تبدلات المخيال التديني
تذهل ظاهرة العنف الإرهابي المتمظهر بماهية تديـُّنية -وليس دينية إسلاموية، وليس إسلامية- العالم المعاصر وتثير هلع الرأي العام الشعبي حول العالم بقدرتها التي تبدو فائقة وشديدة الفاعلية على تحشيد وتجييش أتباع لها من كافة أطراف الأرض، وفي ظهراني أجيال الشباب المتحدرين من ثـقافات وخلفيات سوسيولوجية وأنثربولوجية وإثـنية متباينة وأحياناً متناقضة ومتصارعة في بنيتها ومكوناتها الناظمة.
تمثل جماعات إرهابية مثـل داعش وأمثالها كنماذجٍ حيّة واقعية التمظهُر الأول والأكثر استحواذاً على مشاعر وهواجس العالم عن تلك الظاهرة المهيمنة على أركان المرحلة التاريخية المظلمة والراديكالية التي يعبرها الجنس البشري. ويبدو للمراقب العلمي المتمحص أنَّ ما يجعل من داعش وأمثاله نموذجاً لظاهرة مخيفة هو القدرة الجمعية والشمولية لهذا الميل العنفي الإرهابي المتمظهر تديّـنياً على تعبئة جماعات تقدَّر بالآلاف من شباب اليوم في خدمة أيديولوجيتها ومشروعها الوجودي. يحسب الجميع أنَّ ما نراه في القرن الحادي والعشرين هو نشوء شمولية جمعية تديــّنية دوغمائية وحلولها عموماً محلّ شموليات القرن العشرين التي كانت تتصف بأنها سياسية وقوموية وأيديولوجية. أي أن ما نراه أمامنا هو استبدال ظاهرة شمولية جمعية لادينية، بظاهرة شمولية جمعية أخرى دينية (يحلو للغالبية أن تقول إنها دينية-إسلاموية بامتياز وبالحصر).
تستوقفني، كباحث أكاديمي في الأديان وفي ظاهرة الميل التديّني عند البشر، مسألة اعتبار الكثير من الباحثين والمحللين لظاهرة العنف الإرهابي التديني-الإسلاموي بأنها نموذج “جمعي شمولي” الطبيعة والِقوام. وأسمح لنفسي في هذه المقالة القصيرة أن أقترح بأنَّ قراءة تلك الظاهرة على أنها حالة تجييش وتكتيل جمعية شمولية في طبيعتها وجذورها قد لا يكون مصيباً تماماً في توصيفه لماهية الخبرة الدينية أو الميل التديني الذي يجعل الآلاف من الشباب المسلم حول العالم يقرر أن يترك موطنه وفضاء عيشها الطبيعيين وأن يرميا خلفهما كل انتماء ثـقافي ومجتمعي وعرقي وعائلي ويلتحقان بركب أفواج المقاتـلين في صفوف داعش وأمثالها. برأيي المتواضع، إنَّ ما نراه في الحقيقة هو نوع من أنواع تـنامي الميل الفردي والذاتي والشخصي في العلاقة مع الديني في سياق الفكر الوجودي الديني الإسلامي حول العالم. قراءتي للخبرة التديّنية التي تعكسها أدبيات وخطابات ونصوص وأفعال داعش وأمثاله، بالإضافة إلى قصص الكثيرين من المجنّدين فيها وأفعالهم، المتوفرة بين أيدينا، تقول لي إن ما نشهده هو في الواقع هيمنة ميل وجودي ومعرفي واختباري فردي وجواني وشخصي على فضاء الماهية الإسلامية التقليدي والتاريخي، والذي هو في الأغلب شمولي وجمعي وجماعاتي نافٍ للفردي والذاتوي، أو مهمِّش له في أحسن الأحوال.
أنا أعتقد أن هذا التبدل البنيوي والعميق في ماهوية التـدين والعلاقة بالخبرة الدينية في الإسلام يتجلّى بأوضح صوره في الإسلام المتواجد خارج فضاء الإسلام التاريخي والجغرافي التقليدي: خارج العالم العربي. ليس غريـباً أن يكون خزّان التعبئة البشرية الأساس لحروب داعش وأمثاله في سوريا والعراق وليبيا ومناطق أخرى من العالم هم شباب وشابات يأتون إما من أوروبا، أو بريطانيا أو القارة الأميركية الشمالية أو آسيا الوسطى والنائية أو دويلات الاتحاد السوفييتي السابق، وأن النسبة الأقـل منهم تأتي من قلب العالم العربي ومن القارة الأفـريقية ومن أستراليا وأميريكا اللاتينية مثلاً، مع أن تلك الأجزاء من العالم فيها تجمعات بشرية مسلمة ومتـديـّنة معتبرة.
السبب برأيي أن أجيال الشباب المسلم التي تنضم لداعش وأمثاله من المناطق الأولى نشأت وتشكلت ماهيتها الأنثروبولوجية والفكرية والنفسانية والحياتية في فضاءات معرفية شهدت في أواخر القرن الثامن عشر -مع هيمنة الفكر الديكارتي والكانطي والنيتشوي- وطوال القرن العشرين -مع هيمنة الفكر الفيورباخي والفرويدي والسارتري- تشديداً مبادئياً مطلـقاً على الفردية والذاتوية والكيان الشخصي والفرداني كقاعدة للوجود وللمعرفة وللفهم. تـلك الموجة الحداثـوية/التـنويرية لم تجد تأريضاً حقيقياً لها في الأجزاء الثانية من العالم. لهذا لا نشهد نجاحاً لداعش وأمثاله في تجييش وجمع أتباع لها في تلك المواقع الجغرافية من العالم.
لنعد قليلاً الآن إلى ظاهرة التديُّن في ماهيتها الفردية والذاتوية والشخصانية. من أفضل من يشرح هذه الماهية الدينية -كما أشرح لطلابي عادةً حين أعلِّم مادةً عن النفاذ اللاهوتي للخبرة الدينية أو الروحية- وهيمنة البعد الفرداني الذاتوي عليها في فكر القرن التاسع عشر -والذي مازال مهيمناً اليوم في العالم الغربي- هو الفيلسوف والعالم النفساني الأميركي، وليم جيمس. في مجموعة محاضراته الشهيرة التي ألقاها في جامعة أدنبرة، في أواخر القرن التاسع عشر، والتي صدرت لاحقاً ككتاب بعنوان “تـنويعات الخبرة الدينية”، يتحدث وليم جيمس عن الخبرة الدينية على أنها بالدرجة الأولى ظاهرة شخصانية وليست مؤسساتية. يعني جيمس بمصطلح “شخصانية” أن الخبرة الدينية هي ميل فردي ذاتوي يهيمن فيه على فكر ووعي الشخص المتديّن اهتمام طاغٍ ومركزي بمشاعر وحاجات وصراعات وتفاعلات وأزمات فردية خاصة لا علاقـة لها، ولا اهتمام فيها، بالجانب العائلي أو المؤسسي أو الجماعي أو المجتمعي للدين الذي ينتمي إليه هذا الفرد.
تصبح الخبرة الدينية، برأي جيمس، مسألة تتعلق بمحاولة الشخص المفرد إسعاد وإرضاء نفسها وذاتها من خلال علاقة خصوصية وفردية مع الآخر المتعالي –الله أو المقدس- وفق تصورات وتوقّعات ومفاهيم عن هذا الآخر الديني لا يفهمها ولا يقدّرها سوى الشخص نفسه، وهي تصورات غالباً ما تكون بعيدة في إرهاصاتها ومكوناتها عن ما تـُعلّمه المؤسسة الدينية عن ذاك الدين ومضمونه اللاهوتي والإيماني.
يدفع هذا التحليل لظاهرة الخبرة الدينية بوليم جيمس -متأثراً طبعاً بنيتشه وفيخته- إلى اعتبار تلك الأخيرة حالة سيكولوجية-سلوكية تبدأ وتنتهي وتسكن عميقاً في الوعي أو الضمير الفردي الذاتوي والمخيالي الذي يساعد الفرد على فصل ذاته عن التديُّن الممأسس وفصل هويّتها ووجودها عن مشروطات الانتماء لجماعة ولحياة المجموع الديني والسوسيولوجي الذي تنتمي عائلياً أو مجتمعياً أو عرقياً أو تراثياً أو طائفياً إليه، لتبني دينها الخاص وتستخدمه لتـفرض على العالم وجودها الذاتي النابع من داخلها وغير المفروض عليها من أيّ خارج شمولي أو جمعي. الخبرة الدينية، باختصار، هي رد فعل الشخص المفرد السيكولوجي والأخلاقي والضميري الواعي غير الظرفي تجاه الحياة في العالم، برأي جيمس.
لن أخوض أكثر في فلسفة وليم جيمس الهامة عن الخبرة الدينية هنا. أودّ فقط القول بأنني أميل لقراءة ظاهرة الانتماء لداعش وأمثالها والانجراف خلف الميل لهذا النوع من التديُّن دون سواه في ظهراني أطياف معتبرة من الشباب المسلم في العالم -ولكن بشكل خاص ولافت في أوروبا وبريطانيا وأميركا- اليوم من زاوية التحليل الجيمسي وليس من نفاذ التحليل الديني الذي ينطلق من طبيعة الدين الإسلامي وفكره التاريخي التقليدي -الذي مازال ملحوظاً في تمظهر الإسلام في العالم العربي- والذي هو أميل للجمعية والشمولية والنفاذ الجماعي منه للانتباه بجدية للنفاذ الفردي والذاتوي.
نخطئ برأيي حين نقرأ خيارات الشباب المسلم -الأوروبي والبريطاني والأميركي بشكل خاص- المنتمي لداعش وأمثاله وآلية صنعه لقرار الانتماء لهم من بعد ديني-لاهوتي إسلامي تاريخي صرف. أعتقد أن علينا قراءته من نفاذ سيكولوجي-سوسيولوجي ومعرفي-ثـقافي متجذر في بنية المجتمعات الحداثوية/التنويرية التي نشأ وترعرع فيها هذا الجيل، وهي بنية فردية، ذاتوية وشخصانية وليست شمولية وجمعية.
ما يفعله أتباع داعش وأمثاله من شباب اليوم المسلم أنهم يفككون بنية المخيال والوعي الدينيين في الإسلام العربي والكلاسيكي المؤسسي والتقليدي والمرجعي من داخله ويعملون على استحضار ما دأب الإسلام التقليدي على دفعه إلى الهامش الأقصى لتعريفه لذاته وفهمه لماهيته الدينية ومن ثم يقومون بدفعه إلى مركز وقلب عملية التـفكير في تلك الذات وعملية تعريف تلك الماهية في إسلام اليوم. ما نشهده في ظاهرة العنف الإرهابي التديني الإسلاموي المظهر هو عاصفة إسلاموية-إسلاموية من داخل الإسلام ذاته: صراع بين المنطق الذاتوي والفردي والشخصاني، من جهة، والمنطق الشمولي والجمعي والجماعي، من جهة أخرى.
من الخطأ التعامل مع داعش وأمثاله ككيان جمعي وبنية دينية وبشرية صلدة ومتماسكة واحدة، فهذا في الحقيقة لا يعبر عن اكتـناه عميق لماهية الخبرة الدينية التي تتجلى في ما نراه من سلوكيات وأفعال وأفكار الأفـراد المقاتلين الذين ينتمون لهذا الإرهاب. صحيح أن ما يـنشره داعش على الإعلام يوحي بأنه كيان جمعي شمولي ممأسس مثل أيّ كيان إسلامي آخر. ولكن هذا مجرد تصوير افتراضي وإعلامي وهمي هدفه كسب شعبية ودعم لذاك التمظهر الإسلاموي من أكبر شريحة ممكنة من المسلمين، خاصة في تلك الأطراف من العالم حيث لم يهيمن الفكر التـنويري/الحداثوي الغربي المتمحور حول الذات المفردة والفكر الذاتوي.
بنية داعش وأمثاله التـدينية والماهوية الفعلية هي بنية قوامها خبرة دينية ذاتوية وفردية وشخصانية نافية للجمعي والشمولي. وإذا كان تسويق تلك البنية هو مصدر قدرة داعش على كسب أتباع -ينضمون إليه أفراداً، كما نلاحظ، وكنوع من الرغبة بتأكيد الوجود الفردي ضد خيار وهوية العائلة والجماعة المجتمعية والدينية وحتى العرقية التي ينتمون إليها في بلد منشأهم- في الوقت الحالي، فإن نفس تلك البنية الفردية والذاتوية والشخصانية هي العامل الرئيس الذي سيفضي إلى زوال داعش وأمثاله: فمن انضم لداعش بقرار فردي ذاتوي بصرف النظر عن رغبة وميول المجموع الذي ينتمي إليه سيقرر يوماً ما أن ينفضّ عن خبرة العنف الإرهابي وأن يتمرد عليها حين تتوقف عن تلبية رغباته وإرضاء حاجاته الفردية والذاتية والشخصانية، حتى لو كان هذا التمرد سيكون خروجا عن حالة الجماعة وعن مشروطاتها.
أحد الأمور التي قد تساعد المسلمين على تدمير حالة الميل التديني للعنف الإرهابي وتفكيكها من داخلها ومن عمق تجذرها في تمظهرات الإسلام الشعبي المعاصر هو أن تبدأ المؤسسات الإسلامية المعتبرة حول العالم بعملية إعادة تفكير، بل وإصلاح بنيوي، جريئة ومنفتحة لفهمها لطبيعة الخبرة الدينية والمخيال التديني الذي يحمله عشرات ملايين الأجيال الجديدة من المسلمين حول العالم والتي يفهمون من خلالها إسلامهم.
يبدو لي كمراقب علمي أنَّ الإسلام لم يعد يستطيع اليوم أن يتعامل مع المسلمين على أنهم جميعاً يفهمون دينهم من نفاذ تقليدي مهيمن -عربي أو آسيوي تاريخياً- جمعي وشمولي وجماعي في طبيعته المعرفية وأدواته الهرمنيوتيكية -التفسيرية والتأويلية. ربما الإسلام الوحيد الذي مازال يتبع النفاذ الجمعي والشمولي والجماعي الصلب في العالم اليوم هو الإسلام الذي يتبعه المسلمون في العالم العربي والأفريقي وبعض الجيوب المجتمعية في آسيا الوسطى، ولا حتى في إيران وتركيا والسعودية، الدول المسلمة بالتعريف، تستطيع الحكومات الإسلامية التقليدية والأرثوذكسية هناك أن تقف فعلاً أمام تـفشي البعد التديني الذاتوي والشخصي والفردي على مستوى الشارع العام.
على الإسلام التقليدي أن يدرك أن الغالبية العظمى من المسلمين الشباب الذين ينتمون للعالم الأوروبي ولبريطانيا والولايات المتحدة يفهمون إسلامهم بمنطق ومخيال معرفي متشرب بفكر الحداثة والتـنوير الفردي والذاتوي والشخصاني. وعلى المؤسسات الدينية الإسلامية إدراك هذا واحتضانه واستخدامه لإعادة إحياء الإسلام وإصلاحه من داخله. عليها أن تفعل هذا كي يبقى جيل الشباب المسلم اليوم منتمياً للإسلام كما نعرفه تاريخياً ومحمدياً وكي لا يبقى أسير فكر إسلامي سلفي أصولي تكفيري راديكالي نشأ ونما وتطور في كنف فضاء ثـقافي ومعرفي لاعربي ولا إسلامي كلاسيكي جغرافياً وحضارياً.
على المؤسسات الدينية الإسلامية تدارك هذا، وإلا فإنَّ هذا الجيل المسلم الذاتوي والفردي المعاصر سرعان ما سيهيمن برؤاه ومخياله الديني على الساحة الإسلامية وقـد يفرض على الإسلام القبول بتمظهرات لتـلك الذاتوية والفردية التي لا يرضى عنها الإسلام ولا يؤيدها القرآن ولا الفقه، ولكن ستقف المؤسسات والمرجعيات الدينية عاجزة عن مناهضتها وستجد نفسها، لا قدر الله، مضطرة للقبول بظاهرة “تدعيش” -من داعش- أو “رَدكَـلَة” -من راديكالية- الإسلام من قبل أبنائه أنفسهم. عدو التدعيش والرَدكَـلَة الأول والوحيد برأيي المتواضع هو قراءة الإنسان المتدين في سياقه التاريخي والسوسيولوجي والأنثربولوجي والسماح لهذه القراءة بتحقيق إصلاح بنيوي وعميق في خطاب الدين ذاته.