الأنثوية وسلطة الكتابة
حتى المراحل التي مارست فيها المرأة السلطة/الحاكمية لم تخرج من مهيمنة النسق المضمر، نسق الجماعة العسكرية، أو الجماعة الدينية، ونسق المؤسسة الزوجية، وحتى النسق العُصابي للقرابة والمقدس على طريقة الملكة زنوبيا والملكة المصرية كليوباترا، أو شجرة الدر والملكة بلقيس في الموروث الشرقي ظل استثنائيا، وفيه من المثيولوجيا أكثر مما فيه من الواقع، واللائي وقعن في النهاية تحت غزو أو قتل أو مهيمنة الرجل/الذكر/السلطة. ربما كانت كانت (طفرة شهرزاد) هي الشفرة الأكثر تمثلا لقوة الأنوثة المُفكرة/الحكواتية مقابل هشاشة النسق المهيمن للذكورة التي تمثلها السلطة العنفية لشهريار.
العلاقة ما بين سلطة الحكي وسلطة الجسد ومؤسسة الحاكمية أعطت لفاعلية الخطاب حضورا للكلام على حساب الإيروس، وللحضور على حساب الغياب، والحياة على حساب الموت، وتلك معادلة كان يفرض وجودها العقل المهيمن، عقل السلطة والذكورة الذي يعيش ثأرية عقدة الخيانة والرغبة، والتي تقود بالمقابل إلى تحفيز القراءة الثقافية للكشف عن أن العطب الجنسي للملك شهريار، هو مقابل رمزي وتعبيري للعطب السياسي.
حركات التجديد والتنوير والإصلاح لم تخرج تماما من نسق تاريخ تلك السلطة، بما فيها سلطة المجال/القصر/القلعة/الحريم/ التعليم والحاكمية، فكان الإصلاح يتموضع داخل المنظومة الدينية أكثر منه داخل المنظومة الحقوقية، وصولا إلى بداية القرن العشرين الذي يُعدّ العتبة النشوئية لموضوعات تحرير المرأة، والذي كان جزءا من تحولات اجتماعية وسياسية ونهضوية مهمة، حيث بدت تمثلاتها عبر حراك ثقافي وسياسي وحقوقي انخرطت فيها جماعات ثقافية وحقوقية مدنية ونقابات وأحزاب في أوروبا، لا سيما على مستوى قوانين العمل والأحوال المدنية، وليست الأحوال السياسية.
ولعل صدور كتاب قاسم أمين عن تحرير المرأة يُعدّ استشرافا شجاعا لأفق هذه التحولات، ولما حملته من مضامين إنسانية حول حرية المرأة لمواجهة قوى تقليدية لها سطوة رمزية لسلطة التابو والأب، ولها أيضا مرجعياتها النصوصية التي زخرت كثيرا بالأحكام والتآويل والفرضيات القامعة لأيّ شكل حقيقي وحرّ للمرأة على مستوى التنظيم والاستقلالية، وكذلك على مستوى الحصول على الحقوق المتساوية في العمل والأجور والضمان الاجتماعي والصحي والجنسي.
لقد ظلت ثنائيات العقل والحرية، والعقل والجسد، والعقل والأيديولوجيا، والعقل والنقل مجالات إشكالية، لم تتقعّد مفاهيمها ولا أطروحاتها، وأن تمثلاتها في الكتابة الأدبية ظلت أكثر إرهاصا بفكرة (النص المضطهد) النص المسكون بالإثم والخيانة -أنا كارنينا، مدام بوفاري- أو المسكون بالقوة الأخلاقية -الأم لمكسيم غوركي- أو بالرغبة المتعالية كما في رواية «المثقفون» لسيمون دي بوفوار.
مفهوم الاختلاف في الكتابة لا يعني البحث عن جنسٍ كتابي محدد، ولا عن توصيف يسبغ على الكتابة الأنثوية سمات، ويُعطي لها ملامح، بقدر ما أن الأمر ينحصر بالقدرة على النفور من التاريخ، التاريخ هنا بوصفه سلطة، أو عادات أو طقوس أو مركزيات أو علاقات، والذي اقترح للأدب النسوي بوصفه الجندري تموضعا داخل فضاء الأنوثة بوصفها الجنسوي المكتسب من السياق الاجتماعي، وربما هو هذا ما دفع البعض من كاتباتنا إلى استعارة صوت الرجل وسلطته وقناعه الفحولي -المُكتسب اجتماعيا أيضا- لممارسة التعويض الرمزي والتعبيري، وبما يجعل الصوت الفحولي في النص وفي اللاوعي نوعا من الاستمناء الإيهامي، والشفرة التي تدفع لتحليل العلاقة ما بين الذات والجنسي والمقدس، وللقبول بها داخل كتابة النص، إذ تكون الكتابة تعبيرا عن الذات، وللاعتراف بمتعتها، وبتكيفها مع الاجتماعي، فضلا عن وظيفتها الثقافية في استكناه الحمولات السيميولوجية والسيسيولوجية، وفي خرق الواقع، وإعطاء جرعات تعبيرية لخطاب الرغبة من خلال الصورة والإعلان والمشاركة والعمل وغيرها.
بعد مئة عام أو أكثر من صدور كتاب قاسم أمين عن خطاب تحرير المرأة يثار أكثر من سؤال حول هذا التحرر بوصفه وعيا بالحرية وبشروطها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، فما هي طبيعة العلاقة ما بين الحرية والجسد؟ وهل يمكن ممارسة الإفصاح عن الهوية (الأنثوية) خارج الجسد، وضمن مفهوم الذات الإنساني والرغبوي/التواصلي والإيمائي؟
هذه الحرية، وفي سياق هذه الأسئلة ستكون تعبيرا عن أيديولوجيا، وعن تمثلات تمنح الجسد قوته، وعن موضوع، وتُسكنه في اللغة بوصفه نصا أو جوهرا أو دافعا يُغني اللذة والتواصل والحرية بشحنات تجعله وجودا أو موضوعا.
لوحة: تانيا الكيالي
الثورة الرقمية وصناعة المُختلف
الثورة الرقمية كرست ما سمّاه د محسن بوعزيزي بمعالجات «السيميولوجيا الاجتماعية» إذ أسهمت في كسر النمط، وفي تغيير أطروحات التواصل والسيطرة والمراقبة، وصنعت للكتابة أنظمة سيميولوجية مغايرة، عبر العلاقات والروابط، وعبر استهداف النسق المهين الحاكم للعلاقة الواقعية والمفاهيمية، تلك التي أعطت مجالا للتسمية، وللاعتراف، ولاقتفاء أثر العلامة داخل الاجتماعي والرمزي، وصولا إلى فرضها في النظام التعليمي عند عدد من الجماعات التنويرية، ورغم أن الجماعات الأصولية، لا سيما بعد أحداث «الربيع العربي» حاولت إعادة فرض خطاب السلطة والمجال والحكم، إلّا أن ما أُنتهِك من أنظمة تعبيرية ظل يحمل معه حافزا، حتى وإن كان مُضمَرا، إلّا أنه سيظل باعثا على كتابة نص اجتماعي وحقوقي مغاير، يمكن أن تكون له سطوته في الشارع والتظاهر والاحتجاج في القانون وفي النضال المدني، وفي الكتابة المفتوحة أيضا عبر وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها جزءا من معطيات الثورة الرقمية.
لقد أسهمت هذه الثورة في توسيع مديات الحديث عن تحرير المرأة، من خلال تحرير المجال والمحبس والقلعة عبر المكان الافتراضي والرجل الافتراضي، وعبر اصطناع المجال المضاد للاعتراف والإنتاج والتسويق والاستهلاك، لكنها أثارت بالمقابل جدلاً أعادنا إلى ثنائية الجندري والجنسي، إذ كرس النظام الرقمي خصوصيات غير نمطية، يتمثلها التخارج عن النظام الاجتماعي، وتساكنها رغبات مشحونة بطاقة التفجّر، تلك التي قال عنها روجي دادون «بالرغبة يتملص الجسد من تصرفاته الآلية ويجعلنا نتذكر بقوة، بالرغبة يتحين الجسد، يهتز، ويدرك نفسه باعتباره نبضا حيا، بها يجعل نفسه حاضرا ثقيلا رشيقا متوسلا أو آمرا». (روجيه دادون : الرغبة والجسد، ترجمة محمد أسليم مجلة «علامات» العدد الرابع 1995).
فعل الرغبة يقود أيضا لاصطناع مملكة غير منضبطة للعلامات، تلك التي تستعير كثيرا من قاموس فرويد في اللاوعي ومن رولان بارت في السيميولوجيا لتكون ضد «الدوغما» و»المقدس» رغم أن الكثير من هذه الاشتغالات تظل متلبّسة به، وبعلاماته القامعة.. فهل استطاع الجندري الأنثوي في النظام الرقمي أن يتحول إلى سلطة؟ أم هل تحول هذا النظام إلى مجال تعبيري مقطوع عن النسق الاجتماعي والحقوقي؟ مقابل ما ظل الجنسي مكتفيا بطاقته البايولوجية التوليدية لتكريس الصورة المثالية لحواء الأسطورية وليست حواء الأرضية.
مثل هكذا أسئلة يمكن أن تكونّ عتبة نظرية وإجرائية لمقاربات معرفية حول مفهوم أنسوية الأنوثة، وحول طبيعة السلطة التي تظل رهانا معقدا على أدلجة هذه الأنسوي، وعلى أيّ معالجة إشكالية لاستيهامات التملّك والحرية، وعلى صياغة عقد اجتماعي آخر للعلاقة بين «الأنوثة والذكورة» وبعيدا عن رهابات الهجر.
من الصعب جدا وضع معيار لفحص هذه المعطيات، ومفارقاتها، فالكثير من الكتب تحدثت عن الخلط المفاهيمي للذكورة والرجولة والفحولة والأنوثة والنسوية، حدّ أن أطروحات ما بعد الحداثة واشتغالات النقد الثقافي وضعت مجالا نظريا لما يسمى بـ»النقد النسوي» والذي يرهن قراءاته للخطاب بجملة من العلامات والمؤشرات التي ينخرط فيها النص وسردياته وشعرياته وصولا إلى شرعنة وجود قاموس نقدي لهذا المعطى، لكن الطبيعة الإجرائية لذلك تظل محصورة في علاقة السياق الثقافي بالسلطة وبنظام علاماتها، وفي مجال علاقة التحليل النقدي بمرجعيات تكشف عن المقموع والمسكوت عنه في أنساقنا المضمرة، فضلا عن إبراز علاقة هذا النقد بالأدب والجسد بشكل خاص، لا سيما على مستوى السرديات، تلك التي اشتغلت عليها معالجات نقدية وثقافية كثيرة، لكن أبرزها ما يتعالق بالأطروحات المعاصرة لجوليا كرستيفا ولوس إيريغاري، وضمن مجال التعبير عن «النص المُضطْهَد» النص الذي ظل متذبذبا بين ثنائيتي الجسد والوعي.