كيف تنشأ ثقافة العنف في أوساط الشبيبة المهاجرة
ما الذي يدفع شبيبة عربية، وافدة إلى فرنسا أو مولودة فيها، إلى العنف؟ هل هو نتيجة للتفكك الأسري الناجم بدوره عن ظروف اجتماعية صعبة تعاني منها الجاليات العربية المهاجرة؟ أم هو ناتج عن نشوء تلك الشبيبة في ضواحي مهمشة أشبه بالغيتو، يتشرب أفرادها ثقافة تمرد على السلطة في شتى تجلياتها، تبدأ بالانحراف وتؤول بهم إلى السجن ليتلقوا مبادئ العنف على أصولها؟ أم هو وليد تربية دينية، أسرية أو جمعياتية، تريد أن ترسي قيما غير قيم بلد الإقامة، وتمرر عبر التعليم خطابا يحض على التضامن مع الإخوة في الدين؟ أم أن الأمر ببساطة لا يعدو أن يكون سوى محض مغامرة لتحقيق الذات؟
منذ اندلاع أعمال العنف التي ضربت فرنسا، من عملية تولوز إلى عملية نيس، مرورا بالاعتداءات التي أصابت باريس في عمليتي شارلي هبدو والباتاكلان، والمحللون على اختلاف تخصصاتهم يستعرضون تلك الدوافع دون أن يقطعوا بجواب، ذلك أن الأسباب كلها في واقع الحال جائزة.
ساد الظن عقب أحداث محطة أنفاق سان ميشيل بباريس ومحاولة تفجير القطار السريع الرابط بين ليون وباريس في أواسط تسعينات القرن العشرين أن أسباب العنف مردها رغبة جبهة الإنقاذ الجزائرية في معاقبة فرنسا على تواطُئِها مع النظام الجزائري، ثم اتضح أن مرتكب العمليتين، خالد قلقال الجزائري الأصل، له دوافع ذاتية للانتقام من المجتمع الفرنسي ورموزه. وقد عبر عن نقمته تلك منذ العام 1992 في حديث أدلى به لألماني يدعى ديتمار لوخ كان يعد شهادة دكتوراه عن اندماج الشبيبة الفرنسية المغاربية.
فعن سؤاله عن علاقته بالقضاء بعد أن ارتكب جنحة أجاب «بصراحة، بوصفنا عربا، القضاء لا يحبّنا. ثمة قضاء بوجهين. سأروي لك نادرة. كنت جالسا في قاعة المحكمة أنتظر المثول أمامها من أجل سراحي الشرطي. وكان ثمة متهمان، عربي وفرنسي، قبض عليهما إثر محاولة سطو، ولم تكن لهما سوابق عدلية. الفرنسي اقتحم البيت وعنّف صاحبته ونهب كل شيء، بشهادة جارة شاهدت العملية. وأما العربي فقد حاول الدخول فقط. حكم القاضي على الفرنسي بالسجن شهرين، وعلى العربي بسنة ونصف. أي أن الرأي الذي يجمع عليه ذوو الحل والربط هو وضع هؤلاء الأغراب في السجن، وهم لا يعلمون أنهم، وكذا المجتمع، سبب الانحراف، حسبهم أن ينظروا إلى حياتنا في الضواحي.» وأردف لاحقا «لا يقع الحديث عنّا في وسائل الإعلام إلا عند نشوب أعمال عنف. تريدون العنف؟ سيأتيكم العنف».
في هذا المثال وجهان عمّا يعيشه شباب العرب في فرنسا، أوّلهما الانحراف الناجم عن رغبة في الحصول على ما يبتغيه من ماديات جيله ولو بالسرقة، وثانيهما الإحساس بالظلم الذي يولّد الكراهية والقطع مع بلد الإقامة، سواء باختيار تعويض روحي يلطّف به إخفاقه، أو بالرغبة في الانتقام من المجتمع أفرادا ومؤسسات، وهذا دليل على فشل الحكومات الفرنسية المتعاقبة في سياسة إدماج تلك الفئة. وهو ما سجلته هيئة حقوق الطفل التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، التي شجبت عام 2009 ممارسات الميز العنصري في فرنسا تجاه أطفال الأقليات في المدرسة ووسائل الإعلام، وخاصة أولئك الذين يعيشون في ضواحي المدن الكبرى، والذين صاروا يتعرضون لمواقف سلبية من قبل المجتمع الفرنسي برمته.
فهل العنف، ومن ثم الإرهاب، هو وسيلة للتعبير عن تلك النقمة؟
إن خالد قلقال ومحمد مراح ومهدي نموش والأخوين سعيد وشريف كواشي وأحمد كوليبالي يلتقون في كونهم شبانا من ذوي السوابق العدلية جرّاءَ سرقة أو تهريب أو تجارة مخدرات، قضوا فترة قد تطول وقد تقصر داخل السجن. وهم ينتمون إلى أسر مفككة، حيث الأب غائب أو مستقيل، عاشوا العنف داخلها، وتنقلوا بين ملاجئ متعددة فقدوا على إثرها معالم يستدلون بها كي ينشؤوا أسوياء، ما جعلهم كائنات ذات مشاكل منذ نعومة أظفارهم. كلهم اكتشفوا الإسلام صدفة، سواء عن طريق صديق أو شبكة الإنترنت أو تحت تأثير شيخ روحي صادفوه في السجن، على غرار جمال بغّال، ثم أدّوا رحلة استكشاف إلى مناطق النزاع في سوريا والعراق وأفغانستان وباكستان، حيث تعلّموا استعمال الأسلحة، واستبطنوا القطيعة الذهنية مع المجتمع الذي ينتمون إليه وصاروا له أعداء.
وفي رأي عالم الاجتماع فرهاد خسروخوار أن دافعهم إلى الإسلام الراديكالي هو تصوّرهم لأنفسهم وللناس، فهم يعتقدون ألاّ مستقبل لهم، وأن المجتمع ينبذهم، وأنهم منغلقون في الهامشية وفي وضع الضحية العاجزة. وما اعتناقهم الإسلام الراديكالي إلا وسيلة لإضفاء القداسة على حقدهم، والشرعية على عدوانهم. ومحركهم هو دائما تثبيت حقدهم على المجتمع داخل إطار عقائدي يمنحهم القدرة على قلب الأدوار، ليتحوّلوا من كائنات لا قيمة لها إلى أبطال، ومن مجهولين إلى نجوم يردد العالم أسماءهم، ومن مدانين قضائيا إلى قضاة يسنّون أحكامهم على مجتمع كافر، ومن أفراد ينوؤون بالإحساس بكراهية الآخرين إلى كائنات عنيفة تبعث الرعب في النفوس.
وفي رأيه أن السجن يدعم شعور الحقد تجاه الآخر، ويعمّق المعرفة بالإسلام الراديكالي عبر سجناء آخرين، وبعض من ينصبون أنفسهم أئمة داخله، ينشرون خطابا مفاده أن الإسلام هو الجهاد ضد الهراطقة وضد المجتمع الذي أودى بهم إلى هذا الدرك الوضيع، أي السجن.
من خلال تدريس العربية وتعاليم الدين الإسلامي، تتمّ في الواقع قولبة أذهان المتلقّين لتسهيل تمرير خطاب يقطع بين الجمهورية «الكافرة» والشبيبة المسلمة، جريا على سنن الإخوان الذين يعتبرون الديمقراطية دينا وضعيا كافرا، والناخبين مشركين لله في ربوبيته، والنواب أربابا من دون الله
والحق أن أغلب ضواحي المدن الفرنسية يواجه مشاكل عديدة، فهي فضاء إقصاء وتهميش، ونفي وعزلة، خصوصا منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي حينما أقرّ الاشتراكيون سياسة جمع الشمل التي سمحت للمهاجرين باستقدام أسرهم. وإذا كان الجيل الأول من المهاجرين، وأغلبهم أميّ جاهل بحقوقه، قد رضي بعيشته دون شكوى، فإن أبناءهم من الجيل الثاني طالب بمواطنة كاملة تسوّي بينه وبين ابن البلد، أما الجيل الثالث، الذي نشأ وسط الضيق واستفحال الأزمات واستشراء البطالة، فقد أعلن تمرّده، على طريقة السود في ضواحي المدن الأميركية وأحيائها الشعبية، تمردا تجلّى في موقفهم من كل ما يمثل السلطة، أبوية كانت أم مجتمعية أم مؤسساتية.
روح التمرّد تلك قادت بعضهم إلى السجن، ومنه إلى التطرف والإرهاب كما أسلفنا، ودفعت ببعضهم الآخر إلى الارتماء في أحضان الجمعيات الإسلامية الخيرية وارتياد المساجد بحثا عن معالم طريق ما انفكت تتمنع عليهم.
رغم إقدام السلطات الفرنسية على إغلاق عدد من المساجد التي تروّج خطابا تعتبره راديكاليا، لم يثبت حتى الآن تورّطها في إرسال الشباب المسلم إلى جبهات القتال، وغاية ما هنالك أن بعض الأئمة لا يفرّقون بين ما يُسمح بالخوض فيه في البلدان الإسلامية كضرب المرأة وعلاقة الرسول بيهود يثرب والغزو ووصف العلمانيين بالإلحاد، وبين ما يُحظر تداوله في بلد علماني يرى أهلُه في خطب بعض الأئمة مخالفةً واضحة لقيم الجمهورية، فقد أُبعد إمام جامع فينيسيو بضاحية ليون عن التراب الفرنسي لإجازته تعنيف المرأة، وأقصي إمام جامع عمر بباريس لما عُدّ تحريضا على اليهود ومعاداة للسامية، فيما يخضع إمام جامع السُّنّة في مدينة بريست للمراقبة المشددة بعد أن عثر مستعملو الشبكة على فيديو في يوتيوب يشرح فيه لتلاميذ صغار أنّ «من يهوى الموسيقى سوف يمسخه الله خنزيرا ثم تبتلعه الأرض». ولكن ما يشغل السلطات الفرنسية هو هيمنة الإخوان المسلمين، عبر فرعه الفرنسي المتمثّل في اتحاد الجمعيات الإسلامية في فرنسا، على التعليم الدّيني، سواء في المدارس الخاصة التي تربطها بالدولة عقود، أو في مدارس أخرى مستقلّة لا تخضع لعقد. والمعلوم أن في فرنسا أربعة أنواع من التعليم الخاص: تعليم خاضع لعقد شراكة مع الدولة على غرار تعليم اللغة والحضارة الأصلية الموجه لجاليات بعض الدول العربية كتونس والجزائر والمغرب، والأوروبية كالبرتغال وصربيا، والإسلامية كتركيا وجزر القمور، حيث تتولّى الدولة المعنية اختيار المدرسين والجهاز البيداغوجي وتوفّر فرنسا الفضاء ومستلزماته، وهو في الغالب تعليم مواز تدور حصصه خارج أوقات الدوام، بعكس بعض المدارس الخاصة، كالمدرسة العراقية والمدرسة الليبية سابقا، والمدارس المسيحية واليهودية، حيث يتابع فيها الطفل دروسه كامل الوقت. وتعليم جمعياتي خاضع لعقد بسيط، لا يلزم الطرفين بأكثر من احترام حقوق الطفل، وعدم تقديم تعليم ينافي قيم الجمهورية. وتعليم جمعياتي لا يخضع لعقد، وليس ملزما باتّباع مناهج وزارة التربية الفرنسية. وتعليم عائلي تتولّى فيه العائلة تعليم أبنائها بنفسها، وهو في تزايد بحسب كثرة المواقع الاجتماعية التي ترغب العائلات العربية المسلمة في تقديم تعليم فردي للأطفال يعرّفهم على أصول دينهم.
هذا التعليم الجمعياتي، الذي يضمّ نحو أربعين مدرسة يسمّيها الفرنسيون مدارس قرآنية، وهي في العادة مقرّ جمعية تدير مسجدا وتدّعي أنها مركز ثقافي، ومهمتها في الواقع لا تتعدى تحفيظ القرآن وتدريس العربية والتربية الإسلامية، وإقامة الشعائر الدينية.
يخضع اتحاد الجمعيات الإسلامية بفرنسا -وفق استراتيجية التمكين التي بدأت ببناء المساجد ثم انتقلت إلى بعث المدارس الخاصة- خضوعا يطرح أكثر من سؤال، لا سيما أن نوّابًا برلمانيين رفعوا تقارير إلى سلط الإشراف أعربوا فيها عن انشغالهم من تزايد انقطاع أبناء المسلمين عن التعليم النظامي، والالتحاق بالمدارس الخاصة. فمن خلال تدريس العربية وتعاليم الدين الإسلامي، تتمّ في الواقع قولبة أذهان المتلقّين لتسهيل تمرير خطاب يقطع بين الجمهورية «الكافرة» والشبيبة المسلمة، جريا على سنن الإخوان الذين يعتبرون الديمقراطية دينا وضعيا كافرا، والناخبين مشركين لله في ربوبيته، والنواب أربابا من دون الله.
في كتاب «لماذا هجرت الإخوان المسلمين» يؤكد المغربي محمد لويزي العضو البارز في رابطة الشمال الإسلامية بمدينة فيلنوف داسك، التابعة للاتحاد، والعارف بأسراره وأساليب اشتغاله ومصادر تمويله القطرية في الغالب، ومشاريع قادته الوهمية، أن الاتحاد منذ تأسيسه عام 1983 ما انفك يعمل على تحقيق مشروع التمكين، كما تصوّره حسن البنا، ثم سيد قطب من بعده، بدءًا بالتوطين، عن طريق شراء مبانٍ وأراض خاصة في أوروبا لبناء المساجد، بغرض إرساء سردية إسلامية كعنصر من عناصر السردية القومية لكل بلد أوروبي، وبلوغ الهدف الأسمى، أي إقامة خلافة إسلامية تلحق أوروبا بأمة الإسلام. ويبيّن لويزي أن الفرد لا يختار الجمعية بل هي التي تختاره، عن طريق إخوان متمرّسين يعرفون كيف ينقضّون على فريستهم، وما إن يضمنوا ولاءها حتى يلقنوها الأيديولوجيا الإخوانية وأركان البيعة العشرة وهي الفهم، والإخلاص، والعمل، والجهاد، والتضحية، والطاعة، والثبات، والتجرد، والأخوة، والثقة. وعادة ما يُقبل أولئك الإخوان على صغار السنّ ممن يعيشون الفاقة والحرمان في الضواحي الفقيرة، ويكونون عرضة للانحراف والفشل المدرسي، ليقترحوا عليهم دروسا خصوصية مجانية وأنشطة ثقافية وتربية دينية ميسّرة، فيرى فيهم الأولياء فرصة ذهبية لانتشال أبنائهم من الضياع في أحياء لا تلوح في أفقها بارقة أمل، قبل أن يكتشفوا أن أبناءهم، بألبستهم الأفغانية ولحاهم الطويلة وعزوفهم عن مصافحة النساء، وحديثهم عن الحلال والحرام، صاروا غرباء.
يقول جيل كيبل المتخصص في التيارات الإسلامية «قانونيا، لا شيء يمنع من إنشاء مدارس إسلامية، على غرار المدارس اليهودية والكاثوليكية، ولكن مشروع اتحاد الجمعيات الإسلامية هو بناء جالية تفاوض على انخراطها في الجمهورية. والسؤال الحق هو إلى أيّ حدّ تساهم هذه الحركة في منطق القطع مع المجموعة الوطنية».