جذور العنف
ولأن الدولة في بعد أساسي منها تمثل أكبر قوة في المجتمع، وبالتالي أكبر سلطة، أي المبدأ المؤسس لانقسام الناس إلى حكام ومحكومين، فقد سعى الفكر البشري منذ القدم، وبالخصوص مع ظهور الفلسفة عند اليونان، إلى جعل هذه القوة الجبارة بما تملكه من جند ومال وسلطة تتصرف ليس بالرجوع إلى قوتها الذاتية بل وفق قوانين وتشريعات وقيم تعلو عليها وتخضع لها. كذلك جاء الدين أيضا، على الأقل الدين الإسلامي، من أجل جعل سلطة الدولة تابعة لسلطة أكبر منها هي سلطة الله، تفاديا لتغوّلها وتجبّرها على البشر الواقعين تحت سلطانها. صحيح أن القوانين عبر التاريخ كثيرا ما يصنعها الأقوياء أو كثيرا ما تصنع لصالحهم، مثلما أن الديانات كثيرا ما تُختطف من طرف البشر وتحوّل إلى مصدر يشرّع البطش والقتل، بل نجد فلسفات تجعل القوة المصدر الطبيعي الأول للحقوق والامتيازات، كما فعلت مثلا فئة من الفلاسفة السفسطائيين عند اليونان، كما ذكرنا، أو كما فعل ميكيافيلي حين فصل السياسة عن الأخلاق.
واللغة التي كثيرا ما توصف بأنها أداة تواصل بين البشر، هي أيضا في الحقيقة أداة من أدوات العنف والفتك والحرب. ذلك أن اللغة تتيح رمزيا «إلغاء إنسانية” الإنسان من خلال ما توفره من قدرة على تحويل هذا الأخير إلى شيء آخر يمسخ آدميته بما يسوّغ قتله أو يشرعنه أو يبخسه، وذلك بواسطة أدوات لغوية كالتصوير والتشبيه والحط والشيطنة وغير ذلك. نتذكر بهذا الصدد صفة «الجرذان” التي أطلقها «زعيم” ليبيا السابق على المتظاهرين المطالبين برحيله، موضحا بأنه «سيبيدهم زنقة زنقة” باعتبار أنهم، بحكم تلك الصفة، ليسوا من البشر، حتى يتم توصيف القضاء عليهم بالجريمة أو نحو ذلك، فقتل هذه الكائنات الضارة لا يعدّ جريمة. من هذا القبيل أيضا، وفي ظروف مشابهة، إطلاق عبارة «القضاء على الجراثيم” على عملية أمنية رامية إلى مواجهة المتظاهرين المطالبين بالإصلاح السياسي في بلد عربي آخر، فالأمر هنا كذلك لا يتعلق بمجرد تشبيه لغوي، بل هو تعبير عن صورة الضحية في ذهن الجلاد الذي هو من هذا النوع، أي المعروف باسم المستبدّ. إن الجلاد هنا، وهو في موقف المدافع عن مشروع جريمته، لا يواجه بشرا بل جراثيم، حسب اعتقاده. وتشبه هذه العملية اللغوية التحويلية عملية التسامي ذات الطابع التحليلي النفسي لدى فرويد، التي يتم من خلالها تحويل الرغبات اللاشعورية المنبوذة أخلاقيا واجتماعيا إلى صور تحظى بالقبول والتقدير. من هنا يظهر عدم شعور الجلاد، الذي هو من هذا القبيل، بأيّ شعور بالذنب. إن نزع صفة الإنسان عن الضحية هو إذن مقدمة لنفي صفة الجريمة على قتله والقضاء عليه. لهذا نلاحظ أن المستعمِرين وصفوا الشعوب التي استعبدوها ودمروها بالمتوحشين، ليس بمعنى عدم التحضر، بل بما يعني أن هذه الشعوب حيوانات ضارة، وذلك من أجل نفي صفة الجريمة عن استعبادها أو القضاء عليها. فأول الجريمة السياسية أو العقائدية أو العنصرية لها دائما مظهر أو شكل لغوي، يتم من خلاله نزع صفة الإنسانية عن الضحية، أي تحويله بواسطة اللغة إلى حيوان أو نحوه، حتى لا ينطبق على القضاء عليه مفهوم الجريمة.
على أن التاريخ البشري هو أيضا تاريخ صراع الإنسان من أجل التحرر من مختلف أشكال الاضطهاد والقهر الناجمين عن مبدأ القوة كيفما كان شكله، سياسيا كان، أو دينيا، أو اقتصاديا أو غير ذلك. ولعل الفكر الاشتراكي والتجارب الاشتراكية التي عرفها الإنسان في القرن العشرين، ليست غير حلقة من هذه الحلقات المعبرة عن جهد البشرية المتواصل من أجل التأسيس لمجتمع إنساني لا يسود فيه قانون الغاب ولا استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. على أن خطاب الخلاص ومشاريع الخلاص والتحرر لا تخلو بدورها من عنف كثيرا ما كان مدمرا، كما أظهر التاريخ ذلك أكثر من مرة.
إن أصحاب خطاب الخلاص الجماعي كثيرا ما يذهب بهم النبل المفترض لقضيتهم إلى ارتكاب مجازر معتقدين أنهم يقتلون في سبيل ما يعتبرونه الخير العام. فالملايين من الفلاحين قتلوا من طرف ستالين في سبيل الاشتراكية قبل أن تسقط في الأخير بعد بضع عشرات السنين سقوط أوراق الخريف. كما تذكر بعض الكتابات التاريخية بأن ماو تسي تونغ أيضا ضحّى بالملايين من الفلاحين في سبيل تحقيق حلم الاشتراكية، في بلد نهضت به الرأسمالية في نهاية المطاف. إن النبل المفترض لقضية لا يبرر استخدام وسائل لاإنسانية. كل قضية معرّضة لأن تبدو في نهاية الأمر قائمة على وهم. وعليه فإن نبل القضية يتأتى أيضا من نبل وسائل تحقيقها.
إن المجتمعات العربية لم تحتك في بداية أمرها بالحداثة إلا في صورتها الكولونيالية التي ما كان بالإمكان أن تؤدي إلى إحداث قطيعة مع البنيات التقليدية للمجتمعات المستعمَرة
النظام السياسي العربي والعنف
لئن لم يتحقق إلى اليوم هدف التحرر من مختلف أشكال الاضطهاد والقهر، فإن المجتمعات البشرية الأكثر تقدما قد أمكنها الوصول إلى تحقيق دولة خاضعة لإرادة مجتمعها وإلى إقامة مجتمع يحكمه القانون، على الأقل بقدر لا نجده في البلدان المتخلفة، ذلك أنه حيث لا تكون السيادة للقانون، يسود قانون القوة، وبالتالي قانون الغاب، على الأقل بهذا القدر أو ذاك؛ وحيث لا يوجد رخاء وتقدم يوجد العنف، السلبي منه، في صورة البطالة والعوز، مثلا، أو في صورة رد الفعل، بأشكاله المختلفة. لكنّ العنف يوجد في كل مجتمع، وأسبابه وجذوره تختلف من مجتمع إلى آخر. ولذلك ليس تاريخ العنف واحدا بالنسبة إلى كل المجتمعات البشرية، فوراء العنف السائد في أيّ مجتمع توجد عوامل تحيل إلى تاريخ هذا المجتمع وإلى ثقافته وإلى الدين والاقتصاد والسياسة وإلى الاستعداد البشري، وهلمّ جرا. لكن لا يختلف اثنان بأن منطقة العالم العربي تمثل اليوم المنطقة الأكثر عنفا ودموية في العالم، فما يجري في السنوات الأخيرة في بعض بلدان المنطقة (سوريا، العراق، مصر، ليبيا أو اليمن..) يختصر إلى درجة معتبرة مشهد العنف القائم في العالم. وحتى ما نشهده في بعض مناطق العالم الأخرى من عنف وقتل ليس من دون صلة بما يحدث في أقطار العرب. ليس هذا فحسب، فحتى عندما لا يكون العنف بهذا الشكل المدمر الذي يقضي على الأخضر واليابس، كما هو الشأن اليوم، يسود العنف الآخر، «البارد”، العنف السياسي، البوليسي، المرتبط بطبيعة نظام الحكم، الذي اشتهر باسم الاستبداد، ذلك أن إحدى وظائف العنف، كما ورد ذلك في التعريف السابق للفيلسوف الفرنسي بلاندين كريغل، هو السيطرة.
فالنظام السياسي العربي في صلبه قائم على مبدأ العنف، لأنه لا يرتكز على مبدأ العقد الاجتماعي الذي تستند إليه الدولة الحديثة، بل على مبدأ الغلبة، المبدأ الذي يفسر به ابن خلدون تاريخ العرب والبربر. وهذا يعني أن الإنسان العربي يعيش ويتنفس العنف سواء في «السلم” أو في الحرب. إن ابتذال حياة الإنسان واسترخاصها، سواء عندما يتجلّى ذلك في صورة الحرمان من الحق في الحياة، وهو أشد أنواع العنف، أو في أشكال أخرى كالتعذيب والسجن وما إلى ذلك، لتبدو بشكل واضح كظاهرة مميزة لنمط الحكم القائم على مبدأ الخوف والقهر المعتمد في العالم العربي.
صحيح أن الحروب تساهم عادة، وهذا تقريبا في كل مكان وفي كل زمان، في ابتذال حياة الإنسان، ففي الحروب يحدث نوع من تطبيع القتل ويصبح الموت شيئا مبتذلا، وحتى مشروعا، إلا أنّ ما يجري في العالم العربي اليوم، وبعضه يدخل في نطاق الحرب الأهلية، يصيب المدنيين بالأساس، وفي أحيان كثيرة بطريقة غاية في البشاعة واللاآدمية. فحتى في الحروب، لا سيما في العصر الحديث، توجد قوانين تحرّم مثلا قتل المدنيين، وأحيانا يفعل الضمير وحده فعله للحيلولة دون التعرض بالأذى، لا سيما بالقتل، للأطفال والنساء والعجزة وغيرهم من المدنيين. توجد كثير من الأفلام الدعائية المناهضة للعرب، يعني ذات التوجه الصهيوني، تقدم عن العربي صورة إنسان إرهابي، عنيف ومتوحش. وبالرغم من أن الدعاية في هذا المجال تقوم على التضليل والمبالغة، إلا أنها تستغل أيضا عناصر من الواقع. وعلى أيّ حال فإن ما تبثه شاشات العالم عن الجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها العرب ضد بعضهم البعض، يعني ضد أبنائهم ونسائهم ومدنييهم تعطي للأسف مصداقية لهذه الصورة.
فكيف نفسر هذا العنف الموجه ضد الذات، هذا العنف الداخلي القائم أحيانا على الاستقواء بالأجنبي الذي يستغل حينها استهتار الحاكم العربي واستخفافه ببني جلدته لتجريب أشد أسلحته فتكا بالبشر؟ الحقيقة أن الجواب عن السؤال مرتبط بما سبق وأن ذكرناه بشأن طبيعة الحكم القائم في العالم العربي، ذلك أن العنف في صورة من صوره الأساسية في المجتمع مرتبط، بالنسبة إلينا على الأقل، بالمسألة السياسية في هذه المنطقة من العالم. ونعني هنا مسألة الشرعية في الحكم، تلك المسألة التي أدى فيها عدم قيام هذا الأخير على العقد الاجتماعي إلى اعتماد مبدأ القوة والغلبة كأساس للسلطة، ومن خلال ذلك إلى مختلف أشكال العنف، المادي منه والمعنوي، بل وإلى تفشيه في الجسم الاجتماعي. لذلك يرى الفيسلسوف ميشال أونفراي في كتابه «Les deux violences” بأنه «إذا توقفت مختلف أعمال العنف المشروع (عنف الدولة)، يمكن أن نتصور انخفاض أعمال العنف غير المشروعة”.
لكن هذا لا يعني خلوّ المجتمع، من أشكال نوعية أخرى، دنيا وذات طابع بنيوي، من العنف ومن «شرعية” قائمة بدورها على القوة والغلبة، كما سنرى ذلك. بل لعل هذه الأخيرة تفسر أيضا سكوت المجتمع وتعاطيه السلبي لعقود طويلة مع شرعية القوة العليا المؤسسة لنظام الحكم العربي. وكان لعدم قيام هذا النظام السياسي العربي على الشرعية أن نهضت حركات اجتماعية تطالب بها، ليس بالضرورة في صورة العقد الاجتماعي الذي تستند إليه شرعية الدولة في المجتمعات المعاصرة، كما ظهر ذلك في احتجاجات ومطالبات سنة 2011، بل بشرعية ذات طابع تكفيري، تشارك النظام القائم في الارتكاز على مبدأ القوة والغلبة، لكنّها لا تعترف بشرعية استبداده، وذلك لأنه غير مؤسس، من وجهة نظرها، على «كتاب الله وسنة رسوله”. والحقيقة أن كلا النظامين القائمين على مبدأ السيف، يستمدّان مبرر وجودهما من بعضهما البعض. كل واحد منهما يمثل نوعا من المعادل الموضوعي للآخر. لذلك يذهب النظام البوليسي والعسكري العربي في بعض الحالات إلى حد إنتاجه وإعادة إنتاجه. إن كليهما يقوم في الأصل على العنف، على توظيف عامل الخوف في الإنسان، على العقاب الجسدي، على الخضوع وعلى تغييب المبدأ القائل بأن الشعب هو مصدر جميع السلطات.
لوحة: عمار داوود
الهوية والعنف
نخطئ مع ذلك حين نربط مختلف أشكال العنف المنتشرة في العالم العربي بطبيعة نظامه السياسي وحده، بالرغم من أنه يمثل المصدر الأساس لمختلف أشكال العنف من وجهة نظرنا. لقد سبق وأن ذكرنا بأن العنف لا يمكن فصله عن ثقافة المجتمع وتاريخه وتركيبته الدينية والعرقية واللغوية وهلمّ جرا. ينطبق ذلك بالطبع على المجتمع العربي، فالمجتمعات العربية لم تعرف الثورة الصناعية والثقافية والعلمية والاقتصادية والدينية التي عرفتها المجتمعات الغربية التي استطاعت أن تقطع نتيجة لذلك كل صله لها بالمجتمعات الإقطاعية القروسطية التي سبقتها.
إن المجتمعات العربية لم تحتك في بداية أمرها بالحداثة إلا في صورتها الكولونيالية التي ما كان بالإمكان أن تؤدي إلى إحداث قطيعة مع البنيات التقليدية للمجتمعات المستعمَرة أو مجرد تجاوز لها. كان ذلك يفترض نجاح محاولات التحديث والتغيير التي تمت في فترة الاستقلال. وذلك ما لم يحدث بسبب استمرار تواصل هذه المجتمعات بوعي أو بغير وعي مع أصولها القبلية ومع بنياتها الاجتماعية والأيديولوجية التقليدية، وذلك عبر أكثر من قناة: اللغة، الدين، العادات والتقاليد، الطائفية، البنيات القبلية والعشائرية، الثقافة.. ولم يكن للتخلف المستشري على مختلف الأصعدة سوى أن أبقى المجتمعات العربية الحديثة على صلة وثيقة ببنياتها الموروثة. فإن لم يكن ذلك من خلال استمرار القبليّة، بمعناها الضيق، حين يحدث لهذه الأخيرة أن ترتدي ثوب المدينة، فمن خلال أشكالها الحديثة كالجهوية والشللية أو من خلال مخلفاتها النفسية في اللاوعي الفردي والجمعي. لهذا كله نجد التكوين الطائفي والقبلي لهذه المجتمعات يشكل أحد المنابع الأساسية للعنف الدموي السائد اليوم في المنطقة. فالطائفية، وهي من البنيات الاجتماعية الأساسية التي تربط المجتمعات العربية المشرقية بتناقضات ومآسي الماضي، تؤسس انتماء الأفراد ليس على مبدأ المشاركة في الوطن الواحد، أو لنقل على أساس المشاركة في المواطنة، بل على أساس المشاركة في الطائفة. وهو الأمر الذي يشكّل أرضية خليقة بأن تؤدي في ظروف معينة، كالتي يعيشها العالم العربي اليوم، إلى ابتذال حياة الآخر، المخالف في الانتماء الطائفي. ولهذا نلاحظ أن جرائم القتل الجماعي التي تحدث اليوم في المنطقة العربية لها في كثير من الحالات أساس طائفي.
والظاهرة الطائفية ليست حكرا في الحقيقة على العالم العربي، إنما هذه المنطقة هي التي لا تزال أسيرة هذا النوع من الصراعات التي تبتذل فيها الحياة البشرية إلى أبعد الحدود. لقد كانت الحروب الدينية التي عرفتها أوروبا في القرن السادس عشر، خصوصا بين البروتستانت والكاثوليك، والتي كانت أحد الأسباب التي أفضت في الأخير إلى الفصل بين الدين والدولة، من أكثرها قساوة ودموية وابتذالا للحياة البشرية. لكن في العالم العربي لم يحصل لا الفصل بين الدين والدولة ولا التعايش بين الطوائف في نهاية المطاف. مع ذلك لن يذهب بنا الأمر إلى القول بأن الطائفية تنتج العنف إنتاج دودة القز لخيوط الحرير، إذ توجد طوائف في العديد من بلدان العالم ولكن لا يوجد فيها عنف، فلا وجود لحتمية في هذا المجال، وعليه فإن الطائفة تشكل مصدرا من مصادر العنف في المنطقة العربية لأن النظام السياسي العربي قائم أيضا عليها، مثلما هو قائم على القبيلة، فكانت القبيلة بدورها أحد مصادر العنف (في ليبيا واليمن على سبيل المثال).
كل هذا يعني أن مسألة الهوية لها دورها في إنتاج العنف سواء الرمزي منه أو المادي، في الفضاء العربي، حيث تغلبت الهويات الفرعية على الهوية المرجعية الأولى، يعني على الهوية الوطنية. وقد أسهمت المسألة اللغوية، وهي أحد أهم أركان الهوية، بدورها في إنتاج ثقافة العنف، بعد أن أدى تحويل اللغة العربية إلى أداة إقصاء للغات غير العربية، فحدث مثلا تهميش اللغتين الأمازبغية في شمال أفريقيا والكردية في سوريا والعراق. وهو عنف رمزي أفضى إلى عنف مادي، دام سنوات طويلة، وشكل أحد أهم الأسباب التي غذّت النزعات الانفصالية، ليس فقط في سوريا والعراق، بل وحتى في الجزائر، وإن بدرجة أقل.
الأيديولوجيا والعنف
كما أسهمت الصراعات الأيديولوجية، خاصة بين الإسلاميين والعلمانيين، في انتشار العنف وابتذال حياة الإنسان العربي. والحقيقة أن العلمانية من حيث هي رؤية متكاملة وشاملة للكون والإنسان والتاريخ لا تلغي الدين، على الأقل كما يرى البعض، وإنما تؤسس لدين جديد، دين عصر العلم؛ دين لا يستند إلى غيبيات الديانات التقليدية؛ فهو دين دنيوي، يحل فيه الإنسان محل الله، والعقل محل الوحي، والفرد محل الإكليروس. ولذلك يعرّف أحد مؤسسي العلمانية هذه الأخيرة بأنها «دين عقلي”. كما يتحدث بهذا الصدد لوران فرنسيشيتي في مقالة تدافع عن اللائكية ضد العلمانية، تحمل عنوان «Le laїcisme, religion d’Etat”، يتحدث عن «عبادة الدولة ” وعن «العبادة العلمانية”. وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين في العالم العربي هو صراع بين نوعين من الدين، لا تختلف كثيرا نتائجه فيما يخص ابتذال حياة الإنسان العربي عن الصراع بين الطوائف أو بين الديانات. وهكذا نجد مثلا المثقفين العلمانيين العرب يحجمون في كثير من الحالات عن إدانة المساس بحقوق الإنسان عندما تطال خصومهم من الإسلاميين، كما حدث ذلك مثلا في مجزرة رابعة بمصر.
الظاهرة الطائفية ليست حكرا في الحقيقة على العالم العربي، إنما هذه المنطقة هي التي لا تزال أسيرة هذا النوع من الصراعات التي تبتذل فيها الحياة البشرية إلى أبعد الحدود
العنف بين الذكورة والأنوثة
تمثل العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمعات العربية مجالا آخر من مجالات ممارسة العنف. وهو نوع من العنف متفاوت الشدة ومنتشر بهذه الدرجة أو تلك في المجتمع وفي بلدان عربية أكثر من أخرى ويحظى في حالات غير قليلة بنوع من الشرعية والقبول حتى من قبل المرأة نفسها. فتحت تأثير ما يسميه بيار بورديو «هابتوس» (habitus) الحادث عن تأثير مختلف وسائل التطبيع الاجتماعي (الأسرة، المدرسة، المؤسسات الدينية..) تم تطبيع وتكريس واستبطان هذا النوع من العنف المرتبط بعامل التكوين الجنسي، بحيث صار حالة طبيعية تشبّع بها الذكر كما الأنثى. هذا النوع من العنف المرتبط بالثقافة العربية يتجلى في مظاهر عديدة، مثل الاعتقاد بأن المرأة أدنى من الرجل وبوجوب خضوعها له وتضييق فضائها الاجتماعي وحرمانها أحيانا من حقها في اختيار شريك حياتها، بل وممارسة العنف المادي ضدها في حالات معينة.. إلخ. وحسب محمد أركون فإن خضوع المرأة في المجتمع العربي يمثل اللبنة الأولى التي قامت عليها ديمومة طابع الخضوع المميز لبنية المجتمعات العربية. يقول في كتابه «Penser l’Islam aujourd’hui» حول هذا الموضوع «تتيح مراقبة الحياة الجنسية من خلال مختلف المحرمات (tabou) المحيطة بالمرأة، وإبقاء هذه الأخيرة في وضعية قانونية دنيا، ومن خلال السلطات المفرطة الممنوحة للرجل من قبل القانون «الديني” ضمان إعادة إنتاج السياج الدوغمائي عبر الطاعة المباشرة من قبل الابن للأب، والفتاة للأخ وللأب، والمرأة للزوج، والأخ الأصغر للأخ البكر..”، وحسب أركون فإن «هذا السلّم من المهيمنين والمهيمن عليهم يسري على المجتمع بأسره؛ ومقبول من غير احتجاج على مختلف المستويات بفضل استبطان كل فرد من الرعية للمعايير التي قدسها القانون الديني الذي قام ببلورتها والتصريح بها والحفاظ عليها والتي طبقها العلماء». وحسب المفكر الجزائري الراحل فإن هذه الشبكة الاجتماعية من المهيمنين والمهيمن عليهم هي التي يتأسس عليها النظام السياسي العربي، إذ أن سلّم الخضوع الذي يشكل إخضاع المرأة منطلقه الأساس، ينتهي بـ”طاعة الجميع للأمير، وللسلطان، وللخليفة أو الإمام (واليوم للقائد، الزعيم، أو للأمين العام للحزب..). وهذا يعني أن طابع السيطرة، وبالتالي العنف، المميز للنظام السياسي العربي، مرتبط بخضوع المجتمع لمبدأ الذكورة، من حيث هو تعبير عن القوة والهيمنة والغلبة. وعلى أيّ حال فإن العنف المستشري بأشكاله المختلفة في المجتمعات العربية، بأشكاله المادية والرمزية، وفي مقدمته العنف المرتبط بالمسألة السياسية، هو نتاج الذكورة المسيطرة في هذه المجتمعات.
لا نخال بالطبع بأننا أحطنا بظاهرة العنف المستشري في المجتمعات العربية من كل وجوهها أو أعطينا بشأنها القول الفصل، ولكننا نرى بأن المصدر الأساس لهذا العنف مرتبط بالمسألة السياسية، أي بمعضلة المشروعية. وهي قضية لم تعد مشكلة في العالم، ولكن هي كذلك ولا تزال في أقطار العالم العربي.