من يتحكم بعقول الناشئة
ليس من قبيل الترف والفضول زرع قلق السؤال عمّن يشكل عقول الناشئة، و يؤثر في صناعة اتجاهاتهم وميولاتهم ومعارفهم ومهارتهم. فالواقع الموّار بالتغيرات والمستجدات والتيارات، يسوّغ بحث هذا السؤال الإشكالي المتشعب بشيء من الأناة والتبصر بما يمثله التعليم والإعلام من روافد تنشئة لم تعد الأسرة بمفردها صاحبة القول الفصل فيها.
النشء يمكث على مقاعد الدراسة وأمام الفضائيات والمواقع الالكترونية أكثر مما يقضيه بمعية أبويه، وتحت أعينهما. ولست خبير إعلام كي أناقش بالفحص لا بالخرص والتقدير أثر الإعلام بمختلف وسائله ومساربه على عقول الناس. و لكنني أكتفي بالإشارة الدالة على قوة التأثير إلى أن عدد الفضائيات العربية التي يفهم المواطن العربي خطابها قضه وقضيضه يناهز1256، منها 125 قناة دينية حسب إحصائيات المنظمة العربية للإعلام، مع ملاحظة حالة فوضى الفتاوى «الهوائية»، وتردد الخطاب الديني الذي تبثه تلك القنوات بين المتشدد والطائفي و»المعتدل». الأمر الذي يجعل الشباب المتطلع للتدين، على جهة التخصيص، نهب أفكار ليست براءً من التزمّت و التنطع.
ولقد أدركت جهات القرار العليا بالمغرب خطورة ترك حبل «الشأن الديني» على الغارب، ففتحت مؤسسة إمارة المؤمنين ورش «إصلاح الحقل الديني» أملا في وقف تسرب «الأفكار المتطرفة « إلى عموم المواطنين من خلال المنابر و قاعات الدراسة، و لسنا معنيين في هذه المقالة برصد جوانب القوة والوهن في تجربة الإصلاح الجارية وفق رؤية وضعت نصب اهتمامها مبدأ التدرج في بث الإصلاح من تقنين حقل الفتوى التي أسندت للمجلس العلمي الأعلى، مروراً بتخريج الخطباء والمرشدين الدينيين وانتهاء بإصلاح مناهج التعليم الديني العتيق و الأصيل، وصولا إلى إصلاح ومراجعة مناهج التربية الإسلامية بالتعليم العمومي والخاص، وذلك في أفق مراجعة مناهج التعليم العالي المتعلقة بالشريعة والدراسات الاسلامية، ذلك أن المدرسة مؤسسة إيديولوجية بامتياز.
المؤسسة الايديولوجية الأولى
في سياق محاولة الإجابة عن السؤال الإشكالي المركب: من يتحكم بعقول الناس؟ وكيف تتشكل ثقافة النشء الجديد في العالم العربي؟ ومن يضع مناهج التعليم؟ ومن يسيطر على حقل التعليم العام وما علاقة هذا الحقل بصعود وانتشار ثقافة العنف والتطرف ورفض قيم العصر والنكوص نحو ثقافة التوهم واستعادة الماضي؟ ؛ تلوح أطروحة بيير بورديو الذي يرى أن «الوظيفة الإيديولوجية للمدرسة تتجلى في كونها مؤسسة للترويض الاجتماعي و إعادة إنتاج نفس أنماط الفكر و السلوك المرغوب فيهما من المجتمعò[1].
فالمناهج والكتب والأساليب البيداغوجية المتبعة والتشريعات التي تؤطر الحياة المدرسية تعكس رؤية النظام الثقافي السائد، ورؤية السلطة المتنفذة المتحكمة في هندسة التربية والتعليم. ومن ثمة، يطرح السؤال الهام، هل تستجيب المناهج المدرسية للحاجات المجتمعية أم أنها تمثل وجها من أوجه العنف الرمزي الناعم مادامت مفروضة من سلطة ذات نسق ثقافي سائد؟
لا أتصور أن تستجيب المناهج الدراسية للحاجات المجتمعية ما لم يتفق على النموذج المجتمعي الذي نريده. ذلك أن المناهج التربوية في بعض الدول ذات التقاليد الديمقراطية العريقة لا تصير نافذة ملزمة إلا بعد مصادقة البرلمان عليها، فالمنهاج بمفرداته ومخرجاته يتعلق بمصير أجيال المستقبل، فهو يرقى إلى مسألة حياة أو موت، فإما أن يؤسس لتخريج صناع حياة حقيقيين أو يفرخ صناع موت بائسين.
أزمة المنهاج الدراسي أم أزمة الحياة المدرسية
أضحى من المسلم به أن المدرسة المغربية ترزح تحت نير إرث ثقيل من السياسات الفاشلة التي جعلتها « مؤسسة في وضعية أزمة، تستهدفها الانتقادات من كل جانب وتعتبرها مصدر كل الأزمات الأخرى، مثل الأزمة الاقتصادية، لكونها لا تؤهل المتعلمين لسوق الشغل؛ والأزمة الثقافية. لكونها لم تعزز السلوك المدني وسط الأجيال الناشئة؛ والأزمة الاجتماعية، لأنها فشلت في مهمتها التربوية القاضية بتكوين مواطن مسئول». ولسنا معنيين بتحليل أسباب أزمة قطاع التعليم و نتائجها، بقدر ما يهمنا وضع الأصبع على مناط السؤال عمن يصنع عقول أبنائها، و يشتطّ في توجيهها نحو حافات التنطع و التشدد.
ورغم الحكم، من حيث ظاهر الصورة، ببراءة المدرسة المغربية من جريرة إنتاج «شباب متطرف»، فإن مجرد الدعوة الى مراجعة «المعارف الشرعية» التي يتم تصريفها للمتعلمين من خلال المنهاج الدراسي، يجعل شبهة إسهام المنهاج، بقصد أو بدونه، في غرس أفكار غريبة عن المجتمع المغربي الذي أرسى منذ وقت مبكر هويته الدينية على أساس الجمع بين العقيدة الأشعرية والتصوف على مذهب الجنيد والفقه على مذهب الإمام مالك.
لكن المنهاج الدراسي الذي تمت مراجعته منذ شهور قليلة (أواخر مارس 2016)، قد خرج بالمتعلمين على مستوى العقيدة إلى تصنيف أساسه التمييز بين توحيد الألوهية والربوبية والأسماء و الصفات، بما يولج المتعلم بسهولة عوالم التيارات التي تباشر التكفير من منطلق تفكير عقدي متشدد، و لقد حرص واضعو المنهاج الجديد على إعادة وصل المتعلم بالقرآن دون تقعر في التصنيفات المتصلة بقضايا العقيدة، فتم الإلحاح والتأكيد على الفطرة كمدخل من مداخل حصول الإيمان وتحصيله. كما تم التركيز على آيات القرآن الكريم مصدراً لنهل مبادئ العقيدة، ومن منطلق تكامل المعارف تمت مراجعة كل النصوص الدينية المبثوثة في مختلف المواد الدراسية كي لا تتعارض مع مقتضيات المنهاج الجديد الذي حاول مهندسوه التخلص قدر الإمكان من سلطة التراث الاجتهادي للعصور الماضية. إذ لا يعقل أن يتم اعتماد المنهاج على مبدأ الحرية كمقصد وأصل من أصول العقيدة انطلاقا من قوله تعالى «لا إكراه في الدين»، ثم يقع الإبقاء مثلا على حدّ الردة في مقرر التربية الإسلامية.
وتساوقاً مع مبدأ شمول إصلاح المنهاج الدراسي، تم استكمال مراجعة دروس التربية الاسلامية بكل الأسلاك من التعليم الإبتدائي إلى غاية مستوى البكالوريا. في حين، ينتظر أن يشمل الإصلاح أيضا مناهج الدراسات الجامعية. لكن، هل يقي الاصلاح الشامل للمناهج عقول الناشئة من سموم الأفكار المتطرفة أيّاً كان مصدرها، أم أن التطرف والعنف مزروعان داخل بيئة الحياة المدرسة بمختلف جوانبها؟.
لقد ألح خبير التربية المغربي الدكتور محمد الدريج على أن أن إصلاح التعليم، هو «إصلاح بيداغوجي – نفسي – ثقافي –أخلاقي»[2] . ويشتف من ذلك أن الإصلاح ينبغي أن يمتد إلى البيئة المدرسية بكل جوانبها، وذلك من أجل استئصال شأفة «التربية على العنف» خطاباً وممارسة. ويقع المدرس والأسرة في قلب هذا الإصلاح بصفتهما معاول لهدم بنيات ثقافة العنف والتطرف التي زادتها حدّة الأوضاع الاجتماعية والأزمات الاقتصادية التي وسعت دائرة الفقراء بالمغرب[3].
إن الإصلاح المطلوب في ميدان التعليم ينبغي أن يتوجه رأسا إلى تشجيع الإبداع وإعادة الصلة بين العاطفة والفكر على النحو الذي يدعو إليه كين روبنسون في كتابه «صناعة العقل»[4]. إذ لاحظ أن «التعليم الأكاديمي ابتعد عن العاطفة والمشاعر ويجب إعادة الصلة بين العاطفة والفكر، لأنه أمر حيوي لتطوير الإمكانيات البشرية والارتقاء بالفكر الإبداعي. فالإبداع هو الاستمرار في البحث عن إمكانيات واحتمالات جديدة ومن الضروري جداً الإدراك بأن كل إنسان يملك إمكانيات خلاقة ومبدعة كل حسب ميوله».
لكن هل يضع مهندسو المناهج و الخطط المدرسية في الاعتبار حاجة الناشئة إلى تشجيعهم على الإبداع بدل الإبقاء على مناهج التلقين وحشو العقول المتوارثة عن عصور ما قبل الثورة الرقمية؟.
[1]الصديق الصادقي العماري: «التربية و التنمية و تحديات المستقبل ـ مقاربة سوسيولوجية» ـ تقديم محمد الدريج، مطبعة بنلفقيه، الرشيدية الطبعة الاولى 2013، ص 44
[2] محمد الدريج: «قراءة نقدية في تقرير المجلس الأعلى للتربية» مقالة منشورة على موقع http://psu.ma /
[3] أنجز الدكتور محمد استيتو أطروحة متميزة حول الفقر والفقراء في المغرب ق16-ق17، والناظر في الأطروحة يجد أن أصناف وطبقات الفقراء وأعمالهم بالمغرب الراهن لا تزال هي ذاتها التي وقف عليها الباحث في مصادر القرنين المعنيين، الأمر الذي يطرح تساؤلا عريضا عن استمرار وجود الفقر المدقع في زمن العافية من الطواعين والجوائج والكوارث؟
[4]راجع: تلخيص كتاب «صناعة العقل» ـ مقالة منشورة على موقع: http://www.mhabash.com/2008/11/19/mind-creating/