من بعيد

الأربعاء 2015/07/01
لوحة: عدنان حميدة

لا أقسم بهذا البلد

ازدردت طعامي، ونهضت مسرعاً، وهبطت درج بيت عمتي (بهيجة) على عجل، درجتين درجتين، وقدماي تكادان لا تلمسان الدرجات الحجرية. وسمعت صوت عمتي الحنون يهتف خلفي، وقد واربتْ بابها:

“يا عمتي .. لا تنسى بدي سمع لك اليوم سورة (البلد)”

ورأيتني من فوري أتلو بحماس وانشغال وبصوت مرتج بفعل نزولي السريع:

“لا أقسم بهذا البلد. وأنت حلٌّ بهذا البلد”.

وعبرت أرض الديار راكضاً وأنا أتلو، ثم تلبس صوتي صدى الدهليز، ولعل عمتي سمعتْ صدى تلاوتي وإغلاقي باب بيتها العربي المتين، وأنا أستقبل الطريق القديم.

ولعبت مع لداتي النهار كله.

وكانت الشمس معنا تلهو وتلعب.. تتبعنا غير آبهة بأحد.. تطل علينا من سماء الطرقات المشغولة ، وفراغات أعالي البيوت المتعانقة، ومن بين ثلمات الدوالي وأشجار الكباد والنارنج.

كانت الشمس معنا – أنا أذكر ذلك جيداً- وكان نورها معنا، ودفئها وظلالها أيضاً.. وكانت الأشياء من حولنا تنثر عبق الحي وترابه، ونباتاته وزهوره. وارتفع في غمرة بهجتنا وشقاوتنا أذان العصر في سماء الحي الصافية، وطار معه حمام كثير، وحطّ حمام كثير في شقوق المئذنة، وعند بحرة الوضوء، وحول المصلين..

وعندما تعب اللعب، تعبنا معه، وتثاءبت شمس النهار، وبهت نورها واستطال على الجدران، وأسدلت الشمس علينا وعلى الحيّ والبلد ظلال الغياب.

وغاب الأولاد على مدار الوقت، خلف الأزقة والحواري آوين إلى بيوتهم، وبقيتُ وحدى كياناً ضئيلا جالساً في صحن الجامع، مسنداً ظهري على جداره الحجري أجول بناظري متأملاً معالم المكان، والسماء التي أخذت تتدرج في العتمة، والحمائم وقد آوت شقوقها آمنة، وسمعتُ حدوات حصان كسولة، ورنين دراجة، و(غلق) دكان يُشَدُّ إلى أسفل. ورأيتني من جديد أتذكر وعدي لعمتي فلهجت شفتاي “لا أقسم بهذا البلد”. وهرعت عبر الطريق القديم إلى بيت عمتي وأنا أحاول أن أستعيد السورة، وعندما بلغت الآية “أيحسب أن لن يقدر عليه أحد”. توقفت متذكراً، فجاءني صوت رجل من خلفي يتابع:

“ألم نجعل له عينين”.

التفت خلفي، وابتسمت، وركضت وأنا أتابع بصوت مسموع:

“ولسانا وشفتين . وهديناه النجدين”.

وطوى بيت عمتي تعب نهاري، وسمعت أذان المغرب الثلاثي الأصوات من مئذنة جامع التوبة المجاورة، وهديل الحمائم كان متعباً مثلي من لعب نهار طويل، ويُعدُّ نفسه للنوم في أماكن البيت المرتفعة، وكان شاي عمتي المحلى لذيذاً، وعشاؤها شهياً، وأراني الآن أطل من ذاكرتي البعيدة، إلى نافذتها المضاءة، وعمتي متربعة فوق بساطها وأنا قبالتها، وبيننا صينية العشاء، وكانت تسمّعُ لي بحنانها وصبرها.. وها صوتي ذا يتناهى إليّ نحيلا، لكنه راسخ، عبر ذاك البعد الذي لا يُطال:

“لا أقسم بهذا البلد…”.

بسطة الشام

علقتُ صورةً لبسطةِ الشام في مكتبي، وكنتُ أنظرُ إليها..

ليس ككل مرةٍ كنتُ أنظرُ إليها، وعندما رآني تيمثي جونسن التفتُّ إليه لأقول له:

“هذه الشام..”.

كان فقط ينقلُ عينيه بين الصورة ووجهي.

ثم وضعتُ رأسَ سبابتي على الجامع الأموي في قلب الصورة وقلت له:

“وهذا هو الجامع الأموي..”.

ثم تابعتُ مؤكداً:

“كما ترى مكانه في قلب دمشق..”.

ردّدَ كلماتي وهو ينظرُ إليه:

“… في قلب دمشق..”.

استقرّتْ على وجهي ابتسامة، تندرج تحت إحساس آخر غير الفرح أو المرح أو البهجة، حين قلتُ له وأنا أنزلُ رأسَ سبابتي قليلا نحو الشمال:

“أترى هذه المئذنة.. صغيرة جداً تكادُ لا تبين.. هل تراها؟”.

قال: “أراها..” وعجبت كيف رآها.

قلت له: “هذه مئذنة جامع التوبة.. بيتنا هناك..”.

ردّدَ اسم الجامع ورائي: “التوبة”، و رأيت ابتسامة على وجهه. ابتسامة ليست فرحا أو مرحا أو بهجة.. إنها مجرد ابتسامة ما، لكنها أبداً ليست مثل ابتسامتي.. ثم ربّت على كتفي وغادر مكتبي.

عدتُ أنظرُ، وحدي أنظرُ، إلى بسطةِ الشام، إلى الجامع الكبير، إلى الدروب والحواري التي حوله، إلى معالم المكان وضوضائه، إلى أصوات ناسه الساعية، إلى الزمان البعيد الذي يسكن مواطنَ البهجةِ في قلبي، وكان صوتُ الأذان عبر طبقات السنين يأتيني.. من غابر زمني يأتيني، يعيدُ لذاكرتي أسرارَ الطفولة ونشوة الأمكنةِ وكيف أنني، هناك، لم أفكر يوماً أنني أريد أن أبرح طفولتي الشامية.

استمرار

من حيث الظاهر، كان جالساً، مطرقاً، في ركن باهت الإضاءة في مقهى بشارع (برودويه)، وكان ساعداه هامدين فوق الطاولة الصغيرة المستديرة، وأمامه كتاب مغلق وفنجان قهوة أمسى فاتراً.

أما في داخله، فقد كان متكوّماً على الأرض وكانت ساقاه منطويتين إلى صدره، ورأسه ساقطاً بين ركبتيه، ويداه تضم كتلة جسده بشده وخوف؛ فقد كان يرى هول كل الذي جرى ويجري.. وقد تعذر عليه أن يدفع عن نفسه صور الآتي بتجلياته البغيضة.

كان يحدق في فراغ موصولٍ بذاكرة يقظة تتوارد فيها دقائق المأساة المستمرة بكل تفاصيلها الوحشية. وقد تواشجت العتمة باكراً في نسيج ذلك المساء التشريني. شعر الآن أن الهدوء أصبح أكثر حضوراً، وأن المكان أصبح فارغاً إلا من نادلة كانت تمسح الأرض، وأخرى قد أطفأت أنوار المقهى الخارجية وتلك التي فوق المشرب، وسكتت الموسيقى، وتقدمت منه النادلة التي كانت تمسح الأرض وقالت:

“سنغلق بعد خمس عشرة دقيقة يا سيدي، بإمكانك أن تنهي قهوتك خلالها..”.

رشف من قهوته وأعاد الفنجان إلى الطاولة والتقط كتابه المغلق، وقام بتثاقل وكأنه قد جلس لقرن من الزمان.

“عمتَ مساءً يا سيدي..”.

“عمتِ مساءً يا آنسة..”.

وخرج إلى العتمة المضاءة بمصابيح الشارع وأنوار السيارات، وصوت طرش الماء وتلألؤ انعكاس الأنوار على الإسفلت المبلول، وتلقى بدنه برودة منعشة أيقظت مكامن الرؤى اليقظة في داخله، وكان القليل من مارّة الليل يسيرون بخطو متعب وقد طفت على وجوههم ظلال باهتة..

كان كل شيء من حوله فيه الكثير من ملامح آخر اليوم، ويهب إحساساً لا محيد عنه أن الاستمرار ليس اختياراً بل هو مآل حتمي لبداية جديدة قادمة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.