رجل الأوكازيون
ينبعث الدخان من مكان ما من الشقة لكنّني لم أستطع أن أتوصل إليه، هرعت في البداية لأغلق محابس الغاز، بلا جدوى، لم يزل الدخان ينبعث وبكثافة، شعرت بالحيرة والقلق، ثم لم ألبث أن تحولت حيرتي وقلقي إلى هلع وعصبية، كان الدخان يحاصرني من كل مكان، وأنا لا أعرف موضعا معينا ينبعث منه، كنت أهرع في أرجاء الشقة مثل فأر، عاجزا عن الشم، تعطلت الحاسة على الرغم أن الدخان لم يكن خانقا، كان انبعاثه فقط هو المثير للرعب.
أحاول أن أفتح النوافذ، لكنها كانت مغلقة ومزاليجها معلقة، لم تكن مغلقة غلقا عاديا، تعاني زوجتي مع الأتربة، لذلك كانت تتعمد غلق النوافذ بمزاليج خاصة، مزودة بأقفال، حولتها إلى شبابيك سجن، أخفت المفاتيح، ولم أعد قادرا على فتحها إذا أردت أن أدخن سيجارة في البلكونة، حظرت زوجتي عليّ التدخين بالمنزل، تعللت بصحة الأطفال، هتفت فيّ ذات مرة: لو عاوز تموت من السجاير موت بعيد عنا، مش كفاية مصروف البيت اللي بتصرف منه على كيفك.
يرمقني الجيران ببلاهة، بينما أدق على النوافذ، لا تستفزهم استغاثتي، ولا يتحرك أحدهم لنجدتي، كان من الواضح أنهم لا يرونني، كنت واثقا أن زجاج النافذة شفاف، وليس معتما، أرى بوضوح ما يجرى في الشقة المقابلة، الجارة اللعوب، التي كانت توقظ المنطقة بسلاطة لسانها، بينما تسبّ البواب كل صباح، كانت ترتدي قميص نوم حريري شفاف يتمدد لحمها منه، وهي لا تعبأ بما يثيره هذا الترهل في الأعين من تقزز، وربما من شهوة، أهل منطقتنا الشعبية التي نمت في سرية كاملة في طرف من أطراف شارع فيصل بالجيزة، يقدسون النسوة إذا كن جريئات في الكشف عن أجسادهن، أما إذا تجرأن وكشفن عمّا بعقولهن، فسيكون لرجال المنطقة قول آخر. تجلس الجارة على أريكتها في استرخاء، تمد ساقيها على المقعد المقابل لها، أحيانا تمد ساقيها فوق حاجز البلكونة، فيراها أهل منطقتنا في الشارع، يشرئبون بأعناقهم ويتخيلون باقي الساق اللدنة، بينما المرأة تتباهي بلمعة الشمس على لحمها البض، تتأمل محاولاتي للاستغاثة، وتبتسم لي ساخرة، كان جسدها وافرا، ولحمها سخيا، وصدرها متكورا، وبسمتها واسعة مغوية، تنم عن جوع، ووله، وعطش لمطر لم يهطل، مسام جلدها تكاد تكون واضحة، متفتحة، مشرئبة، مثل ماكياجها الذي أضفي لمعة على بشرتها،أحيانا كنت أشعر أن زوجتي تغلق المزاليج لتحصن النوافذ من هذه الجارة الشرسة، العطشى، النهمة، الراغبة في الوثوب، رغم لحمها المترهل، أحيانا أخرى كنت أشعر أن زوجتي تخشي أن أقفز إلى شرفة الجارة، كنت حبيسا، ولم تكن زوجتي معي، وكان الدخان مستمرا في الانبعاث من مكان مجهول. بالأمس كنا نراجع قائمة المشتريات، التي سنتحرك لشرائها بمجرد استلامنا كارت «الفيزا”، حياتنا لم تكن فقط تتمحور حول الخوف من الجارة الجائعة، بل كانت تتخطى ما هو أبعد من ذلك بكثير، حياتنا تتمحور حول شراء كل شيء خلال الأوكازيون، شراء ما نستطيع أن نحصل عليها في مواسم التخفيضات، مغامرة دائمة ومستمرة مع åالأوفرزò، ما أن نرى كلمة Sale في أيّ مكان حتى نهرع بشراهة إلى أبواب المحلات، لجني أفضل الأوفرز.
بجانب ذلك كنت أيضا أعاني من عطش شديد كلما استمنيت، عطش يجتاحني، ويحوّل لساني إلى قطعة خشب، كأنني يبست فجأة، لكنني كنت بحاجة للاستمناء ليس فقط على الجارة، وجسدها الوافر باللحم، بل كنت بحاجة للاستمناء لأتحمل طرق الأبواب والدخان الذي يخنقني، ومواسم التخفيضات، نخطط منذ شهور لشراء شاشات البلازما، وقبلها خططنا لشراء مطبخ جديد من «إيكيا”، حينما ذهبت إلى «كايرو فستيفال سيتي” وجدت الشوارع مصقولة ومبلطة جيدا، وتخلو من برك الصرف الصحي التي تطل عليها شرفاتنا فى فيصل والمريوطية وكفر طهرمس، تخلو «كايرو فستيفال سيتي” من برك المجاري، وتمتلئ بفروع محلات «إتش إند إم” و”ديزل” و”مارك أند سبنسر”، و”إيكيا” وهذا هو الأهم.
أدركت زوجتي أن «كارفور” صار متجر الطبقة الفقيرة، وحولت بوصلتها تجاه «كايرو فستيفال سيتي”، دخلت معها في جدال متعدد المحاور، مثل أخطبوط بألف رأس، قلت وقتها إن هذا المكان سيستنزفنا حتما، ولن يترك لنا ما يمكننا حتى أن نسدد به أقساط «الباص” للصغار، ترمقني زوجتي بغضب، وتهتف بصوت مكتوم، وهي ترمق سائق التاكسي الذي يعود بنا من التجمع الخامس إلى «فيصل”، «لما نروح البيت نتكلم”.
عندما نعود لا نتكلم، ولا نستأنف المشاجرة، ترتدي قميص نومها الذي اشترته في موسم التخفيضات الأخير، وتعطيني ظهرها، أدلف إلى حجرة الأطفال، فأطمئن أنهم خلدوا للنوم، ثم أصطحب «اللاب توب” إلى الصالة، وأرمق بحذر باب حجرة النوم المظلمة، وأرهف سمعي لزوجتي بينما يرتفع غطيط نومها، ثم أثبت «كابل الانترنت” في الجهاز، أشعر بالضيق، وأنا أراقب بطء تحميل موقع «بورنو هب”، وأتذكر أن جارنا الذي لديه «الراوتر” الرئيسي صاحب «الوصلة”، يتعمد تحميل عددا من الأفلام التي سيوزعها في الصباح على صغاره، هؤلاء بدورهم سينطلقون إلى «الكافيه نت” لتسليمها للعملاء الذين يشترون الأفلام الحديثة المضروبة عبر «التورينت”، الشوارع تغرق في المجارى ومع ذلك ينتظم الجيران في شراء الأفلام الحديثة المضروبة من موقع «تورينت”.
جارى بالطابق الأعلى يعمل موظفا بشركة طبية، تجلب معدات وأطراف صناعية، وتبيعها لمحلات التجزئة بالقصر العيني، في إحدى الليالي استيقظنا على أصوات صرخات زوجته، وصيحات الرجل المستغيثة، كان من الواضح أن بعضهم يتهجم على شقته، نهضت مسرعا وهرعت لمساعدته، فاعترضني أحدهم على عتبته، ولوّح في وجهي بهراوة غليظة، وقال شخص آخر كان جالسا على مقعد أمام شقة جارى الذي تتواصل صيحات استغاثاته من الشقة «انزل يا أستاذ، دا بس حساب بنصفيه مع جارك الحرامي”.
في الصباح التالي كان جاري لم يزل حيا لحسن الحظ، لكن شفته السفلى كانت مقطوعة، وعظمة أنفه لم تعد في مكانها،وتتناثر في العمارة شائعات، جاره في الشقة المواجهة له، كشف لي أنه تم ضبطه باختلاس بعض الأطراف الصناعية من مخازن الشركة، ولما كان صاحبها عاجزا عن إدانته، آثر أن يقود هجمة ليلية على شقته في محاولة للعثور على ما يشفي غليله من قيمة البضاعة المختلسة.
لم أكن أعمل في شركة طبية تستورد الأطراف الصناعية، ولم أمتلك «راوتر” أستطيع به تحميل الأفلام الحديثة في دور السينما وبيعها على «سي ديهات” لمحلات الإنترنت، كنت فقط موظفا عاديا بالنهار، وأطارد مواسم التخفيضات، وأبحث عن شاشات البلازما، ومكرونة اسباجيتي يكرهها الأطفال، ولا تحب زوجتي أن تطهيها، لكن يجب أن نشتريها للحصول على عرض زجاجات «الزيت” الرخيصة، ودواسة الحمامات الأسفنجية التي لم نكن فعلا نحتاجها، لكننا اشتريناها من أجل الحصول على «داك باور” مطهرة قاعدة الحمام، أعصر جسدي ليطرد المكرونة والزيت الرخيص، وغيرها من الأطعمة التي نلتهمها رغما عنا، لنهيئ أماكن أخرى في دواليب المطبخ لتلك التي نحصل عليها في مواسم التخفيضات، وأكتشف فجأة أن الدخان لا يقتلني، لكنه مستمر في الانبعاث، وأن دقاتي على نوافذ المنزل لا يسمعها غيري، خاصة أن الجارة اللعوب نهضت كعادتها عند غروب الشمس لتعد الطعام لزوجها الذي انتهي من مشاهدة المباراة على شاشة «البلازما” التي نتمنى أن نجلب مثلها.