مسبح الفقراء
قضيت طفولتي وصباي في منزل عجيب من المستحيل لأحد أن يتخيّله، وكأنه متاهة من متاهات بورخس، يجعل أكثر الرجال فطنةً يحذر ولوجه، مع وجود إشاعة تقول إنه مسكون بالجن. كان منزلاً واسعاً مكوناً من طابقين وإحدى عشرة غرفة وثلاثة سراديب مظلمة، اثنان منها بلا نوافذ، وأدراج حجرية مثلّمة، يقع في حي شعبي بمدينة كركوك يُدعى «بريادي»، يقطنه خليط من التركمان والكرد والعرب، أغلبهم نازحون من القرى المجاورة.
علمت، بعد بلوغي سنّ الرشد، أن المنزل كان في الأصل مدرسةً يهوديةً، يعود بناؤها إلى بداية القرن العشرين، ضمّتها دائرة الأوقاف إلى ممتلكاتها عقب هجرة اليهود إلى فلسطين.
على مبعدة نحو ميلين عن منزلنا هذا كانت تحيط المدينة، من جهة الشرق، هضاب صخرية قليلة الارتفاع، تنتشر فيها المقالع الحجرية ومعامل الجص. كنا، نحن صبيان الحي، نراقب أحياناً العمال وهم يحشون الثقوب، التي يحفرونها في الصخور، بالبارود ثم يبتعدون عنها مسافةً آمنةً، ويشعلون فتائل موصلةً بها، فتحدث تفجيرات مخيفة، وتتطاير كتل الحجر الكبيرة، التي يجري فيما بعد تكسيرها بالمعاول إلى قطع صغيرة لاستخدامها في البناء.
بمرور الوقت كانت مواقع التفجير تتحوّل إلى حفر كبيرة يصل عمق بعضها إلى ستة أو ثمانية أمتار، وما إن يحل موسم الأمطار حتى تمتلئ تلك الحفر وتغدو بركاً مائيةً داكنة الخضرة. وحين يحل الصيف يلوذ صبيان الأحياء القريبة بالبركة الأكبر، التي يسمونها، مجازاً، بـ»مسبح الفقراء» نكايةً بمسابح النوادي الرياضية والاجتماعية التي لا يستطيعون الاشتراك فيها.
بدأت أقصد ذلك «المسبح» المجاني عندما صرت في أواخر عامي الثاني عشر، رفقة صديقي التركماني الحميم «نهاد»، الذي يكبرني بسنتين، وعدد من أبناء جيراننا.
ذات يوم، لن يغيب عن ذاكرتي أبداً، فوجئت بمجيء أمي إلى «المسبح». لمحتها وأنا وسط ما يربو عن أربعين صبياً وشاباً، فغطست تحت الماء واندفعت بسرعة إلى حافة الطرف البعيد عنها. أخرجت رأسي واستنشقت الهواء بعمق ومددت يدي إلى شاب كان منهمكاً في ارتداء ثيابه، فسحبني بيد واحدة، وما إن وطأت قدماي اليابسة حتى هرعت لأختبئ وراء صخرة كبيرة تبعد بضعة أمتار عن «المسبح».
لبدت هناك أكثر من ربع ساعة، مؤملاً نفسي بأن أمّي ستغادر المكان، حتماً، حين لا تجدني، وتعود أدراجها، عندئذ سأرتدي ثيابي على عجل، وأجري سالكاً طريقاً أخرى تمر من مزرعة خضار فأسبقها في الوصول إلى المنزل. لكن ما حدث لم يكن يخطر على البال قط، فقد تعرّفت أمي على ثيابي، الموضوعة تحت قطعة حجر، وخطفتها وعادت إلى المنزل.
انتظرت «نهاد» حتى يرتدي ثيابه، وبينما كنت أفكر في تجنب السخرية التي سأتعرض لها قفزت إلى ذهني فكرة ذهبية «لِمَ لا يسبقني هو إلى منزلهم ويجلب لي شيئاً ألبسه؟». تحمس «نهاد» للفكرة وأطلق ساقيه للريح، وخلال دقائق أحضر لي قميصاً وسروالاً رياضياً، فلبستهما ورجعت المنزل مبتهجاً لأنني أفشلت العقوبة التي خططت لها أمي.