حدث مرة
عندما رفعَ سَحَّاب البنطال إلى أعلى مداه، وأرتجه، كان العرق البارد يتصبَّب من كلّ مسام في جسدي.
لحظتها.. أخذتْ روحي تنبض كطائر يلفظ آخر شهقات روحه المتعبة، وبدأ يستسلم لخدر الموت في قبضة صبيّ أرعن، أرهقه بالمطاردة حتى قبض عليه، دون نقّيفة، ولا مقلاع.
بصقَ في باطن كفّه، ثم هوى على عصفوري بقبضته، لفَّ أصابعه حوله، وأخذ يعصره، كأنّما يعتصر اللذة كي تتسرَّب في بدنه، ممزوجة برعشة، لم أدرِ ساعتها أهي رعشة الحياة، أم الموت!
تلفتُّ حولي، مرة أخرى، لأتأكّد من أن لا أحد يرى فعلته.
• ممّ أنت خائف؟
هتف صوت قادم من عمق آلاف سنوات القهر والفجيعة:
• م م؟
* هل بقي لك شيء من الخوف؟
• نعم.. الخوف ممّا هو أكثر من الخوف!
* وهل هناك أكثر من الخوف؟
• نعم.. ما نحن فيه.
كنا قد انتهينا منذ ساعتين من البحث عنه.. وجدناه أخيراً في غابة من الرخام.
قال:
• هذا هو..
قلتُ:
• هيا نبدأ إذن..
فبدأ هو…
كانا وحيدين في هذا الصمت.. هو يتعرّى أمام عراء الرخام، والآخر عارياً أمامي، تحت الرخام. فمن المؤكد أنه لم يأخذ معه بزّة الفوتيك الكورية، التي اعتاد أن يلبسها كلّما أتى للمخيم.
لم يأخذ بزّته معه، كما يليق بالشهداء.. فما خرزته الرصاصات، ولا تشظّى على يدي صاروخ، ولا تغبَّرت تلك البزّة..
كانا متقابلين تماماً، إلا أنّ الآخر، للمرّة الأولى صار تحت، وهو الذي دائماً كان فوق.. وللمرّة هذه فقط كان صامتاً، أخرسَ، وهو الذي اعتاد أن يملأ الدنيا صياحاً، قبل أن تسكته سكتة تافهة اعترت منابر شرايينه التي طالما ضخَّت كذباً، وشعارات التحرير..
وحيدان، متقابلان، كانا.. وقد انكفأ المخيّم خلف أسوار المقبرة، تتكئ بيوته على بعضها البعض بتعب من أرهقه الانتظار ستين عاماً، على مفارق الطّرق، ومحطات السكك الحديدية، بالقرب من الخانات الأثرية، والثكنات التي هجرها الجنود، وعواء الطائرات وهي تنزلق بضجيجها الصاخب على مدارج المطارات.
قبل ساعتين فقط، طوينا الزواريب، وأتينا.
كان المخيّم حينها لملم الناس جميعاً؛ سحبهم من الجلسات على المصاطب أمام البيوت، وشدّ الأطفال من آذانهم إلى أحضان أمهاتهم اللواتي انتهين من الطبخ، ولمَّ الغسيل، وتأهّبن لمساء آخر، بينما صوت المغنية يردد من الإذاعة:
«غاب نهار آخر.. غربتنا زادت نهار.. واقتربت عودتنا نهار».
تمتم:
• أيُّ عودة أيها المغنية؟
فردَّت عليه الأصوات..
«إلى عرب النجدة… عدّة الثورة»
«رسائل العرب إلى ذويهم»
«أنا من قطاع غزة»..
وفيروز تفرد مخمل صوتها الحزين في فضاء المخيم، ومساءاته الكئيبة:
«وطني يا جبل الغيم الأزرق.. يا قمر الندى والزنبق»
مساء المخيم يهبط رويداً رويداً..
• هل تستطيع فعلها؟
* نعم.. اليوم..
كل يوم.. تماماً قبل أن يأتي المساء.. كان جنون الخوف يلفُّني.. جالساً على تلك المصطبة الإسمنتية أمام خزان الماء العالي، أجلس مفكّراً، قبل أن يرتقي الرجل سطح الجامع منادياً لصلاة المغرب.. أسأل الطفل الصغير الذي كنته:
• أين الله؟
فيجيبني:
• لعله هناك في نهاية هذه الدرب البعيدة..
يومها.. في كل يوم من تلك الأيام.. لم يكن ذاك الطفل، الذي كنتُه، يعرف أن هذه الطريق تذهب من مخيم دنون، إلى كناكر، وتمرّ في الجولان، تتلوّى بين القرى والهضاب، قبل أن تصل إلى فلسطين..
وفلسطين ذاتها، لم تكن سوى وجعٍ لا أفهمه… ليس أكثر من شعري الأجعد، الشتيمة الدائمة في مدرسة وكالة الغوث، التي حملت اسم قريتنا ذاتها..
• نحن من الخالصة!
من تراه قال ذلك أمامي، أول مرة في حياتي؟
أنا أعصر كل نبرة من الذاكرة، لأعرف.. وهو يعصر العصفور الصغير المندسَّ بين أصابعه..
قال:
• سنفعلها اليوم.
فقلت:
• هيا.
وذهبنا..
كان خيط من السائل الحارّ ينسكب على سفوح الرخام. يشخب، فيصدر هسيساً عالياً في فضاء الصمت الذي يرين على الأرجاء… للحظة خلتُ أن المخيم كلَّه سيسمع هذا الصوت، فيهبّ الراكنون من بيوتهم الواطئة، يخترقون زواريبهم الضيقة، وأحوالهم الأكثر ضيقاً، ويأتون إلينا بفؤوسهم ومناجلهم ومذاريهم..
• أيُّ فؤوس ومناجل ومذار.. أيها الأحمق.. لقد ضاعت منهم منذ أن ضاعت البلاد.. منذ أن طووا طريق اللجوء منها إلى هنا..
• حسناً سيأتون شاهرين بطاقاتهم.. بطاقة الإعاشة.. بطاقة المطعم.. بطاقة المستوصف.. والهويّات التنظيمية الملّونة التي أبدعت الفصائل في استصدارها لنفسها، وتوزيعها على المسترزقين الفارغين، أو المتفرّغين.. كل البطاقات والهويات، سيشهرونها، إلا الهوية الفلسطينية..
ربما، سيلتفُّ ناس المخيم حولنا، ويصرخون:
• ماذا تفعلان؟
سيطيّر الصبي الأرعن العصفور من قبضته، ويتركه يندسّ في عشّه، وهو ما زال ينزّ آخر قطراته… وتقف أنت تهزّ ساقيك تتباعدان، كأنهما تفرّان من بلل السائل الحارّ في بنطالك..
• عليه.. لا عليك.. أهذا ما أردتَ؟.. فلماذا تنزُّ عرقاً بارداً؟.. ألم ترد ذلك؟.. فلماذا تخاف؟.. وممّ؟
* أخاف.. أخاف أن ينهض الموتى من أجداثهم زاعقين، لأننا نعكّر صفو هدوئهم الأبدي..
• ولكن.. لماذا لم ينهضوا يوم اندسّ هذا بينهم؟
* لا أعرف.. ولكنهم.. هل تظنّ أنهم عرفوا بوصوله؟
• ومتى كان هذا، أيها الأبله، يحضر في أيّ مكان دون أن يثير قرفه؟.. الطبل والزمر والمرافقة المدجَّجون بدفع الناس ذات اليمين وذات اليسار.. الاستعراض العسكري كجندي عاد من الحرب منتصراً..
* قُلْ.. كقائد.. أيها الأحمق..
• نعم.. كقائد لم تزده الهزائم إلا نعيماً فوق نعيم..
* دعك من هذا.. فما هي إلا هذيانات لاجئ..
• لاجئ!.. أرأيت؟.. بعد مئة ألف شهيد.. أنا لاجئ!.. رغم خمسين سنة من الثورة.. ما زلت لاجئاً.. كنتُ كلما سقطتُ شهيداً، يحتفل هو بدمي، ويقول: اقتربنا.. لم أعرف أنه يقترب، ونحن نبتعد.. خمسون عاماً وهو لا يحول ولا يزول، وكنتُ أنا أسقط شهيداً في ثوب قتيل، وأتهدَّم مع كل جدار، وأهوي مع كل سقف.. أنخلع مع جذر كل شجرة.. كنتُ أتعثر بأشلائي، وأسقط.. وهو يعلو!.. كنتُ أزدادُ شهداء وجرحى ومعتقلين، وأهوي.. وهو يعلو.. باعني بدمي، واشترى.. وما لم يستطع بيعه منّي، سرقه.. أنا ما زلتُ لاجئاً أغطسُ في قاع المخيم، في ذلّه وفقره، قهره ودماره.. وهو يعلو.. اللعنة حتى تحت هذا الرخام يعلو.. فأيَّ جدوى.. أيُّ جدوى؟..
• افعلها مثلي إذن.. خلّصنا..
* الدنيا كلها لا تكفي، لو فعلتها…
• اصمت إذن.. ودعني أفعلها.. طالما أنت غير قادر مثلي على ذلك..
عندما رفع سحاب البنطال إلى أعلى مداه، وأرتجه، كان العرق البارد يتصبَّب من كل مسام في جسدي..
نظرتُ إليه، خلل الظلمة الغاطسان فيها كلانا، فرأيته مثلي تماماً.. له قامتي، وكتفاي المنهدمان، وصوتي، ووقفتي.. ولا شك أن الظلام كان حينها يخفي فيه ملامحي ذاتها، الوجه والعينين والشفتين واليدين، وبقايا الشعر الأجعد، وعصفوري الذي كان معصوراً في قبضته..
فقط.. لم يكن له ارتجافي وخوفي وتلعثمي..
لعله كان أنا..