الثقافي يتحدد بعلامته النقدية
ربما أضحت مقولة المثقف شلوا من زمن مضى بعد أن بددت معالمها المتغيرات التي عصفت بالمنطقة، وأطاحت بفعاليتها حالة التراجع والانكفاء للأحزاب والتيارات التقدمية عموما واليسارية منها على وجه الخصوص، لكن ذلك لا يعني طمس الدلالة والبحث المستمر في الدفاع عن المعنى وأسبقية المقولة على سواها من توصيفات تقنية الطابع وشكلانية الدور وذاتية الاستهداف كاستبدالها بالمفكر مثلا. وهي دعوة خادعة وتنطوي على انتهازية فاضحة في سلخ الثقافة عن نسيجها الاجتماعي والسياسي و اقتصار عمل الوعي المفارق مجازا على الإنتاج المعرفي الخاص بمالكه دون التلازم العضوي بين النظر والعمل وسياقات الأهداف المراد تحقيقها. وتأخذ القضية أبعادا جديدة في صورتها الفلسطينية في ظل حالة التشرذم والانقسام والاقتسام التنظيمي التي تسم المشهد الراهن ، ويغدو الحديث عن الثقافي أكثر صعوبة من ذي قبل أمام محاولات إعادة النقاش عموما إلى عتبة الطائفة والعشيرة والأهل، فكيف ونحن لا زلنا في مرحلة المشروع الوطني التحرري ونتحرك في حقول مابعد مفاعيل أوسلو ونتائجه.. إنما في الحالات جميعا لا يلغي ذلك أن السياق النظري للثقافي في علاقته مع السياسي تفترض تكاملا في الدور والقيمة والمعنى، يأخذ فيه المثقف مكان المرشد للخطاب السياسي وليس تابعا أو هامشا من هوامشه، يقتصر عمله على تسويق الخطاب السياسي وإيجاد المسوغات لممارسته العملية وتجميل قباحة أخطائها -إن وجدت-، ويعني ذلك أن تحديد حضور الثقافي يتم بعلامته النقدية التي في افتقادها يفتقد مبرر وجوده. وهذه العلامة تقودنا إلى أهمية وجود الحامل المؤسساتي المستقل مدعوما بالمشروع التنويري وكلاهما مرتبط بالأفق الوطني وانفتاحه على تلاوين النسيج الاجتماعي وأطره الفاعلة داخل فلسطين وخارجها في منظور سياسة ثقافية تحدد الأولويات وتضع البرامج والخطط والاستراتيجيات.
صحيح أن الواقع الفلسطيني كان ولا زال لا يشير في أغلبه على هذه العلامة ولا يدعمها لكن ذلك لا يعني استسلام المثقف -مجازا- للسائد وتعزيز اطمئنانه المزور ووعيه المستتب، لقد أوجد الخطاب الأحادي شمولي الدعاوي نوعا من المثقفين الكسبة -ضمن منظور التابع والمتبوع إذ الأحادية أنتجت أشكالا من «الحول الفكري» إذا صح التعبير- تلغي من تشاء وتحضر من تشاء أيضا، وهذه الإقصائية وليدة تربية طويلة من الخندقة السياسية والاحتراب التنظيمي لا تسمح بتعددية في الثقافة تقارب التعددية في الحقل السياسي -إن وجدت- ما يمكننا هنا من الحديث عن بنية لا تختزل بقصرها الحقيقة على مالكها الأمير أو الأمين أو الزعيم أو السيد الذي يختصر الوطن والشعب في وجوده، بل بتبديد إنجازاتها أيضا في حقل السياسة قبل الثقافة، التي تبدو تحصيل حاصل أو مجرد هوامش على دفتر اليومي السياسي.
لقد تمت عملية إفساد طويلة للحالة الثقافية بدءا من ربطها بمشاحنات وتفاصيل اليومي السياسي ومغانمه وامتيازاته وليس انتهاء باختزالها ضمن المقروء والمكتوب وتحويلها إلى مجرد حالة شكلانية لمجموعة تتبادل فيما بينها نتاجاتها الذاتية، ويتحدد بموجبها المثقف ككاتب أو شاعر أو.. إلخ، ما يعني خروج الثقافة من منظورها الاجتماعي وتخليها عن دورها المفترض في النسيج المجتمعي، وقد تم التوليف على عجل في بدايات الثورة الفلسطينية بين السياسة والثقافة التي تحيل إلى رؤية حضور الثقافة في حضور مرآة القيادة السياسية التي ترعاها أو تنبذها حسب القدرة على استمالتها أو مقاومتها للاحتواء لكنها عموما نجحت في تدجين أغلب المثقفين الذين أمسوا مجرد موظفين إعلاميين لدى هذا الطرف أو ذاك فوزعت الألقاب على المبدعين وأمست الكثير من النصوص تفصّل نفسها على مقاس الخطاب السياسي وغدا المثقف التنظيمي ماركة مسجلة، واختلط الحابل بالنابل في تقييم وتقويم الإبداع، فحمل الإعلام بعض الأسماء وغيب بعضها الآخر، ولم تستطع النوايا الحسنة هنا وهناك لدى هذا الفصيل أو ذاك من انتشال الحالة والمساهمة في إنجاز مشروع ثقافي فلسطيني.
وقد أعيتنا كثرة الخطابات الفاقعة عن الجبهة الثقافية والقلعة الأخيرة وسدنة المبادئ دون أن تتحول هذه الإنشائيات إلى برامج عمل أو تأخذ على الأقل بيد المبدعين وتحفظ لهم الحد الأدنى من العيش الكريم. وبالعموم اتحاد كتاب الداخل الفلسطيني مثلا للداخل وحفلات التكريم لمثقفين من خارج الأرض المحتلة على سبيل المثال وليس الحصر هي مبادرات فردية من شعراء أو كتاب بالأصل وليست نهجا جماعيا، وتقتصر عادة على شخصيات تخطت الستين من العمر وبعضها لم يحالفه الحظ إلا وهو على فراش الموت، أما اتحاد الخارج فيعتاش على فتات من يناصره في ظل بنى تدعو للأسى والأسف معا.
يأتي الأسى من افتقادنا للمؤسسات الثقافية الحقيقية الجامعة واعتبارها حلقة مركزية متلازمة مع المشروع الوطني، ويجيء الأسف من تكرار واستنساخ الأخطاء الكبرى في حقل السياسة قبل الثقافة أيضا.
صحيح أننا نعتز بأسماء بارزة في حقل إبداعنا الفلسطيني، لكن ذلك لا يعني وجود مشروع ثقافي ناظم في الحالة الفلسطينية التي لا تنفصل بالتأكيد عن الحالة العربية، وإذا كنا نتحدث عن توصيفات عامة فذلك لا يعني عدم تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية إنما الاختزال والتكثيف للتوصيف هنا مقصده إفساح المجال أمام حوار لا يتغنى بالثقافة كخندق أخير بعد أن يخسر كل حلقاته الأخرى، كما فعلنا ونفعل عادة، ولكن حوار حقيقي خلاق يعيد قراءة التحديدات من جديد في ظل حالة خاصة وشديدة الحساسية تعيشها المنطقة العربية عموما وقضيتنا الوطنية منها خصوصا.