البدائه
التراب
ما إن تَطـُل الساقان حتى ننسى ملمسه ومذاقه، ولا نتذكره
سوى في عرْض البحر أو حين يتهيّل في القبر.
لأنه ليس بالطين الحر ولا بالرمل، يسهُـل للماء أن يخُـط عليه سطوره، دون أن يستـنقع فيه، وللريح أن تصحّحـها حين تَسْـفيه، لكنها لا تعيـد إليـه ملامحـه إذا ما شوّهت وجهَه الحُفَر، ومهما غيّرتْ مكان هبـوبها، فهي لا تمحو أثر الندوب أو الحدبات حتى بعد أن تلـتئم جروحـه الغــائرة.
يجـرِّر خارج الحقـول رداءه الممـزّق، يَرْفـوه بالنبات الشائك، ينام عاريا إذا لم يُدثـِّرْه نبات أو يقبع في الأصُص كأنه ذكـرى أخيـرة من حيـاة الغـاب.
مهما شغلتنا عنه السماء والعصافير، سيظل يفاجئنا تفتـّته في الحيطـان إذ يبرز كاللثـّة بـين الأحجــار، وتلذَعُنا ملوحته في إبريق الفخار ورائحته عُقْب المطر.
أما إذا اخترقـَته على الأرض الأسـلاك، أو عُجِن بالدم، سيُسمَّى بالطبع (وطنا).
المـاء
ربما لأنه يخضرّ في العشب ويفوح في الزهر، ربما لأنه لا يرتفع إلا في الشجر وفي النوافير، لا أحد يتــذكره إلا في العطش أو شهوة الاجتياف.
لأنه لا يطيع سوى أمواجِه، يهرب من الضفاف، ولا يقيـم
في غدير إلاّ ليرحل.
بكل برود وأناة تقرِض نعومتـُه المراسي.
في مراياه تنكسر السواري وترتجف الصخور.
ومع أن السمكـة تعيش فيه طوال حياتها، فإنها تجهله:
ربما إذاً يفهمـه الشـّـُرْغوف أو التمســاح.
من المضحك حقا أن يتحدث المرء عن الماء وهـــو في ثيابه، فهو كمن يريد أن يتعلم السبــاحة على الضـفة، أو يدرك معنى الارتواء إلى الآخر دون أن يجـرّب الغـرق.
الهواء
ما دمتُ قد ضيّعتُ الطـريق إلى الهـاوية، لم يبق لي سوى الحديثِ عن الهـواء، فهو ينزل إلى الهوّة العميقة، مثلما ينتشر في الفضاء.
تمزّق غشاءَه إبرةٌ أو برعمٌ أو نأمة، ولا يرفوه ضباب.
يتكئ على الأبواب وعلى حوافّ النوافذ متأهبا للدخول مع الغبار، أو يتنفس في الداخل من الشقوق متأهبا للاندفاع إلى الخارج، ليغتسل من رائحة المكان ومن رذاذ الأنفاس، أو ليدور في الرواق مع الذباب متحيّرا كالماء، ليطنّ كمثل فكرة منحبسة.
في الريح، يدوّم الصلوات وأبخرة الآلام بلا وجهة، ويُطيّر البالونات بلا رجعة في السماء. به تمتلئ كذلك القيثارة والمزمار حتى إذا انساب أصبح بكاءً وأنينا يَفطـُـران القلوب. ستجفّ يوما رئتاي، وأنجو من هواء يتجشأ فيه الكل ويخور، لكن هل سيمّحي أثرُ أنفـاسـي عـلى الجـدران؟
النـار
تفاجئ المرءَ دائما، كأنها تشتعل لأول مرّة، تتـابعها العينان حتى الخـَدر وهي تَعْـقد ضفائرها وتفـكها متلفـة جذورها في زهُوّ، كأن الرأس مشدود إلى هوّة سحيقة.
إذا كان الماء يحفر طريقه زاحـفا، فهي تبـدّل موضعـها راقصة، ولا يمكن أن يحذِق رقصتها أحدٌ إلا المحتــرق
نفسه.
كلما هضمتْ قـوتها، خـفـتـتْ طقـطقـتـُها وصَفَـتْ
ألـوانُـها لـتـضـيء.
عبثا تحاول الريح فصلها عن طـُعْمتِها، كما لا يجــدي ضربُها، أو طعنـُها، بل إن ذلك يؤججها، فتـغمـــغم ناهشة فريستها باستماتة.
قبل المضغ، لا بدّ من التفصيل، وإذا استعصت عليها قطعة، طوّقـَتْها بالدخان لتعود إليها نافخة بأنفاس جديدة.
تمحو ما لا يُمحى، ولا شيء يمحو أثرها.
ربما لأنها سريعة العدوى، تختبئ في الحجر والبراكين.
إذا كانت تـُذخّر في المخازن، فهي تـُذخّر كذلك باردة في الصــدور.
تحالف العدوّ والصّديق، لكنها قد تفاجئ من يشعلـها ولا
يرثها في النهاية غير الرمـــاد الذي لا يدرك سرّها سواه.
فراشة بيضاء
إذا كانت الزهرة صرخة مرئية، لن تكون هذه الفراشة سوى انعكاس ضـوئي لمرآةٍ خفيّـة. تجـسّ الهـواءَ كأنها تحاول أن تنبثّ فيه، ليس لها سوى التسكّعِ بعـد أن سُـدَّ عليها اللونُ، متردّدة دائما، تنقـّط سطورا لامرئية.
لفرط ترددها تحط بغتة حيث لا تتوقـّـع.
وإذا ما اصطدمتْ بزجاج النوافذ انتـشر عُـفار جناحيها ملتمعا كغبار الطـّلـْع وقد تبـدّده إلى أن تلـفـظ… خفـقتـهــا الأخـــيرة.
الزجاج
قد يكون حاجز الزجاج الحاجزَ الوحيد الذي يقاوم الضجر.
وعلى الرغم من أنه يُنـْـفِذ الضوءَ ويكشِف الداخل أو الخارج، فهو يُجمِّـد المشهـد ويعلـّقه كالصــورة فينتبه المرء إلى عزلة الأشيـاء ويكتـشف كم هــي صامتة عن بعد وكم هي ظمـآى إلى معنى جـديـد.
ولأنه يقي ويفضـح في الآن نفسه، يهيّـج متعـة النظر دون تورّط.
لكنّ هذه المتعة سرعان ما تَفتـُرُ إذ تبدو الحركات إشاراتٍ ضائعة ً ويضطرب العالـَم في الخارج أو في الداخل كسلحفاة مقــلوبة.
الزهرة
قد لا يشاهد المرء أشياءَ كثـيرة من حوله لكنّ العـين تلتقط الزهرة على الفور كما لو إنها انفجرت للتوّ، هذا الانفجار الأخرس والبطـيء لا ينتهي بما إن البـصر يجدّده في كل نظـرة.
إذا كان بمستطاع العين أن تمتـدّ إلى الأفـق، فالزهرة صرخة مرئية توقظها بلا انقطاع.
هي لا تذهب عبثا إلى أي مكان، بل تنشر رائحتها، كما لا حاجة لها للدوران فبتـلاتها، هذه الأشـعة المختصرة والمرتـّبة بدقة مصوَّبة نحو كل اتجاه.
تنام في الخرائب وتَـرْصدنا من الأسـيجة والشرفات. ولأنه لا يجدي وصفها، تعطَى لها الكلمة الأولى والأخيرة.
الليل
تخطيط: حسين جمعان
تبدأ الظلمة بملء الزوايا ثم تتكاثف في الكهوف والأنـفاق
حتى تفيض على ما حولها ماحية كل ظل فتعمّ الأرجاء كما لم يسطع ضوءٌ من قبل.
تتفتت الألوان وتستسلم الأشياء للقـَتام حتى يبتلعـها إلى الآخر فيختفي كل نتوء ويخبو كل وميض ليشتبه الفـراغ بالامتلاء والهوّة بالقرار والوجه بالقفـا ولا تخفـف مـن الحلكة سوى الأشياءِ الأشدّ حلكة، تلمّعها العين حتى تألفها.
لا شيء يقرّب السماء كمثل الليل، لكنه لا يهبط بمكان مثلما يهبط بآخر، قد يكون أليفـا فيكشف وحشتـه، أو موحشا فيكشف ألفته.
في الظلام يعلو كل صوت خفيّ، دقـات الساعة اليدويـة مثلا، بل تـنـفـسُ الأشجـار، موسيقى الصمت حول الأشياء.
يحس المرء عندما يخطو في العتمـة كأن روحه تسبقـه، كأن سماءً أخرى تتألق في عمــاه.
لا يستكشف هذا الأسودَ الصّفيّ سوى من أعمتـْه الأعماق، ولا يلمس هذا السقف سوى من خبر العراء.
مهما طالت أعنـاق الفوانيس، لا يقيس الليلَ ضوءٌ، ومهما
ادعى الشعراء، لا يقاسم عزلتـَه قفرٌ ولا يقلـّده غراب.
وهو لا يتراجع إلا مشتعلا مثلما تـقدّم، ليَسطع النور كما لم يخيّم ظلام قط.
البعوضة
بما إن العين لا تراها حين تكون يرقانة فهي تفاجئ المرء بطنينها كالرائحة أو الانطباع.
ما إن يتمّ التحقق من وجودها حتى يستبدّ به مثل حالة الكتابة بحيث تصبح صورتها وسواسا وصوتها الخافت أزيـزا يصمّ الأذن.
إذا ما حطت على الجـدار، ليتحوّل الطنـين فجأة إلـى كتابة، تـُوجِّه رأسها إلى أعلى متهيئة دائما لتغيير موقعها. لكنّ الحيلة في الإمساك بها أو إبعادها نهائيا عسـيرة وإن كانت بطيئة الطيران. فهي تعـدّل اندفاعاتها وخفقــات أجنحتها وفقا لتموجات الهواء كمثل ذرّة هباء، وسرعان ما تستأنف في الظلام طنينها كفكرة عنيـدة، لا شــيء يخرُق ناموسها ويثـنيها عن مرامها: مصّ الــدّم.
ومثلما يلحّ وسواس الشطـب أثناء الكتابة، تثير لسعتها رغبة لا تـُقاوَم في الحكّ حتى يتورّم الجلد.
الألم
أقسى ما في الألم هو التفكير في الألم. وإذا كان بإمكان المرء أن يحس بألم الجماد أحيانا فإن بمستطاعه أن يتألم في جسد غير جسده.
قد يستهين في البداية بلسعاته الخاطفة لكن سرعان ما تفاجئه صعوبة مقاومتها فلا شيء يثنيها عن التمركز والانتشار حتى تبلغ كل منتهى لتظل تتردّد كالصدى، بل إن وقعها يحتدّ بقدر ما تشتدّ لهفة التخلص منها.
وكلما تشنجت العضلات لخنق نبضات الوجع المتموجة والمتسارعة، تشبّث ككمّاشة واحتل الجســد كلــه مثل القشعريرة أو الإحساس بالخجل فتـَعْمَهُ حركاتـُـه وتخونه كلُّ جَلادة.
وليس للجسد سوى أن يخفـّض حركته ويتبع إشاراتـه ويعدّل الأنفاس والنظرات على إيقاعه كلما غيّـر من موضعه وحدّته، فمن الاختلاج إلى النخز والنخـر ومن التمزيق أو المضغ إلى الخياطة بإبر في غاية الـدقـة والبطء.
لا ينطبق الكلام على الآلام الحادّة المعروفة فحسب مثل آلام الحشا والنسا والمفاصل، إلخ.، بل يمكن أن يـكون الجسد كله طـوْعَ أنمـلة بسبب شوكة صغيرة أو ورم الـدّاحس مثلا.
البكاء
حالما تـُشلّ عضلاتُ الوجه، تبدأ الغُـدّة الدّمّـاعـة في تسخين الدّمع حتى يُهيّج الغليانُ مجاريه، عندئذ تستـطيع أدنى محاولة لإطباق الفم أن تنبّـه ارتعاشاتِه فتتضـاعف وتـتسـارع حتى تبلغ ذروتها ويَحْدُث الانفجـار، ولفرط تمزقه، تبقى زاويتاه مفتوحتين، وإذا ما حاول المـرء أن يطبق شفتيه ثانـية، سبقـه الشهـيق، فلا تدرك إحداهما الأخرى حتى يكفكف كرها الدّفعات الأولى من الدموع.
لكن طالما لا تجد الكلمات أو الصرخات صوتها، تتعصّر عضلات الوجه من جديد إلى أن تتحلـّـب دفعة أخرى يُهيِّج مرآها العينَ مثل الدم فتغرورق يائسة من الصحـو إذ ينحلّ العالـَم عبر غشاء الدمع إلى أطياف مرتجفة.
يَثـقل القنـاع المتشنج شيئا فشيئا فيـبحث البـاكي عن متـكإ أو يسند رأسه إلى يديـه حتى يقضِـيَ عَـْبَرتَـه وينبسط وجهُـه.
يبقى من الصّعب التمييز دون سماع نشيـج أو نحيب بين
دموع الفرح أو الحزن أو دموع البصـل، أو تلـك التي يهيّجها الدخـان أو الغــاز.
الفـتـنة
إذا فـُتن المرءُ، عبثا يحاول أن يمتحن فتنته أو يفسّرها فقد يقـتلها.
عليه إذاً، أن يقطع كل أمل في النجاة. فالفتنة ما إن تشعلْ نارها حتى يغيب أثـرُها بلا رجعة، ولا يتبقى سوى ما يشبه الخــدَر من لحظـة لا تتكـرّر.
ربما لأن من المستحيل العثور على منبع الألـَق السحري،
يتعلق المفتون بأي شيء يذكـّره باللحظة –الصدمة.
يائسا من امتلاك ما لا يُمتلك ومن الارتواء ممّا لا يُشرب، لا يجد سوى اللـثمِ ملاذا إذا كان مصدر الفتنة بالطبع قابلا للـّثم أو إنه يلثم أيّ شيء يحفـظ صورته حتى وإن كان ترابا أو حجرا ليستحضره مغمَض العينين، هـاذيا لا تكاد تزول عنه الحمّى حتى تعاوده أشدّ من ذي قبل.
لكن مهما طال التـقبيل، لا بُــرءَ من أثـر الفتـنة، وليست القبلة سوى شفاءٍ مؤقتٍ للفـم الأشـلّ الفاغر، مثل جرح لا يندمـل.
الرقص
مثلما قد يكتفي الشاعرُ بصفحة بيضاء ليُجَـنّ، تكتفي الراقصَة أو الراقص بموطئ صغير لتمزيق الجسد بين الأرض والسمــاء.
ليس كل ما يتكرّر من حركات رقصا، فكأنه كتابة لا تمحى ولا تـُعدَّل والراقص كالسابح تنكشف حركاتـُه الرعنـاءُ بسهولة.
مثلما تتوالد الأمواج عندما تـُلقَى حَصَياتٌ متواترة في الماء تتوالد الحركات ـ تـُوسِّعها أثوابٌ لمّاعـة أو مُشرَّمَـة أو متراكبة ـ راسمـة أمـداءً لامتناهيـــة…
لكن مهما يُوَمِّـئ الجسدُ، فإنه لا يشير إلا إلى نفسه ومهما
ينقل الخطو فهو لا يصل إلى أي مكان.
يتلوّى كطعين ويمـوّج أطرافه الخـَدِرة، ينتفض كذبيح أو يترجّف كالنار، يتخلـّع كدمية الخيطان، كأنه ينسج شرانق لا مرئية ويتورّط فيها.
ومثلما لا يمكن للعبارة أن تسـع المعنى كلـه، لا يمكـن أن تستحوذ رقصة على الإيقاع بأكمله بل إن خِدَعَ الحـواسّ تطمِس كل فجوة فيتناغم من حوله حتى الجماد، وكلما همّ بالتوقـّف هيّجَتـْه من جديـد غبطـة لا تـُقاوَم إلى حــدّ الشـَّـطح والغَشـَـيان.
شاعر من تونس