمة في عمّان دراسة مستفيضة أبحرت فيها عن الرواية وإشكالياتها وإرهاصاتها الجديدة، وصراعها مع واقعها الذي خلق بنيات جديدة. وسمت الدراسة بعنوان «عالم الرواية” وعدّدت الأسباب التي جعلتها تتساءل عن الحاجة للرواية الآن، وبسؤالها: لماذا الرواية؟ ومن بين هذه الأسباب ما اعتبرته ميزة للرواية حيث هي بمثابة الذاكرة الجمعية المميزة لكل جغرافية بشرية وهو ما أهّلها لأن تكون خزانة الحكايات التي تحفظ المزايا المجتمعية والأنثروبولوجيّة، وما يتيحه من كتالوج بالعادات والتقاليد وأنماط العيش وفنون الطبخ والأزياء والملابس السائدة في كل عصر، إلى جانب كل التفاصيل الحياتية الأخرى الخاصة بالحب والزواج والصداقة.. إلخ. كما أن الرواية نظرًا لاعتمادها على الخيال كعنصر أساسي لتشكّلها تعدُّ وسيلة مهمّة ترتقي بالخيال البشري وتمنع انزلاقه في مهاوي الركود بعد طغيان الإنجازات العلميّة والتقنيّة التي حوّلت الحياة إلى سلة خوارزميّات.
وبما إن الرواية لُعبة ذهنية في المقام الأوّل فإنها تعمل على إشاعة نوعٍ مُنعش من الحيوية الذهنيّة والعبقرية الإنسانيّة، إضافة إلى اعتبار الرواية أداة ناعمة من أدوات العولمة الثقافية، وما لها من قدرة فائقة على نزع فتيل التأزُّم الروحي والعقلي الناجم عن الشعور بالدونية الثقافية، فصارت الرواية بمثابة القاطرة الثقافية القادرة على جَرّ عربة الثقافة العالمية. لكن من أغرب السّمات التي نسبتها للرواية أنها قد تكون علاجًا خاصة لبعض الاضطرابات الذهنية، وكذلك تعدُّ الرواية دافعًا يتقدَّم على كافة الدوافع البراغماتية في ضرورة الانكباب على تعلّم حزمة من اللغات الأجنبية. وأخيرًا الرواية مَعلم حضاري وثقافي تنهض به العقول الراقية في مختلف الاشتغالات المعرفية، علاوة على أن الرواية باتت مصنعًا يعجّ بالخبرات التي يتعامل معها الروائي ليخرج في النهاية بعمل يصبُّ في هدف فتح آفاق جديدة أمام الوعي البشريّ، وهناك من ذهب إلى أنّ الرواية الجيدة المصنوعة بشغف يمكن عدّها فرعًا من الدراسات الخاصة بالتنبؤ بالمستقبل، وهو ما انعكس على الروائي المتمكن حيث حفته نظرة فيها تقدير باعتباره فردا موسوعيّ المعرفة تمتلئ جعبته بالكثير من العناصر المعرفيّة.
الرواية والثورات
تشير الناقدة إلى العلاقة الوثيقة بين الرواية والثورات؛ حيث ارتبطت الرواية في فترة نشأتها مع بدايات القرن العشرين، بثورات كونية أسهمت بشكل عميق في إعادة رسم المشهد الروائي بالكامل كما حدث مع الثورة التي أحدثتها نظرية النسبية وما أحدثته من تغييرات في التصوّرات والمفاهيم عن طبيعة الزمان والمكان، ثم ما أحدثته النظرية الكمية من خلخلة للمفاهيم النمطية بخصوص التزامن والسببية، لكن الثورة بالغة التأثير في تحديث شكل الرواية هي الثورة التقنيّة، حيث أعادت هذه الثورة تشكيل صورة الإنسان عن المكان والزمان لا على المستوى المفاهيمي مثلما فعلت الثورة الفيزيائية بل على مستوى الإحساس الفردي والتعامل اليومي. وبفعل هذا تحوّل الزمن مِن مفهوم راكد إلى مفهوم ديناميكي يتسم بالتغيّر والنزعة الثورية الدافعة إلى التطوّر.
لوحة: محمد الوهيبي
ثم جاءت الثورة الثالثة وقد كان لها بالغ الأثر في تثوير المشروع الروائي وتحديثه وتمثلت في الثورة السايكولوجيّة التي سعت إلى إعادة تشكيل مفاهيم العقل والحتمية والإرادة الحرّة والدوافع والحاجات. وكلّ هذه المفردات صارت موضوعات اشتغل عليها الروائي المنهمك بالحياة ومعضلاتها.
أما الثورة الرابعة فكانت على المستوى الفلسفيّ، وقد طالت الاشتغالات الفسلفية التقليدية وقد أثمرت كشوفات فلسفية جديدة مثل التحليل اللغوي والنزعة التحليلية، وهو ما انعكس على اللغة الروائية، فتخلت عن ثوبها القديم المحتشد بالرطانات اللغوية الفخمة والاستعارات البلاغية المحتشدة، وحلَّت محلها لغة مقتصدة تحتكم إلى معايير الانضباط ومقاربة الأهداف بلا وسائل التفافية على صعيد اللغة. كما كان للثورة الليبرالية التي دعا إليها جون ستوارت مل، بما حملته أفكاره عن الفردانية من تأثير طاغٍ على جوانب الحياة المختلفة، فعلى الصعيد السياسي قادت الليبرالية لتوسيع المشاركة الفردية في الحياة السياسية وتحجيم الفكر الشمولي والطغياني والتأكيد على حقوق الطفل والتركيز على حقوق الإنسان، وعلى الصعيد الاقتصادي قادت الليبرالية إلى الارتقاء بنوعية الحياة، وتحديد ساعات العمل، والحد الأدنى للأجور وظهر إلى الحياة مفهوم دولة الوفرة، وطبَّقت برامج الحماية الاجتماعيّة وبرامج التأمين الصّحيّ وهو ما عزَّز من قدرة الفرد اقتصاديًّا وتعزيز شعوره بالأمان الذاتيّ تجاه الفاقة والمجاعة، أما في مجال الثقافة فقد فتحت الليبرالية آفاقًا واسعة أمام أنماط تجريبية مُستحدثة من الأفكار والفلسفات، والجدير بالذكر أن بدايات القرن العشرين التي شهدت نشوء الرواية الحديثة هي ذاتها التي شهدت ولادة وانطلاق الحركات الثقافية ذات الطبيعة الثورية مثل السريالية. كما ساهم الحس الفرداني إلى تهشيم القيود الثقيلة التي تكبّل الفرد من جهة والتي عملت على تشظية فضائه العقلي والنفسي وأطاحت بحسّ الطمأنينة والسكينة والانتماء.
على الرغم من التأثير البالغ لهذه الثورات الخمس في إعادة تشكيل المشهد الروائي فإن المساهمة المشتركة التي قدمتها هذه الثورات مجتمعة في الميدان الروائي هي التأكيد على التشظي الذي أصاب الزمان والمكان والعقل البشري والروح الإنسانية والعلاقات بين البشر وعلاقات البشر مع البيئة المحيطة بهم.
السرديات الصغرى
تتساءل المترجمة في مقدمتها عمّا بعد الرواية الحديثة؟ حيث ترى أن الرواية الحديثة ساهمت في تخليق أنماط روائية جديدة، يمكن عدّها امتدادات طبيعية لها وليست منقطعة الجذور، ومن هذه الأشكال ما حصرته في الرواية ما بعد الحداثية وهي الرواية التي تخلت عن المركزيات والسرديات الكبرى التي كانت سائدة من قبل لحساب الهامش والاقتصار على مقطع زمني ومكانيّ صغير ولمعضلة محددة، ومنها أيضًا رواية ما بعد الكولونياليات، وهي الرواية التي نشأت في الجغرافيات التي كانت تعتبر تقليدًا جزءًا من المستعمرات الكولونيالية المهيمنة، وقد غلب عليها الاشتعال بالسياسة إلى جانب النزعة إلى التطهير، وبعضهم يرى إحداث قطيعة مع لغة المستعمر السابق وإحلال لغات محلية بدلا عنها.
وإن كانت هجرة بعض الأفراد من جغرافيات الهوامش إلى المراكز الكولونيالية سمحت بنشوء أطفال في بيئات ثقافية هجينة تحوز سمات كلّ من ثقافة المركز والهامش معًا، وهو ما عُرف بالرواية ما بعد الحداثية، فإن رواية التعددية الثقافية شهدت إعلاء فكرة التسامح والتعددية الثقافية والحفاظ على موروثات الشعوب بما فيها البدائية وطقوسها الفلكلورية. ويمكن تمييز أنواع ثلاثة لها؛ الرواية التي تعتمد على الموروثات الشفاهية البدائية، والرواية المهاجرة وهو النوع الذي يرمي إلى استكشاف المعضلات التي يُعانيها المهاجرون بين جغرافيات ثقافية مختلفة وقد نشأ هذا اللون بعد طغيان العولمة الثقافية وتزايد موجات الهجرة، وأخيرا رواية جماعات الأقلية، وهي التي تأتي تعبيرًا عن أصوات الأقلية التي اتخذت من الرواية فضاءً صوتيًّا كتأكيد على صوتها. وآخر الأنماط الروائية حسب الدليمي هو الرواية الرقمية، فالنص الفائق من منظورها هو نص على شاشة الحاسوب عند النقر عليه يقود المستخدم إلى معلومات أخرى. وتبرز أهمية هذه النصوص أنها تتغلّب على قيود النص المكتوب؛ إذ لا تبقى ثابتة كالنّصوص التقليدية، بل يمكن للقارئ كما تقول الكاتبة «تنظيم المعلومات بواسطة روابط ووصلات تعرف بالروابط التشعّبية”.
تنبع أهمية الدراسة التي يمكن وصفها بأنها موجزة ومركّزة، في أنها أبحرت في النظرية الروائية وأحاطت بكافة المستجدات التي أحدثت تغييرات في مفهوم الرواية، بتعدد أنواعها أو وظائفها التي تجاوزت التسلية والمتعة إلى أفاق جديدة وصلت بها لأن تكون بمثابة الذاكرة الجمعية للشعوب.