الخطاب الدرامي
خصصت مجلة «الجديد” عددها (السابع عشر) بكامل صفحاته للنصوص المسرحية، فكان هو العدد الثاني الخاص الذي تكرسه إدارة تحريرها لجنس أدبي محدد، حيث سبق لها تخصيص العدد الخاص الأول (عددها الخامس) للقصة العربية القصيرة، وأستطيع أن أقرر بكل الصدق والموضوعية -بعيدا عن تحيزي لعالم المسرح عشقي الأول- بأن عدد المسرح الأهم على كل المستويات الأدبية والفنية، وذلك نظرا للدور الكبير الذي يمكن أن يشارك به المسرح -إذا أحسن توظيفه- في نشر الوعي الثقافي والفني والارتقاء بمستوى التذوق العام والمشاركة في معارك التنمية.
جاء في افتتاحية العدد أن من بين أهداف تخصيص العدد للنصوص المسرحية تقصّي حال الكتابة المسرحية العربية حاليا، وبيان مدى التطور الذي وصلت إليه بعد قرن ونصف القرن من التأليف المسرحي في الثقافة العربية، بالإضافة إلى إتاحة الفرصة لكلّ من القراء وأهل المسرح على نحو خاص للاطّلاع على الإبداعات المسرحية الحديثة لنخبة من الكتاب والمسرحيين العرب الذين يمثلون عددا كبير من الدول العربية الشقيقة. والحقيقة أن العدد وبرؤية نقدية محايدة قد نجح وبشكل كبير في تحقيق أهدافه المنشودة، ويكفي أن نرصد ونسجل أنه قد تضمن نشر سبعة عشر نصا مسرحيا جديدا تنشر ولأول مرة لنخبة من الكتاب يمثلون ثماني دول عربية شقيقة، وذلك بالإضافة إلى أن هذه النصوص قد تنوعت بانتمائها إلى أنماط وقوالب مختلفة، وإن غلبت عليها سمة «المسرحيات القصيرة”، حيث تضمنت نصوصا تنتمي إلى المسرح الدرامي الحديث (مسرح اللامعقول ومسرح مابعد الحداثة)، بالإضافة إلى عدد من مسرحيات «المونودراما” (الممثل الواحد) والديودراما (المسرحيات الثنائية)، وذلك بخلاف تضمنها لبعض المسرحيات التقليدية التي يمكن إدراجها تحت مسمى «الواقعية الاجتماعية”.
وحسنا فعلت إدارة تحرير المجلة حينما قررت تخصيص ملف كامل في العدد اللاحق يتضمن الرؤى النقدية لنخبة من النقاد، وذلك استكمالا لتحقيق الأهداف المنشودة ومنها إلقاء الضوء على بعض النصوص المسرحية المتميزة، وتعظيم الفائدة المرجوة منها بلفت أنظار المتخصصين بصفة عامة والمخرجين بصفة خاصة إلى مناطق القوة والضعف في كل منها، وكيفية تعظيم الإيجابيات وتلافي السلبيات عند المبادرة بتقديم بعضها على خشبات المسارح.
ويطيب لي قبل الشروع في التناول النقدي لبعض النصوص تحديد تعريف «المسرحيات القصيرة”، وذلك لبيان مدى التزام كل مؤلف بهذا التعريف عند مشاركته بتقديم إبداعه المسرحي.
بداية يجب أن نقرر أن ظاهرة تغير وتطور الأشكال التعبيرية ضمن الفن الواحد أو الجنس الأدبي الواحد ظاهرة مستمرة عبر الزمن في مختلف الآداب والفنون، وبالتالي فإن مسرحية «الفصل الواحد” -وهي شكل أو قالب متطور من أشكال «المسرحية القصيرة”- قد مرت بمراحل مختلفة من الازدهار والانحسار، وذلك طبقا لاختلاف الظروف الأدبية والاجتماعية والسياسة، ولكنها مع ذلك ظلت عبر الزمان متواجدة سواء بالنشر أو عن طريق تقديمها على خشبات المسارح وخاصة من خلال فرق الهواة.
ويوضح الأديب العالمي رولان لويس أهم سمات تلك المسرحيات القصيرة بقوله «إن المسرحية ذات الفصل الواحد تقدم قصة مهمة بإيجاز مع عرض صورة كاملة لجوانبها، وذلك عن طريق تحليل حدث درامي بصورة بارعة والكشف عن جذوره من خلال سياق محكم الصنع، ولذا فهي تعتمد بالدرجة الأولى على التقاط جزء من تجربة مهمة أو أزمة إنسانية مفاجئة وقصيرة، ونستطيع من خلالها أن نستشف ونتعرف على باقي التفاصيل الأخرى، وبالتالي فهي لا تولد إلا على يد كاتب مسرحي خبير في صنعته”، ويتضح مما سبق أن مسرحية «الفصل الواحد” -مثلها مثل القصة القصيرة أو القصيدة القصيرة- إما أن تكتب جيدا أو ألاّ تكتب إطلاقا.
وجدير بالذكر أن عددا كبيرا من المبدعين المسرحيين قد نجحوا في توظيف وحدة المسرحيات القصيرة -وما تتطلبه من اقتصاد في عدد الشخصيات والرسم الدقيق لها مع الالتزام بوحدتي الزمان والمكان فضلا عن وحدة الموضوع من جهة ثانية- ومن بينهم على سبيل المثال كل من: أنطوان تشيكوف، ج. ب. بريستلي، ج. ل. جالواي، نيل جرانت، جون كورني، أوجست سترندبرج، تنسي ويليامز، صمويل بيكت، يوجين يونسكو، وكذلك جون ميلنجتون سينج والذي أبدع في رائعته «الراكبون إلى البحر”، والتي يعدها عدد كبير من النقاد أفضل مسرحية قصيرة، وذلك نظرا لأنها من المسرحيات القصيرة النادرة التي يمكن وصفها بالتراجيديا الكاملة بكل معاني الكلمة.
ويتّضح ممّا سبق أن تقييم المسرحية ذات الفصل الواحد وتحديد قيمتها الفنية يعتمد بالدرجة الأولى على مدى مهارة الكاتب في اختيار الموضوع (الموقف)، وفي تحديد نقطة البداية أو الانطلاق، وكذلك قدرته على الإسراع في إظهار العناصر الدرامية ووضعها في بؤرة حادة بتوظيف لغة التكثيف الدرامي للوصول بأسرع ما يمكن إلى تقديم الخطاب الدرامي (الفكرة المركزية للمسرحية).
تصنيف المسرحيات
تنوعت المسرحيات السبعة عشر المنشورة في العدد الخاص بالمسرح كثيرا فيما بينها، كما تباينت كثيرا في مستوياتها الفنية، كذلك اختلفت جنسيات كتابها وأعمارهم وتجاربهم وبالتالي ثقافاتهم وتوجهاتهم السياسية، وقد انعكست تلك الاختلافات بالطبع على إبداعاتهم المسرحية. ويمكنني من خلال رصد وتصنيف سريع لمجموعة النصوص أن نسجل الحقائق التالي:
أولا- شارك بتقديم المسرحيات سبعة عشر كاتبا يمثلون ثماني دور عربية شقيقة كما يلي: العراق (خمس كتاب): عقيل مهدي (صاحب الأثر)، عواد علي (أصوات الغابة)، صباح الأنباري (دولة السيد وحيد الأذن)، حازم كمال الدين (ذئب البوادي)، ناهض الرمضاني (فكرة)، سوريا (كاتبان): مصطفى تاج الدين الموسى (عندما توقف الزمن في القبو)، أحمد إسماعيل إسماعيل (قبل أن يأتي الربيع)، الأردن (كاتب واحد): مفلح عدوان (تغريبة ابن سيرين)، السعودية (كاتبان): عباس الحايك (كونتينر)، صالح زمانان (نوستالجيا)، اليمن (كاتب واحد): وجدي الأهدل (جريمة قتل في شارع المطاعم)، مصر (كاتبان): درويش الأسيوطي (أكاذيب صغيرة)، مختار سعد شحاتة (كوكب الذكورة)، تونس (كاتبان): حمادي المزي (حالة حصار)، حسن المؤذن (صمت النوافير)، المغرب (كاتبان): زبير بن بوشتة (الإضاءة الأولى)، الحسن بنمونة (أناشيد الربيع والخريف)، وللأسف افتقدنا إبداعات كتاب بعض الدول العربية الأخرى ومن بينها: فلسطين، الجزائر، ليبيا، السودان، لبنان، وباقي دول الخليج العربي.
ثانيا- كشفت المسرحيات والتعريف بجنسية كتابها مدى قسوة الوضع الراهن لدول الوطن العربي والمبدعون به حاليا، ويكفي لتأكيد مدى قسوة الصورة أن نذكر أن من بين هؤلاء المبدعين السبعة عشر كتاب بالمهجر ومن بينهم: عراقيان أحدهما مقيم ببلجيكا (حازم كمال الدين) وآخر بالأردن (عواد علي)، وسوريان مقيمان بتركيا (كل من: أحمد إسماعيل إسماعيل، مصطفى تاج الدين الموسى )!، وكم كنت أتمنى أن تضاف معلومات كاملة عن كل مبدع من المؤلفين السبعة عشر وإبداعاته الأخرى تعظيما للفائدة.
ثالثا- تميزت مجموعة النصوص المنشورة بصفة عامة بتناسبها ومواءمتها مع لغة العصر وسرعة إيقاعه، وكذلك بتأثر أغلبها بثورات الربيع العربي وبالشعارات والمطالب العادلة التي رفعتها وفي مقدمتها الحرية والعدالة، وقد تضمن عدد كبير منها انتقادات لأساليب القمع الفكري بالدول البوليسية والتنديد بالسياسات الاستبدادية وأساليب التجسس على نوايا الناس وحرياتهم، وكذلك تضمنت المطالبة بإغلاق المعتقلات ومنح مساحات أكبر من الحرية، وأيضا لم تَخلُ أغلبها من توجيه نقد فرعي أو جانبي لبعض مشكلات أخرى سواء سياسية أو اجتماعية.
رابعا- تضمنت هذه المجموعة من النصوص -السبعة عشر- عددا كبيرا من نصوص «المونودراما” -أو هكذا أطلق عليها- وبالتحديد خمسة نصوص وهي: «تغريبة ابن سيرين” للكاتب الأردني مفلح عدوان، «عندما توقف الزمن في القبو»، للكاتب السوري مصطفى تاج الدين الموسى، «أناشيد الربيع والخريف” للكاتب المغربي الحسن بنمونة، «فكرة” للكاتب العراقي ناهض الرمضاني، «نوستالجيا” للكاتب السعودي صالح زمانان”، وذلك بخلاف نصين آخرين يقتربان في طبيعتها بدرجة كبيرة من نصوص «المونودراما” وهي: «الإضاة الأولى” للكاتب المغربي زبير بن بوشتة (حيث يعتمد النص بالدرجة الأولى على شخصية «مريودة” حارسة القبور أو شخصية «أنطيوس» في اللوحة التالية)، و”صمت النوافير” للكاتب التونسي حسن المؤذن (حيث يعتمد النص بالدرجة الأولى على شخصية «الشيخ” الذي يلقي القصيدة، وما حوار الجوقة سوى ترديد لبعض المقاطع).
أصوات الغابة” للكاتب العراقي عواد علي، وهو تكييف مسرحي أو بتعبير أدق إعادة كتابة للنص العالمي «النصب التذكاري” لكولين واغنر، ويعد هذا النص من أفضل نصوص المجموعة بل لا أبالغ إذا اعتبرته نموذجا مثاليا للمسرحيات القصيرة، خاصّة وقد نجح الكاتب في تقديم نص متميّز محكم البناء
خامسا- تضمنت المجموعة أيضا خمس مسرحيات يمكن تصنيفها تحت مسمى المسرحيات الثنائية «ديودراما” وهي: «كونتينر” للكاتب السعودي عباس الحايك، «حالة حصار” للكاتب التونسي حمادي المزي، «صاحب الأثر” للكاتب العراقي عقيل مهدي، «أصوات الغابة” للكاتب العراقي عواد علي، «قبل أن يأتي الربيع” للكاتب السوري أحمد إسماعيل إسماعيل، والحقيقة أن نصوص هذه المسرحيات الخمسة تعد من أفضل النصوص التي تضمنتها المجموعة، بل إن بعضها يمكن أن اعتباره نموذج مضيء ومثالي للمسرحيات القصيرة، حيث اتسمت باستجابة القيم التعبيرية في الشكل للقيم الشعورية في المضمون، وبالتالي فقد تجلّت وحدة الشكل والمضمون ارتباطا وانسجاما.
سادسا- تضمنت مجموعة المسرحيات مسرحيتين يمكن أن نطلق على كل منهما صفة «مسرحية قصيرة جدا جدا”، وهما بالمصادفة لكاتبين من تونس.
-1 «حالة حصار” للكاتب التونسي حمادي المزي وهي مسرحية جيدة محكمة الصنع، وكتب حوارها بلغة شاعرية بليغة، والحدث الدرامي يعتمد على شخصيتين هما «ناظم” الشاعر الثوري الرومانسي، و”منور” شريكة حياته ونضاله ووالدة أبنائه، ومن الواضح أن هذا الحدث الدرامي يتكرر كثيرا، وهو اعتقال «ناظم” أو إلقاء القبض عليه من قبل مجموعة من الجنود تمثل عدة دول (جندي تركي وفرنسي وإنكليزي وإيطالي) والدلالة واضحة بالطبع وهي عدم استقلالية بلادنا وتربص الدول الأجنبية بنا. وقد نجح المؤلف بجدارة في توصيل الحدث الدرامي وبيان الحالة الشعورية لشخصياته الدرامية من خلال حوار تلغرافي بليغ كما يتضح من تلك العبارات:
منور: لعلهم سيأتون إلى بيتنا خلال دقائق.. وسينقضّون عليك كالكلاب المسعورة، وسيسوقونك إلى السجن برفقة كتبك.
ناظم: أنا داخل جدران السجن وأنت بخارجها أسوأ شيء نفكّر فيه أن نحمل في أنفسنا السجن.. إنّ وضع الآمال في أدراج المستقبل يقينا السقوط في خيبة الحاضر.
-2 «صمت النوافير” للكاتب التونسي حسن المؤذن، وقد قدمها المؤلف تحت عنوان: مقطع من نصّ مسرحيّ، وهو بالفعل مجرد مقطع ولو شئنا الدقة مجرد مقطع من قصيدة متميزة -تحمل بعض الأفكار والمعاني النبيلة- جاءت على لسان «الشيخ”، ليتباكى من خلالها على الأوضاع العربية المعاصرة، ويشاركه الإلقاء أفراد الجوقة فيرددون بعض كلماته كما يقومون بتحذيره بين فقرة وأخرى بعبارة: الطّطر قادمون (التتار قادمون)، ليختتموا النص أو نهاية القصيدة بقولهم: من أين لي بعشبة مسكرة فلا أرى ما أرى.. فهذي المسالك جمر والمدى مقبرة.
ويتضح مما سبق أن النص يفتقد للحبكة الدرامية وللأحداث والشخصيات وبالتالي لا يمكن -من وجهة نظري- تصنيفه في إطار المسرحيات القصيرة، مهما حاولنا إدراجه تحت مسميات حرية الإبداع ونصوص ما بعد الحداثة وغيرها من المصطلحات المخادعة التي قد يحاول البعض توظيفها لفرض أعمالهم.
سابعا- مسرحيات خارج الإطار: وهي مجموعة المسرحيات التي لا تنطبق عليها -من وجهة نظري- مواصفات المسرحيات القصيرة أو السمات العامة لها، ولعل من أهمها- كما أوضحنا- الاعتماد على لغة التكثيف الدرامي وقصر زمن تقديمها وقلة عدد الشخصيات الأساسية بها، وتندرج تحت هذا التصنيف مسرحيتان هما:
-1 «ذئب البوادي” للكاتب العراقي حازم كمال الدين، والتي تدور أحداثها في عالم الخرافات والأساطير وأجواء ألف ليلة وليلة، ويدور الصراع فيها بين عالم الإنسان وعالم الجان، وعدد الشخصيات الرئيسة سبع شخصيات (ذئب البوادي، الراعي، الجنية، موسيقي، شيخ الجان، شيهانة، التنين)، كما أن الزمان يعتمد على تتابع لا منطقي بين العصور الغابرة والمعاصر. والنص طويل ويتكون من ثمانية مشاهد أو أسفار، ويدور كل منها في مكان مختلف، والشخصيتان المحوريتان هما «ذئب البوادي” و”الجنية” التي تظهر له كل مرة بشكل مختلف حتى بعد موتها أكثر من مرة، وذلك مع احتفاظها في كل مرة بالخاتم الدمشقي.
والحقيقة أن النص يؤخذ عليه بصفة عامة غلبة السرد وغياب الأفعال الدرامية، التي تتيح الفرصة لتصاعد الصراع، وذلك بالإضافة إلى غياب الخطاب الدرامي الذي يتناسب مع الأحداث الراهنة والتحديات التي تواجهها مجتمعاتنا العربية.
-2 «كوكب الذكورة” للكاتب المصري مختار سعد شحاتة، ويتناول الكاتب من خلال هذا النص قضية معاصرة مهمة وهي غياب الرعاية الصحية ومعاناة الإنسان المعاصر للحصول على العلاج المناسب خاصة في حالات المرض الفيروسي للكبد، وهو يكشف برؤية انتقادية الإهمال الشديد في المستشفيات العامة وكيفية المتاجرة بآلام المرضى، واكتفاء السادة المسؤولين وفي مقدمتهم وزير الصحة بمجرد إصدار التصريحات الوردية بوسائل الإعلام. والحقيقة أنه برغم نجاح المؤلف في تصوير هذه المعاناة وتفاصيلها الدقيقة إلا أنه قدم نصا لا يمكن إدراجه تحت مسمى”المسرحيات القصيرة”، كما لم يوفق في تقديم حبكة درامية محكمة الصنع، فالنص يتكون من ست لوحات طويلة، وخاصة اللوحة الثالثة التي تتكون من أربعة مشاهد، وقد افتقدت الحوارات للأسف إلى لغة التكثيف الدرامي كما افتقدت إلى تلك اللغة الشاعرية المنشودة فجاءت أقرب ما يكون إلى اللغة الحياتية الدارجة.
المسرحيات المتميزة
تتضمن مجموعة النصوص القصيرة المنشورة بالعدد السابق عددا لا بأس به من المسرحيات المتميزة، وبالتالي يصعب بل ويستحيل -من خلال تلك المساحة المحددة- تناول كل منها بالتفاصيل نقديا، حيث يتطلب الأمر تخصيص مقال نقدي لكل مسرحية على حدة، ولكن في محاولة لتعظيم الفائدة رأيت تناول ست مسرحيات متميزة منها، هذا مع مراعاة تمثيلها لأكثر من شكل أو قالب فني، بالإضافة إلى طرحها ومعالجتها لقضايا مختلفة على مستوى المضمون، وذلك بخلاف مراعاة عدم تكرار المسرحيات التي سبقت الإشارة إليها أو التي سوف نشير إليها عند تناول نصوص «المونودراما”.
-1 «كونتينر” للكاتب السعودي عباس الحايك: تدور الأحداث الدرامية في مخيم للاجئين في مكان ما في هذا العالم، والمسرح عبارة عن «كونتينر” معدني مخصص للاجئين، والشخصيات الرئيسة الزوج والزوجة وبالتالي يمكن اعتباره نصا ثنائيا «ديودراما”، خاصة وأن المشاهد التي تشارك بها الشخصيات الثانوية (الشرطي والمحقق) هي مشاهد استرجاع لأحداث الماضي «فلاش باك”، وبرغم إعجابي الشديد بهذا النص سواء على مستوى المضمون أو التكنيك وحبكته الدرامية المتميزة -والذي أعتبره من أفضل نصوص المجموعة- إلا أنني كنت أفضّل حذف المشاهد الثلاثة الخاصة بالعودة للماضي (الفلاش باك)، وأقصد كلا من المشهدين الثاني والرابع (التحقيق مع الزوج) والمشهد السادس (بداية انخراطه في العمل السياسي)، حيث أن تواصل الحدث الآني وانعكاس معاناة الزوجين كفيل بإثارة الخيال واستنتاج الأحداث الدرامية السابقة. ويحسب للكاتب براعته في رسم وتحديد أبعاد شخصياته الدرامية وخاصة «الزوجة” مدرّسة الموسيقى و”الزوج” الصيدلي، بالإضافة إلى مهارته في كتابة الحوار والحفاظ على الإيقاع العام لكل مشهد.
-2 «صاحب الأثر” للكاتب العراقي عقيل مهدي، هذا النص من النصوص الجيدة والمتميزة جدا بالمجموعة، حيث نجح الكاتب في تقديم حبكة درامية مشوّقة ومنضبطة الإيقاع، وذلك بالرغم من أنها تتكون من خمسة وعشرين مشهدا قصيرا جدا، والصراع الرئيسي يدور بين شخصيتين هما «الرجل المشهور” و”الصحافية”، وقد نجح الكاتب في رسم وتحديد الملامح الشخصية والأبعاد الدرامية لكلّ منهما، وفي رسم وتحديد ملامح الشخصيات الدرامية، كما نجح في إدارة الحوار بصورة تلغرافية سريعة ومعبّرة خاصة وأن النص يعتمد بدرجة كبيرة على الناحية السيكولوجية، وتقديم نماذج مريضة بالسادية وأيضا بالماسوشية، وتدور أحداث العرض حول عالم الزيف والنفاق وتعدد الأقنعة وتضارب المعلومات وضياع الحقائق، وعن تجار الكلمات المخادعة والمواقف الزائفة.
وجدير بالذكر أن الكاتب قد قدم الختام الأول لنصه مع نهاية المشهد السادس عشر، ثم قام بتقديم الختام الثاني والأخير مع نهاية المشهد الخامس والعشرين، وذلك لأنه اختار استكمال الجزء الثاني بهدف كشف أوراق اللعبة بلا زيف فكما جاء بالحوار على لسان المرأة «الموتى لا يكذبون” .
-3 «أكاذيب صغيرة” للكاتب المصري درويش الأسيوطي، وتدور أحداثه الدرامية في إطار من الفانتازيا المسرحية، والحقيقة أنه بالرغم من كثرة عدد الشخصيات الدرامية التي تشارك في الحدث إلا أنه يمكن تصنيف النص في إطار المسرحيات القصيرة وذلك نظرا لالتزام كاتبه بلغة التكثيف الدرامي وقصر مدة العرض، وذلك بخلاف أن أغلب هذه الشخصيات هي شخصيات نمطية غير محددة الأبعاد وبالتالي يمكن حذف أحدها أو بعضها وتوزيع حواراتها دون تأثير كبير على الحبكة الدرامية، خاصة وأن حوارات بعضها غير مرتبط بتلك الأبعاد الدرامية التي حاول المؤلف وصفها لكل شخصية.
ويتناول النصّ بصورة ساخرة ذلك الصراع المستمرّ بين الأجيال وكذلك علاقة الشعب أو جموع العامة بالسلطة (التي يمثلها كل من محليا الشيخ، وعالميا العالم)، ومدى قدرتها على تقديم جميع أشكال المسكنات للتهدئة، حتى ولو بالاستعانة بتوظيف بعض الشعارات أو عرض بعض المشروعات الوهمية أو المبالغة في التحذير من الأخطار الخارجية والمؤامرات التي تدبر ضد الوطن.
لوحة: محمد الوهيبي
والخطاب الدرامي للنصّ خطاب مهمّ وجاد فهو يتصدى لقضية «العولمة” ويحذّر من أخطارها، ويكشف حقيقة المؤامرات التي تدبّرها بعض القوى العالمية حتى تجبرنا على عدم الاحتفاظ بهويتنا العربية، وبرغم حرص الكاتب على عدم الوقوع في دائرة المباشرة أو اللغة الخطابية إلا أنه اضطر في نهاية المسرحية إلى تأكيد تحذيره، وذلك من خلال ما صرح به «العالم” الذي يمثل القوى الغربية حيث قال «التاريخ الإنساني أيها الأصدقاء.. دائرتان.. فاعل.. ومفعول به.. لقد كنا في يوم من الأيام في الدائرة الثانية..! يومها جئتم أنتم لكي تمارسوا الفعل الحضاري بشروطكم.. من فوق ظهور خيولكم.. والآن.. جاء دورنا نحن لنعبر إليكم فوق آلاتنا..! ونمارس نحن الفعل الحضاري الذي توقفتم أنتم عن ممارسته..!! وبإتقان..”.
- وذلك بخلاف تضمّن المجموعة ثلاثة نصوص أخرى جيدة وطريفة يستحق التوقف عند كلّ منها، وذلك لتفرّدها وتميّزها والنصوص الثلاثة هي:
-4 «أصوات الغابة” للكاتب العراقي عواد علي، وهو تكييف مسرحي أو بتعبير أدق إعادة كتابة للنص العالمي «النصب التذكاري” لكولين واغنر، ويعد هذا النص من أفضل نصوص المجموعة بل لا أبالغ إذا اعتبرته نموذجا مثاليا للمسرحيات القصيرة، خاصّة وقد نجح الكاتب في تقديم نص متميّز محكم البناء، وفي توظيف التكثيف الدرامي ولغة الإيجاز لكتابة حوار معبّر ويتسم بالشاعرية والبلاغة، و من خلال ستة مشاهد قصيرة قدم حبكة محكمة الصنع، اعتمدت على شخصيتين فقط هما: زعور الجندي الأسير (20 سنة) وكريمة أرملة شهيد ووالدة شهيدة (50 سنة). والنص حافل بالإيجابيات ومن بينها القدرة على إثارة التشويق ويكفي أننا لم نتعرف على العلاقة بين الشخصيتين الرئيستين إلا بالمشهد الرابع، كما يحسب له إلقاء الضوء على الواقع الراهن بصورة إنسانية غير مباشرة. والخطاب الدرامي خطاب جاد ومهم يؤكد مدى بشاعة الحروب وما تخلفه من خراب ودمار ليس على مستوى المنشآت فقط ولكن في النفس البشرية أيضا، التي فقدت إنسانيتها بعدما أصيبت بشهوة العنف والاغتصاب والقتل.
-5 «الإضاءة الأولى” للكاتب المغربي زبير بن بوشتة، وهو يتكون من أكثر من إضاءة، والرابط بينها هي العلاقة بين الموت والحياة، ويتميز النص باعتماده على مجموعة من المراجع الأدبية في كل إضاءة، ومن بينها على سبيل المثال اعتماده على السيرة الذاتية للكاتب المغربي الشهير محمد شكري وعلى بعض مؤلفاته وبالتحديد «الخبز الحافي” و”زمن الأخطاء”، واعتماده في الإضاءة الثانية على ديوان مولانا الحلاج الحسين بن منصور، وبالتحديد على قصيدة «روحان في جسد”.
-6 «دولة السيد وحيد الأذن” للكاتب العراقي صباح الأنباري، فهو نص درامي محكم الصنع بالرغم من اعتماده على عدد كبير من الشخصيات الدرامية وكثرة الأحداث المتتالية به والتي تضمنت اندلاع حرب بين دولتين!، والطريف أنه نص صامت ويتكوّن من خمس مُصْمَتات (مشاهد صامتة) بتعبير مؤلفه!
المونودراما شكلا ومضمونا
جدير بالذكر أن السنوات الأخيرة من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين قد شهدت بعض الظواهر المسرحية اللافتة للنظر والتي تستحق التسجيل والدراسة، ومن بينها انتشار عروض «المونودراما” بمختلف الدول، وتنظيم بعض المهرجانات المتخصصة في هذا المجال، ومما لا شك فيه أن هذا الشكل أو القالب المسرحي قد انتشر لأنه أصبح مناسبا لإنسان القرن الحادي والعشرين بقدرته على التعبير عن إحساسه بالغربة والوحشة، وعن تلك الضغوط المختلفة التي يتعرض لها، وكذلك بقدرته على التعبير عن طموحاته وآماله، وبالتالي قد تنجح بعض هذه العروض في أن تصبح مساندة له أيضا في بحثه الدائم عن ذاته، ورغبته في التخلص من ذلك العالم القاسي الذي يتسم بالقسوة والوحشية.
ونظرا لارتفاع نسبة عروض «المونودراما” (أكثر من 35 بالمئة من إجمال النصوص)، أرى أهمية تأكيد بعض المفاهيم الأساسية حول هذا القالب المسرحي، خاصة وأن الحقيقة التي يجب تسجيلها في البداية هي أنه بالرغم من جميع الاجتهادات القيمة لنخبة من كبار الأساتذة الأكاديميين والمسرحيين بالوطن العربي إلا أننا مازلنا نعانى كثيرا من غياب بعض المفاهيم الواضحة التي تحدّد وبوضوح ملامح نصوص «المونودراما” كشكل أدبي وفنيّ هام بعيدا عن تلك التعريفات التنظيرية والمصطلحات المتداخلة والمغلوطة والتي قد تساهم في مزيد من التشويش والخلط بين عروض الممثل الواحد، أو ” one man Show” وبين مسرحية الفصل الواحد أو بين تلك الإشكال التي تتخذ من صيغة الراوي إطارا لها أو تلك التي تعتمد على فنون الارتجال والتحاور مع الجمهور، وقد ظهر للأسف هذا التشويش والخلط جليا من خلال التطبيق العملي ببعض النصوص التي تضمنتها المجموعة.
بداية يمكن تعريف فن «المونودراما” بأنه فن سبر أغوار النفس البشرية، والدخول في المجادلات العقلية، ومناقشة كثير من الهموم الحياتية التي تحيط بالإنسان، وبالتالي فهي تحتاج في البداية إلى مثل ذلك الحدث المؤثر الذي يحرك مشاعر الشخصية المحورية ويدفعها إلى اتخاذ أفعال أخرى بحيث تتصاعد وتتكامل تلك الأفعال.
والملاحظة التي يجب تسجيلها أولا هي أن عروض «المونودراما” بطبيعتها تقوم بفصل البطل الفرد عن محيطه الاجتماعي، حيث تجعل مسرح الأحداث هو النفس البشرية، ولذا وبسبب غياب الآخر يضطر المؤلف إلى إيجاد مبررات درامية أو منطقية تبيح للشخصية الدرامية المحورية أن تكون وحدها صاحبة الحق في التواجد وتقديم وجهة نظرها الخاصة، وبالتالي يصبح الفعل المسرحي رهنا بأفعالها هي وحدها.
والذاكرة وأحداث الماضي هما العالم الأكثر فعالية، والذي تتمركز حوله اللحظات «المونودرامية”، والتي هي في واقعها وحقيقتها لحظات سردية، فالذاكرة هي المساحة الوحيدة التي يمكن من خلالها استحضار الشخصيات الغائبة القادرة على خلق الصراع، ولكن حينما يتم استحضار تلك الشخصيات الغائبة من خلال هذه الشخصية المحورية فإننا لا نرى أصحابها كما هم في واقعهم وحقيقتهم، ولكن كما تراهم الشخصية بذاكرتها وانطباعاتها، لذلك نجد أن معظم نصوص «المونودراما” تسقط في جبرية الثنائية الزمنية (الماضي-الحاضر)، واللذين يشكلان معا البنية الأساسية للنص.
والكاتب لنص «المونودراما” يحتاج في البداية إلى اختيار شخصية محورية فاعلة ومؤثرة، وقادرة على تقديم الكثير من الأفعال كنتيجة لتعرّضها لكثير من الضغوط النفسية والخارجية، والتي قد تدفعها إلى حافة الانهيار أو الجنون، وبالتالي تسمح لها بدخول منطقة البوح والتعبير عن الخلجات النفسية والمشاعر الإنسانية بصدق دون تزييف أو خداع. والمؤلف وهو يختار تلك الشخصية الدرامية التي تتسم بالثراء يجب أن يراعي الكثير من المحاذير أثناء صياغته للحبكة الدرامية الأساسية ولتلك الصراعات الفرعية التي تغذي الصراع الأساسي والرئيسي، بحيث يجب أن يتجنب قدر الإمكان الوقوع في شرك المناطق السردية، وكذلك يجب تجنب تلك المناطق الحوارية التي يدور الحوار فيها مع بعض الشخصيات الوهمية، أو تلك المناطق التي يضطر الممثل فيها إلى تجسيد شخصيتين أو أكثر، وجميعها من أبرز عيوب التأليف لنصوص «المونودراما”، والتي يجب تلافيها أو تقديمها في أقل مساحة ممكنة إذا اضطر لها المؤلف اضطرارا.
وبرغم أن «المونودراما” كما يرى عدد كبير من المتخصصين تنحّى نحو الدراسة النفسية إلا أن ذلك لا يجب أن يقوم بإلغاء عنصر الحدوتة بل على العكس فقد تكون هناك نصوص تعتمد في المقام الأول على الحدوتة التي تقدم من خلال وجهة نظر الشخصية الدرامية، وفي هذه الحالة ستكون الأحداث بالنص مرتّبة غالبا طبقا للسياق الزمني، في حين يمكن أن تكون هناك عروضا أخرى تعتمد على كسر السياق الزمني وخلط الأزمنة الثلاثة معا (الماضي والحاضر والمستقبل)، وذلك حينما لا يتم التركيز على عنصر الحدوتة ويكون الاهتمام الأكبر منصبا على كشف الخلجات الإنسانية وما يدور في أعماق النفس البشرية من صراعات وهواجس وأحلام.
وإذا كان في النصوص التقليدية يبدأ الكاتب بتقديم الشخصيات والحدث فإنه في عروض «المونودراما” يفضل أن يصل الكاتب إلى نقطة الذروة أولا والوصول بشخصيته الدرامية إلى لحظة البوح، حتى يستطيع أن يترك لها فرصة اجترار الماضي والإفصاح عن مشاعرها وما يجيش بصدرها لنتعرف على ردود أفعالها تجاه تلك الضغوط الصعبة التي تعرضت لها.
ومما سبق يمكننا أن نقرر أن النص «المونودرامى” بصفة عامة يقوم بصياغة حكاية (حدوتة) النص على مستويين الأوّل هو مستوى الحكاية المباشرة من خلال الاسترجاع والسرد أو الحديث المباشر بإحالاته كلها، أما المستوى الثاني فهو المستوى النفسي الذي يوضّح رد فعل هذه الشخصية تجاه تلك الأحداث لتكشف معاناتها ومكنوناتها النفسية، وبالتالي يتواصل الجمهور ويتعايش مع هذا المنظور النفسي للممثل، والذي يجب أن يقدم من خلال لغة التكثيف الدرامي والاجتزاء والتخيل والتداخل لكثير من المشاعر الإنسانية التي تتواصل وتتكامل مع الخبرات الإنسانية والمشاعر والأحاسيس لكل مشاهد، والتي مهما اختلفت من مشاهد إلى آخر إلا أنها تتوحد في النهاية من خلال تلك القضايا الإنسانية التي يطرحها النص.
وبعد هذه المقدمة المهمة -من وجهة نظري- عن فن «المونودراما” أرى ضرورة تناول بعض النصوص التي نشرت بالمجموعة ومن بينها:
-1 تَغريبة ابن سيرين” للكاتب الأردني مفلح عدوان:
هذا النص نموذج جيد لكيفية توظيف التراث والتاريخ مسرحيا، وهو نص «مونودراما” يعتمد بالدرجة الأولى على شخصية «ابن سيرين” (واسمه بالكامل: أبوبكر محمد بن سيرين البصري (653 – 733 م) المولود بالبصرة العراقية، وهو الإمام القدير في التفسير والحديث والفقه ومن أهم مؤلفاته «كتاب تفسير الأحلام»)، والحقيقة أن المؤلف قد نجح في توظيف قدرة هذه الشخصية الشهيرة على تفسير الأحلام لتقديم بعض الأفكار الوجودية وإثارة بعض الأسئلة الفلسفية بهدف إلقاء الضوء على حياتنا المعاصرة، كما نجح وبدرجة كبيرة في توظيف القص الديني والموروث الشعبي، فنجد توظيفا جيدا للقص الدين (على سبيل المثال قصص الأنبياء: إبراهيم وإسماعيل ويوسف وقصة أهل الكهف وغيرها)، وفي هذا الصّدد تجب الإشارة إلى أن هذا التوظيف الفني لم يكن إطارا فنيا فقط بل كان له دور كبير في الإثراء والحشد العاطفي والفكري على حد سواء.
والحقيقة أنه برغم وقوع المؤلف في دائرة السرد في بعض الأحيان كاستجابة لضرورة التعريف بالشخصية إلا أن مهارته في كتابة الحوار بلغة شاعرية وفي توظيف لغة التكثيف الدرامي منحت النص تميزا ونكهة خاصة ومثال لذلك التعريف بالشخصية: (ولدت أنا ابن سيرين عام 30 للهجرة… ولكن أحلام كثيرة كانت تتحرك في الفضاء من حولي بدءا من انتشار الرسالة المحمدية حتى تدوين القرآن، وحراك الأسئلة والتضييق على الأجوبة..)
-2 «أناشيد الربيع والخريف” للكاتب المغربي الحسن بنمونة:
هذا النص يعد انعكاسا واضحا لثورات الربيع العربي والإحباطات التي سببتها للشباب بعد فشل بعضها في تحقيق أهدافها. والشخصية المحورية لسياسي شاب عضو أحد الأحزاب السياسية، ولكنه برغم انتمائه الحزبي ودفاعه المستميت عن الحزب والحاكم يتساءل من خلال حواره عدة أسئلة مهمة تكشف عن كثير من السلبيات بالمجتمع ومن بينها: لماذا أجهضت الثورة، ولماذا يربح الانتهازيون دائما؟ ولماذا يوضع الشباب الثوار في المعتقلات والسجون؟ ولا يدخلها السياسيون المحترفون؟، لماذا تعرّض العمال في مصنع النسيج للضرب المبرح بالرغم من وطنيتهم وعدالة مطالبهم؟ وبالرغم من أهمية الأسئلة ومشروعيتها والتي تؤكد مدى افتقاده للحرية واشتياقه للديمقراطية الحقيقة بعيدا عن الدولة البوليسية، يعود ويستسلم بقوله «حتما سيأتي الزعيم ليشرح لنا السياسة العالمية التي ترغب في تقسيم الكعكة، فالدول الكبرى هي التي تثير الحروب بين الإخوة وتفشل أيّ مشروع للنهوض بهذه الأمة”.
وقد حرص الكاتب على مرور زمن درامي ليقدم شخصيته المحورية -الشاب الثوري- وهو بمرحلة الشيخوخة في النهاية، وذلك ليؤكد قوله بنصه المرافق «الأهم هو أن نبكي على زمنين ذهبا إلى غير رجعة، لا بد أن يفطن المخرج إلى أن الأمر يتعلق بالحنين واللوم معا، الحنين إلى زمن مضى أنتج فرجة سياسية مصحوبة بالقسوة، واللوم كأن نلوم أنفسنا لأننا لم نستطع أن نحدث تغييرا للواقع».
والنص يعتمد بالدرجة الأولى على تكنيك توجيه الحوار للمشاهدين بالصالة بوصفهم أعضاء بالحزب، مع محاولة تقديم بعض الأفكار السياسية للحزب والمجتمع وتقديم قراءة لأفكار الزعيم، مع تقديم بعض الانتقادات أيضا.
وما يؤخذ على هذا النص هو عدم تحديد الأبعاد الدرامية للشخصية المحورية بدقة، وكذلك عدم اختيار اللحظة المناسبة لتفجر الأحداث الدرامية، فالبطل ينتظر حضور الزعيم لإلقاء خطابه، ولم يوضع تحت أيّ ضغوط أو تأثير نفسي يجعله يبوح بكل هذه الحوارات والأفكار والثرثرة الحوارية، والتي أصبحت بمجرد سرد لبعض الوقائع أو ثرثرة حوارية، كما يؤخذ على النص أيضا كثرة الملاحظات والإرشادات بالنص المرافق/الموازي، خاصة وأن بعضها لم يضف جديدا بل ساهم فقط في شرح المشروح وفي تشتيت القدرة على المتابعة.
-3 «عندما توقف الزمن في القبو” للكاتب السوري مصطفى تاج الدين الموسى: الشخصية الرئيسة في هذا النص للشاب/يوسف وهو شاب في أواسط الثلاثينات من عمره، وتدور الأحداث في غرفة مهجورة لنحات تشكيلي تحت الأرض لجأ إليها يوسف للاختباء من السلطة حتى لا يجبر على الانضمام للقوات المحاربة والمشاركة في الحرب. قام الكاتب بتقديم نصه بخمس إضاءات (إضاءة كل ساعة بدءا من السابعة وحتى الحادية عشرة، كما أنهى نصه أيضا بخمس إضاءات أخرى (إضاءة كل ساعة بدءا من الثانية عشرة وحتى الرابعة)، وأرى أن هذه الإضاءات وإن كانت قد تساهم في تهيئة الشعور العام للمشاهدين على مستوى الشكل إلا أنها لا تتناسب مع طبيعة المسرحيات القصيرة خاصة إذا لم يكن لها مبرر درامي قوي).
ويعد هذا النص نموذجا جيدا للفهم الواعي لنصوص «المونودراما” حيث نجح مؤلفه في اختيار الشخصية المحورية وفي تناول القضايا المختلفة وأهمها قضية الحرب والسلام، وما ينتج عن الحروب من خراب ودمار وتشويه للنفوس وغربة واغتراب، واستطاع أن يعبّر لنا عن مشاعر الوحدة والقلق والملل التي يعاني منها الشاب بكل حساسية ودقة، وخاصة حينما ربط تلك المشاعر بالساعة كعنصر أساسي بالحدث الدرامي، ولذا كان من المنطقي أن تنعكس كل تلك المشاعر على الشاب نفسه فيتأثر بها شخصيا وتجف مشاعره ويصبح نموذجا للقسوة والوحشية، فيقتل القطة بكل قسوة بلا مبرر ولا شفقة ولا يشعر حتى بالندم بعد ذلك.
وعلى مستوى الشكل والإطار العام للعرض نجح المؤلف في تقديم نص مرافق/مواز جيد به كثير من الملاحظات الخاصة بإيضاح الحالة الشعورية للشخصية الأساسية وكذلك كثير من الإرشادات الخاصة بالمؤثرات الصوتية والضوئية وتوظيف الإكسسوارات، كما نجح وبدرجة كبيرة في توظيف ما أسمّيه «الخدع المونودرامية”، تلك التي تسمح للبطل بتوظيف بعض قطع الإكسسورات لاستحضار اللحظات الدرامية من الذاكرة أو تسمح له بتوجيه الحوار لها، وذلك مثل حوار الشاب مع صورة النحات أو صورة أمّه، أو حواره مع القط أو تمثال المرأة.
-4 نوستـالجيا للكاتب السعودي صالح زمانان:
هذا النص محاولة جيدة لتقديم عرض «مونودراما” تعالج أزمة الإنسان العربي المعاصر، والشخصية الرئيسة لرجل عربي ضائع في أزمات الزمان والمكان العربي، ولذا فهو يحمل مرض «النوستالجيا” الذي يجعله في حالة حنين دائم لماضيه البعيد، وبالتالي فهو يعاني من محاولة التعايش بين الزمن الواقعي حينا والخيالي في حين آخر.
وبالرغم من جودة الفكرة إلا أنني أرى أن المقدمة الخاصة بوجود المخرج واللعبة المسرحية ومحاولة توظيف شاشة السينما محاولات مقحمة وليس لها أيّ مبرر بل أضعفت الفكرة الأساسية والحبكة الدرامية، مثلها تماما مثل تلك النهاية العجيبة للنص والتي جاءت للأسف لمجرد تقديم فكاهة (نكتة أو قفشة) بأن من منعه من مرافقة أمه إلى المستشفى وهو صغير وبالتالي حرمه من وداعها قبل رحيله، ومن يريد أن يأخذ منه الثأر حاليا بعد مرور كل تلك السنوات وركب تاكسي ليذهب إليه.. مجرد قطعة خشب بها مسمار!
وبرغم وقوع النص في دائرة السرد إلا أن لغة الحوار بصفة عامة قد تميزت بالشاعرية والإيجاز، كما يحسب للمؤلف توفيقه في توظيف بعض الخدع «المونودرامية” كتوجيه الحوار إلى صورة والدته أو بطاقة اسم (شخصية) لطبيب.
-5 «فكرة” للمؤلف العراقي ناهض الرمضاني:
مع احترامي وتقديري للأفكار النبيلة التي يحملها الكاتب والتي أراد تقديمها بنصه إلا أن النوايا الطيبة لا تكفي وحدها لتقديم نص جيد، وكما كتب هو بنصه «لا تستطيع الأفكار أن ترى النور بمفردها.. لا يمكنكم أن تروها إلا إذا مرت بمخاضها الصعب. لا بد للأفكار -مهما كانت- أن تولد من خلال ذهن إنسان ما..” ولكن للأسف لم يستطع أن يقدم لنا نصا محكم البناء والصياغة، فجاءت الأفكار الفلسفية كمجرد خواطر تكتب في مقال أدبي أو بقصة قصيرة.
إن عدم تحديد الأبعاد الدرامية للشخصية المحورية وغياب نقطة الانطلاق للحدث الدرامي مع كثرة الأفكار والموضوعات التي طرحها النص وغلبة أسلوب السرد أضاعوا للأسف كثيرا من الجهد الذي بذله المؤلف في محاولة تقديم فرجة مسرحية من خلال بعض الملاحظات والإرشادات بالنص المرافق. وأخيرا أتمنى أن أرى هذه النصوص المتميزة على خشبات مسرحنا العربي.