الأناشيد الداعشية ملهاة البحث عن معنى
حقيقة، وعلى هامش النقاشات غير المجدية، فإن «الأغنية» من السهل أن تعلق في الذهن لبساطة لحنها، فاللحن هو المركز الذي به تنجح أو تفشل، وتأتي الكلمات في المرحلة الأخيرة. الأفراح الشعبية في مصر تشتعل رقصا على أغان تتحدث عن الجرح والخيانة وغدر الأصحاب، لكن من يكترث!
عودة إلى النشيد، فقد مرّت الحركات الإسلامية بالكثير من التطورات من منتصف سبعينات القرن العشرين وحتى مطلع الألفية، ورُصدت هذه التطورات على مستويات عدة -الإجرائي التنظيمي والأيديولوجي والخطابي- كما تم تناول ذلك في الكثير من الدراسات. بعضها يحمل سمات استشراقية في محاولة لسبر أغوار «آخر» نشأ وتنامى في الظل، والكثير منها ذو منهج متماسك ورؤية موضوعية لبُنى هذه التنظيمات واستراتيجيات عملها. وعلى الرغم من أهمية هذه الدراسات في «فهم» الحركات الإسلامية إلا أن ما وقع في دائرة التجاهل، على أهميته الشديدة، هو تناميها على المستوى النفسي، ومستوى الوعي غير المباشر، ما قد نلمسه بوضوح في تطور «الفن عند الحركات الإسلامية». ينبع ذلك من ضراوة المعركة السياسية من جهة والتباين و/أو العداوة بين تياراتها المختلفة، والحضور الثانوي الهامشي للفن -بكل تعريفاته وتجلياته- في التركيبة النفسية والاجتماعية للتيارات الإسلامية المختلفة.
تاريخ لا بد منه
النَّشِيدُ فَعِيل بمعنى مُفْعَل.
والنشيدُ الشعر المتناشد بين القوم ينشد بعضهم بعضاً؛ قال الأُقيشر الأَسدي «ومُسَوّف نَشَدَ الصَّبُوحَ صَبَحْتُه، قَبْلَ الصَّباح، وقَبْلَ كلِّ نِداءِ» قال «المسوّف الجائع ينظر يَمْنَةً ويَسْرَةً». نَشَدَه: طلبه؛ قال الجعدي «أَنْشُدُ الناسَ ولا أُنْشِدُهم، إِنَّما يَنْشُدُ مَنْ كانَ أَضَلْ» قال «لا أُنْشِدُهم أَي لا أَدُلُّ عليهم».
ويَنْشُدُ: يَطْلُبُ.
والنَّشِيدُ من الأَشعار: ما يُتناشَدُ.
وأَنْشَدَ بِهِمْ. هَجَاهُمْ.
وفي الخبر أَن السَّليطِيِّينَ قالوا لِغَسَّانَ «هذا جرير يُنْشِدُ بنا» أَي يَهْجُونا؛ واسْتَنْشَدْتُ فلاناً شعره فأَنشدنيه.
ومِنْشِدٌ: اسم موضع؛ قال الراعي «إِذا ما انْجَلَتْ عنهُ غَدَاةً ضَبابةٌ، غَدا وهو في بَلْدٍ خَرانِقِ مُنْشِدِ». (لسان العرب).
ظهر «النشيد الإسلامي» من موقع الأزمة، مع تسيد المقولة الفقهية بحرمانية الأغاني، وتواري مثيلتها المستندة على كلام الظاهريين «ابن حزم الأندلسي على رأسهم»، وذلك استنادا على أدلة منها «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ» (6- سورة لقمان)، وصح عن عبدالله بن مسعود أنه سئل عن هذه الآية فقال «هو الغناء والذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاثا». والحديث الأشهر عن أبي عامر -أو أبي مالك- الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ليكونن من أمتي أقوام يستحلّون الحر والحرير والخمر والمعازف». قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 21/158 «المعازف اسم لكل آلات الملاهي التي يعرف بها كالمزمار والطنبور والشبابة والصنوج».
وإذا كانت هذه الفتوى تاريخية، وقد توارت تماما في بدايات القرن العشرين مع محاولات الإصلاح التي قام بها الإمام محمد عبده بالأزهر، إلا أنها صعدت مرة أخرى مع صعود تيار الإخوان المسلمين، لا كفتوى دينية فقط ولكن كملمح هويّاتي، فكيف إذن يتم التوفيق بين الفتوى الفقهية والمنتج الفني.. جاء النشيد ليحل هذه الأزمة، إنه غناء بلا «معازف» يحمل رسالة أخلاقية.. يقول حسن البنا في واحدة من رسائله «إن الإخوان المسلمين لا يحاربون المسرح ولا المذياع؛ لأنهم ليسوا من الجمود بحيث يقفون هذا الموقف، وإنما يريدون أن يطهّروهما من الشر والإثم، ويزيلوا أثرها السيء المُنصبّ على نفوس الشباب والفتيات». نحن إذن أمام بنية «متعالية» تشي بوضوح بجدلية الحداثة التي هي في القلب من أسئلة الإسلام السياسي في صورته الوليدة.
لنقف قليلا عند معضلة هذا الفن، فتزامن ظهوره يأتي مع ازدهار لنوع فنيّ له جمهور عريض «القرآن المجود والتواشيح الدينية» بنجومها الكبار ومنهم في مصر علي محمود ومحمد رفعت ومصطفى إسماعيل وسيد الصفتي وغيرهم، لماذا إذن هذه «الحاجة» لخلق فن جديد؟ هنا يمكن فهم الحاجة التنظيمية لوجود «صوت» معبّر عنهم، مثلما كانت الحركات الشيوعية في مصر لها أناشيدها الخاصة، إذا أضفنا إلى ذلك كلام البنا في الحاجة إلى وجود «بديل» لشكل الفنّ الموجود بلا معايير ضابطة له، الفن بما هو وسيلة للاصطفاف كما عبّرت عنه أدبيات الجماعة.
النشيد -عادة- ذو طابع حماسي، بجُمل موسيقية قصيرة سهلة الحفظ وتعلق في الذهن بيسر، ويملك في بنيته طابعاً تنظيمياً مرتبطاً بحركة سياسية. إذن، هو ذو دور وظيفي، ما لا يمكن اعتباره فناً بقدر ما هو إطار فنيّ لرؤية سياسية. ولمّا كان للفن لدى الإخوان دور وظيفي فحسب، كان هو الفن الأهم في مسيرتهم.
فكرة «البديل» ودوره الوظيفي، يمكن فهمها في نشيدهم الشهير «لبيك إسلام البطولة كلنا نفدي الحمى»، الذي هو ذاته النشيد العروبي «لبيك يا علم العروبة» من دون تغيير في الكلمات الأصلية واللحن باستثناء «علم العروبة» الذي صار «إسلام البطولة»، وأضيفت خمسة مقاطع إلى النشيد الأصلي من أجل صبغة إسلامية والتذكير بالقضية الفلسطينية. مرّ هذا النشيد بتحولات جذرية، فبعدما كان من سبعة مقاطع، من دون موسيقى، حذف مقطع معادٍ للمسيحيين «زحفاً جيوش الله عادت تنطلق من مسجدي/تفني صليب الغدر تثأر من لئيم معتد/تعلي هتاف الحق تنهض من شريعة أحمدِ». وقبل حذفه استبدلت كلمة «صليب الغدر» بكلمة «يهود الغدر». واللافت أن كثيرين لا يعلمون أن النشيد الإسلامي الأشهر هو النسخة الإخوانية من النشيد العروبي.
النشيد -عادة- ذو طابع حماسي، بجُمل موسيقية قصيرة سهلة الحفظ وتعلق في الذهن بيسر، ويملك في بنيته طابعاً تنظيمياً مرتبطاً بحركة سياسية
وعلى نهج «لبيك» كان النشيد الإخواني يطرح نفسه كبديل للرائج بالفعل، وأن التواصل مع «الآخر» يكون بأدواته، مع افتقاد أيّ معيار أخلاقي في استخدام منتج الآخر وتطويعه للرؤية الإسلامية طالما أنهم يحوّلون الحرام إلى حلال. ويكفي معرفة أن أغانٍ مثل «صيدلي يا صيدلي» للبناني عازار حبيب، صارت عندهم «ربنا يا ربنا». وأغنية «ميال» لعمرو دياب أصبحت «من كام سنة وأنا ديني الإسلام/وشريعتي أنا سنّة وقرآن»! وأغنية «إني خيرتك» لكاظم الساهر، صارت «إني خيرتك فاختاري ما بين عذاب في القبر/أو بين سعير في النارِ»، وغيرها الكثير من الأغاني التي لاقت انتشاراً في الشارع. حتى أغنية «آه ونص» لنانسي عجرم لم تسلم من تغيير كلماتها.
بداية الانشقاق
«الإنشاد الإسلامي إنشاد مبتدع، يشبه ما ابتدعته الصوفية، ولهذا ينبغي العدول إلى مواعظ الكتاب و السنة، اللهم إلا أن يكون في مواطن الحرب ليستعان به على الإقدام والجهاد في سبيل الله تعالى فهذا حسن. وإذا اجتمع معه الدفّ كان أبعد عن الصواب» (فتاوى ابن عثيمين).
مع ظهور انشقاق التيارات الجهادية، توارى كثيرا ذلك الكيان «المسخ» الذي خلقه الإخوان، وكانت الحاجة إلى منتج فني يعبر عن الأيديولوجيا الأكثر جذرية، لذلك كان منتجهم أكثر أصالة حقيقة، بكلمات معظمها من التراث الشعري القديم، بلا دفوف أو آلات مصاحبة، ولعل أشهر الظهورات الفنية لهذه التيارات هو نشيد «غرباء» الشهير الذي غناه أحمد النجار أحد قتلة رئيس مجلس الشعب المصري الأسبق رفعت المحجوب.
ليس خفيا على أحد أن هذه الحركات الجهادية -ورغم أنها تبنت أدبيات سيد قطب- متأثرة بالفكر الوهابي لا في أفكارها فحسب، لكن في تمظهراتها الاجتماعية والسلوكية: الجلباب القصير، غترة الرأس، تعطيش الجيم. لذلك كانت فتوى ابن عثيمين بتحريم الأناشيد «أزمة» وجدوا مخرجها الوحيد في منطقهم أنهم في حالة حرب مع «الدولة».
تحول درامي
ببساطة، يمكن للأذن الخبيرة أن تعرف الفرق بين النشيد الإخواني والسلفي، من ناحية فالنشيد الإخواني -في الأغلب- هو إبدال لكلمات أغنية ذائعة الصيت بأخرى ذات صبغة إسلامية، والكثير الكثير من الأناشيد الفصحى، بالإضافة إلى الموضوعات المحددة وعلى رأسها النضال ضد إسرائيل والعودة إلى القدس. أما النشيد السلفي ففي الأغلب يرتكن إلى كلمات كلاسيكية ذات سمة دينية واضحة تعود للإمام الشافعي مثلا، وطريقة نطق الحروف القريبة من النطق القرآني (تعطيش الجيم وقلقلة بعض الحروف).
غير أن التحول -الأكثر درامية- في عمر هذا الفن في نسخته السلفية في مصر، عندما تحولوا إلى الإنشاد بالعامية المصرية، هذا التحول المغاير لتراثه الكبير -في مصر وخارجها- تزامن مع دخول الدعوة السلفية في المجال العام في مصر بعد ثورة 25 يناير، تحولت الجماعة الجهادية التي تنامت في الظل إلى حزب معلن مكشوف في العلن، ولأن مفردات التحرك كخلية ضد الدولة والحداثة مغاير لخطوات هي بنت الحداثة: الحزب والمواقف المعلنة ومجلس شعب واستفتاءات، تغيرت كثيرا البوصلة الفنية، ليظهر منشد سلفي هو أبو عمار. والذي أنشد لأحد رموز الدعوة السلفية وهو «عبد المنعم الشحات» أنشودة اسمها «شيخ منعم الشحات» والغريب أن «أبو عمار» اعتمد على النطق العامي لاسم «عبد المنعم» ليتحوّل إلى «منعم» على الرغم من الفتاوى الصارمة فيما يخص الأسماء المعبّدة وعدم نسبتها لغير الله وهي نوع من الشرك، لكن الدخول إلى المجال العام أفقد هذه الجماعات الكثير من جذرية خطابها المسلح، وكل أدواته.
بل إن «أبو عمار» نفسه قد كرس لمانيفسو سياسي في واحدة من أناشيده وهي «إخواني أنا سلفي، سلفي أنا إخوان» نحن هنا أمام تحوّل براغماتي واضح في مفردات الدعوة السلفية ممثلة في حزبها وأفراده، فالدخول إلى المعترك السياسي جعلها تغير من أولوياتها بعد العداوة الحادة مع جماعة الإخوان المسلمين في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته، يأتي دور العمل السياسي القائم على حساب المصالح، وبالتأكيد فإن المشترك بين حزبين بصبغة إسلامية أعلى كثيرا من غيرهما -هذا بالطبع بخلاف ما كان يحدث في الكواليس من تفاهمات بين الدعوة السلفية والدولة القديمة- فالحديث عن بنية خطابية تشترك في كثير من عناصرهما.
لوحة: حسين جمعان
قبل داعش وبعده
ورث داعش الدور الذي كان يقوم به تنظيم القاعدة في المنطقة، لا على المستوى الأيديولوجي ولكن تنظيميا كذلك، فكما هو معروف فإن داعش هو ابن التحرك المسلح الذي قاده أبو مصعب الزرقاوي في بدايات الألفية في العراق، غير أن استقراره في العراق جعله يحيد قليلا عن الدور القاعدي في المنطقة.
القاعدة نظام خلوي، وإن استقر قادته في جبال أفغانستان، فإنهم لم يجنحوا لتأسيس «دولة»، ونشاطاتهم عابرة للدول، القاعدة هي التنظيم المتجاوز للتيارات الجهادية الموجودة في المنطقة العربية، ومتجاوز لفكرة الدولة ذاتها في مواجهة الهيمنة الكبرى للولايات المتحدة.
القاعدة وإن كانت بنت الأيديولوجيا الإسلامية فإن حركيتها ونشاطاتها ربما تتجاوز العقائدي، ونعود لكلام جان بودريار في «روح الإرهاب» في محاولته لفهم الفئة التي دمرت برجي مركز التجارة، إذ يخلص إلى أنه كلما تصاعدت قوة القوة العظمى تصاعدت إرادة التدمير لديها، ومن ثم تصبح مشاركة في تدمير ذاتها. ومن هنا يصاب المرء بانطباع غريب وهو أن انهيار البرج التوأم جاء استجابة لانتحار الطائرتين اللتين أغارتا عليه. ومن هذه الزاوية يمكن القول إن الغرب من حيث هو المعادل الموضوعي لله قد أعلن الحرب على ذاته. ومن هنا نشأ مبدأ جديد وهو أن أيّ نظام يكون مماثلاً لله من حيث هو مطلق فإنه يكون قابلاً للسقوط والانهيار، أو بالأدق يكون قابلاً للانتحار. ويخلص بودريار من ذلك كله إلى أن الإرهاب مثل الفيروس قادر على الانتشار كوكبياً مع كل نظام يتصف بالهيمنة وكأن الإرهاب هو مجرد ظلّ لأيّ قوة عظمى.
انطلاقا من ذلك التحليل، يمكن فهم حقيقة أن القاعدة لم يكن لها منتجها الفني الخاص بها، فهي -بنيويا- ليست جماعة أو طائفة، إنما هي ردة فعل على سياق أكبر.
حتى أن كل الأناشيد التي خرجت في رثاء أسامة بن لادن، لم تخرج من منظّمين قاعديا، بل خرجت من متعاطفين مع رمزية التنظيم وأيقنة بن لادن نفسه. يشبه كثيرا -وبقليل من التجريد- التعاطف العالمي مع تشي غيفارا كرمز للمقاومة: الفرد الرمز القادر على إرباك قوة عظمى مهيمنة.
لكن مع داعش فالأمر يختلف كثيرا، لا من باب تبرؤ القاعدة من داعش والعكس، بل لأن أبناء الزرقاوي في العراق حولوا فعل «المقاومة» الخلوية إلى صراع على أرض وإنشاء خلافة ودولة، ولما ترسمت حدودها وصارت لها قوانينها وأعرافها، صار لها منتجها الفني.
أناشيد داعش
قبل أن تتحول صليل الصوارم إلى حمّى في وسائل التواصل الاجتماعي، فالغزارة في الحصيلة الإنتاجية الداعشية تجاوزت كل التراث الإخواني والسلفي، لتقدم أناشيد جهادية وطريفة، عامية وفصحى. باختصار هي منتج الحياة اليومية للفصيل «المتدوّل»، ليتخطى مجرد الحماسة القتالية إلى الاحتفاء باسم الخليفة الأول، مثل النشيد -باللهجة العراقية- «بوبكر يا بغدادي يا مرهب الأعادي»، أو نشيد «رصوا الصفوف وبايعوا البغدادي». وهذا الأخير تحديدا يشابه كثيرا الأغاني العربية المنادية بأسماء الزعماء، حتى أن مونتاجها تضمن كلمات الخليفة في بدايته.
ولأن الدعوة -والطموح- الداعشي عالمية فهناك أناشيد تمت ترجمتها، مثل «أمتي قد لاح فجر»، ومنها ما هو ابن اليومي، مثل نشيد «ياعاصب الرأس وينك»، ونبصر مجموعة من مسلحي الدولة في جلسة وهم ينشدونه معا. وتعددت القنوات الخاصة على يوتيوب وساوند كلاود التي تقدم الأناشيد الداعشية، بل إن بعض الأناشيد، قد تخففت كثيرا من فتوى ابن عثيمين، لتستخدم بعض التقنيات الصوتية لتنفيذها، مثل نشيد «أرى الأحبة قد رحلوا».
على مستوى البنية الموسيقية، فإن الأناشيد هي الصورة الإسلامية من الأكابيلا، وهي اللون الموسيقي الذي يستعين بالصوت البشري كبديل للآلات الموسيقية، ظهرت بداية في القرن السادس عشر في إيطاليا كشكل من أشكال الموسيقى الدينية تكتب للأصوات البشرية وحدها بدون استخدام آلات وتغنّيها المجموعة، أما أول من لحنها فكان الإيطالي بيير لويجي بالسترينا (1526 – 1594) والذي قضى حياته في خدمة الكنيسة في تأليف الموسيقى الدينية. ثم ظهرت المدرسة الفلمنكية التي وضعت نصب أعينها تهذيب هذا اللون ونقاوته من الحذلقة والإغراق في استعمال الخطوط الموسيقية الإضافية (الهارموني) و(الكونتربوينت) واهتمت بالصوت البشرى فقط، فجعلت منه أداة للتعبير الكامل، وأصبحت أكابيلا تعتمد على الهارموني المدروس لا مجرد وجود أصوات متوافقة بالصدفة. واللافت أن استخدام الأكابيلا كان في المسيحية واليهودية والإسلام، وكلها لمناسبات أو لظروف دينية.
اللافت أيضا أن حكم شيوخ السلفيين في الأكابيلا واستخدام تقنيات الصوت فيها تفصيل، السؤال واقع عن استخدام الصوت البشري بدون تدخل تحسين آلي عليه بواسطة أجهزة الحاسوب، وغيرها؛ فإن الصوت الناشئ عنها سوف يكون صوت آلة له نفس حكم المعازف.
أما مجرد محاكاة الإنسان لصوت المعازف والموسيقى، فهذا ينبني الكلام عليه على عدة أمور:
أ- هل يُقاس هذا الصوت المحاكي لآلة العزف على الصفير؛ فيأخذ حكمه «وهو حرام»؟
ب- هل تدخل هذه المحاكاة تحت باب التشبه، فتكون المحاكاة للمحرّم محرّمة، وللمباح مباحة؟
ج- النظر في هذه المسألة إلى النشوة والطرب الحاصلين للسامع من جراء سماع الصوت البشري المحاكي للمعازف، وأن هذا لا يختلف عمّا لو سمع صوت آلات المعازف، وهل هذا يؤثر في الحكم أم لا.
تتغاضى الدولة الداعشية عن هذا الحكم، لضرورات العيش اليومي، رغم حرصها على التطبيق الحرفي للنصوص الإسلامية، ويمكن أن نستشف من ذلك أن الدولة مازالت سابقة على الحكم الفقهي، والمصلحة السياسية مقدمة على الفتوى الشرعية. ولعل في ذلك دلالات عديدة لنتجاوز هذا الكيان الشيطاني من شيطنته إلى فهمه.