صورة المرأة العربية
يشهد التاريخ الإنساني بأنّ المرأة، في الكثير من مراحل هذا التاريخ، قد تعرّضت لظلم بيّن من قبل الرجل الذي دأب على حصرها في دائرة ضيقة لا تتجاوز تبعيتها ومن ثم خدمتها له.
كما يشهد أيضاً هذا التاريخ قيام بعض الرجال بالسباحة ضد هذا التيار الجارف، ومحاولتهم الدفاع عن المرأة وردّ، ولو جزء يسير من حقوقها المهدرة كي تتمكن من مواصلة دورها الحضاري الذي تم طمسه بفعل فاعل لا قلب له ولا رحمة.
يورد قاسم أمين عدداً من آراء المفكرين الغربيين الذين انتصروا للمرأة في كتابه «المرأة الجديدة» على النحو التالي: قال سيملس «للمرأة في تهذيب النوع الإنساني أكثر ممّا لأيّ أستاذ فيه، وعندي منزلة الرجل في النوع منزلة المخ من البدن ومنزلة المرأة منه منزلة القلب»، وقال شيلر «كلما وجد رجل وصل بعمله إلى غايات المجد وجدت بجانبه امرأة محبوبة»، وقال روسو «يكون الرجال كما تريد النساء، فإذا أرادت أن تجعل الرجل من ذوي الهمة والفضيلة فعلّم النساء الهمة والفضيلة»، وقال فنلون «إن الواجبات التي تطالب بها النساء هي أساس الحياة الإنسانية…»، وقال لامارتين «إذا قرأت المرأة كتاباً فكأنما قرأ زوجها وأولادها؟». (قاسم أمين، المرأة الجديدة، القاهرة: مطبعة الشعب، 1911، ص ص123 -124).
وإذا كان جون ستيوارت ميل هو أول من قدم دراسة تنتصر لحرية المرأة وتتجاوز مجرد الآراء المتشذرة التي يوردها الفلاسفة هنا أو هناك، ربما لحفظ ماء الفكر في زمن لم يعد من اللائق به التفكير ضد الحريات عموماً وحرية المرأة بنحو خاص، فإن أبرز المحاولات العربية في هذا السياق إنما قد جاءت على يدي المفكر ورجل القانون قاسم أمين في بداية القرن الماضي من خلال كتابيه الشهيرين «تحرير المرأة» و»المرأة الجديدة»، واللذين يؤرخ بهما لبداية عصر جديد للمرأة يفصلها عن تاريخ طويل من العبودية سادت فيه النزعة الذكورية في كل مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية. كما جاءت المحاولة الأكثر معاصرة في بداية الألفية الثانية على يدي المفكر العربي إمام عبدالفتاح إمام من خلال مشروع فلسفي يضم أربعة كتب حتى الآن هي علي الترتيب: «أفلاطون والمرأة» و»أرسطو والمرأة» و»الفيلسوف المسيحي والمرأة» و»نساء فلاسفة». (وقد وعد في نهاية كتابه «نساء فلاسفة» بتقديم كتاب يتضمن نساء فلاسفة من العصر الحديث). هذا بالإضافة إلى آرائه حول المرأة التي أوردها في عدد من المقالات ضمن مقالات أخرى تم جمعها في كتاب «أفكار ومواقف».
والسؤال الذي يفرض نفسه، لماذا أقدم إمام عبدالفتاح على تقديم هذا المشروع بعد مرور قرن من الزمان على كتابي قاسم أمين؟
الإجابة لا تخرج عن أحد احتمالين: إما أن إمام عبدالفتاح قد رأى أن المرأة العربية لم تزل تعاني من إهدار لحقوقها وكبت لحرياتها رغم مرور هذه السنين الطويلة. وإما أنه وجد في محاولة قاسم أمين قصوراً ما، فعمل على استكمال هذا القصور حتى يكتمل بذلك المشروع الفكري العربي، الملقى على عاتقه مهمة تحرير المرأة العربية، خاصة في ظل المستجدات التي طرأت على الساحة ولم تكن موجودة في عصر قاسم أمين.
وعلى أيّ الأحوال لا يحاول هذا البحث القصير أن يجيب على هذا التساؤل، وإنما يحاول أن يبرز الكيفية التي عالج بها كل من قاسم أمين وإمام عبدالفتاح إشكاليات المرأة في المجتمع، فهو بحث فلسفي في المقام الأول يعنى بالمناهج والنظريات أكثر مما يعنى بالمضامين التي تحملها هذه المناهج وتلك النظريات. كما أنه يترك للقارئ مساحة للتفسير والتأويل، ومن ثم صياغة الإجابة التي يراها.
1-الخلفيات الفكرية
قد تتقارب الغايات وتتشابه الوسائل، لكن النظرة المدققة تكشف لنا عن اختلافات جذرية بين ما قدمه قاسم أمين وإمام عبدالفتاح في مقاربتهما لموضوع المرأة.
وإذا عدنا إلى المقدمات التي وضعها المفكران لمؤلفاتهما لأمكننا أن نضع أيدينا على قدر معقول من هذه الاختلافات. فقاسم أمين يحدد هدفه من كتابه «تحرير المرأة» بأنه هدف إصلاح اجتماعي، فيقول «إني أدعو كل محب للحقيقة أن يبحث معي في حالة النساء المصريات، وأنا على يقين من أن يصل وحدة إلي النتيجة التي وصلت إليها، وهي ضرورة الإصلاح فيها» (قاسم أمين، تحرير المرأة، القاهرة: كلمات عربية للترجمة والنشر، 2012، ص9).
شعور قاسم أمين بحاجة الأمة عامة للإصلاح وحاجة المرأة بنحو خاص للإصلاح، إنما يأتي كنتيجة طبيعية لانخراطه في الحياة اليومية والاجتماعية لهذه الأمة. فقاسم أمين- بهذه المثابة- يبدو كمصلح اجتماعي. يفكر من داخل المشكلة
ويأتي هذا الإصلاح ضمن حاجة إلي إصلاح أشمل ينال الأمة بأسرها «لا أظن أنه يوجد واحد من المصريين المتعلمين يشك في أن أمته في احتياج شديد إلى إصلاح شأنها» (المرجع السابق، ص8).
ويحدثنا قاسم أمين في أكثر من موضع عن حاجة الأمة للإصلاح والوسائل المؤدية إليه، وكيف أنها شعور داخلي يدفع الإنسان إلى التعبير عن كل فكرة تطرأ على ذهنه لتخرج إلى النور وتسهم في تقدم الأمة.
والحقيقة أن شعور قاسم أمين بحاجة الأمة عامة للإصلاح وحاجة المرأة بنحو خاص للإصلاح، إنما يأتي كنتيجة طبيعية لانخراطه في الحياة اليومية والاجتماعية لهذه الأمة. فقاسم أمين- بهذه المثابة- يبدو كمصلح اجتماعي. يفكر من داخل المشكلة الاجتماعية وبوحي من أزماتها، لا كمجرد منظّر يتأمل الظاهرة ويعالجها من الخارج على نحو ما سنرى في مقاربة إمام عبدالفتاح. وليس أدل على ذلك من قول قاسم أمين نفسه «إني أكتب هذه السطور وذهني مفعم بالحوادث التي وردت على بالتجربة، وأخذت بمجامع خواطري» (المرجع السابق، ص22).
ولعل السبب في ذلك يرجع إلى الخلفية الفكرية لقاسم أمين، والتي أسهم في تشكيلها عمله بالقضاء وبالقانون، الأمر الذي جعله قريباً من المشكلات الاجتماعية التي كانت تعاني منها الأمة المصرية في ذلك الوقت، وهي نفس العوامل التي سوف تمكّنه من إيجاد الحلول القانونية لهذه المشاكل. وعلى ذلك فلا يستغرب أن نعثر لديه على مباحث من قبيل «الزواج» و»الطلاق» و»تعدد الزوجات» و»الحجاب».
وإذا انتقلنا إلى مقاربة إمام عبدالفتاح في موضوع المرأة، فيمكننا أن نفهم الغاية من المشروع بأكمله من خلال السطور الأولى التي وضعها في المدخل العام لكتابه الأول في هذا المشروع «أفلاطون والمرأة» فيقول «تسعى هذه السلسلة إلي دراسة العلاقة بين الفيلسوف والمرأة»، في محاولة لتأكيد الفكرة التي تقول إن الصورة السيئة عن المرأة الشائعة بيننا هي التي رسمها الفيلسوف منذ بداية الفلسفة في بلاد اليونان، ثم وجدت عندنا أرضاً خصيبة، حتى أنها ارتدت ثوباً دينياً، وأصبحت فكرة مقدسة، لا يأتيها الباطل» (د. إمام عبدالفتاح، أفلاطون والمرأة، القاهرة: مكتبة مدبولي، ط2، 1996، ص5).
ويلاحظ هنا أن الإشكالية التي دفعت إمام عبدالفتاح لإنجاز مشروعه الكبير حول المرأة إنما كانت إشكالية نظرية بالأساس، تنحصر في التأكيد على دور الفلاسفة في شيوع الصورة السيئة عن المرأة في مجتمعاتنا. ولأن الإشكالية نظرية، فيلاحظ أيضاً أن عبدالفتاح يتحدث عن المرأة بإطلاق، أي بصفة عامة، ودون أن يقصد جنسا معينا من النساء، هذا على خلاف قاسم أمين الذي كان يتحدث عن المرأة المصرية تحديداً، حتى وإن استعان بالتاريخ ورجع بالبحث إلى الماضي أو استعان بالجغرافيا وانتقل إلى بلدان أوروبية أخرى.
ولا ينفي ذلك كون المرأة المصرية والعربية هي التي كانت في ذهنه أثناء طرحه لإشكاليات مشروعه النظري. ويؤكد هذا الاستنتاج عبارته التي وردت في الفقرة السابقة «ثم وجدت عندنا أرضاً خصيبة»، فالصورة السيئة للمرأة نشأت لدى فلاسفة اليونان ثم انتقلت إلى البيئة العربية واكتسبت مسحة مقدسة بفعل الدين، وهذا يعني- ضمن ما يعني- أن إمام عبدالفتاح شرع في تناول الظاهرة بعد أن انفصلت عن بيئتها الأصلية وصارت – بدعم من الدين- ظاهرة محلية.
هذا بالإضافة إلى تصريحه المباشر في مقدمة الكتاب الأخير من السلسلة قائلاً «هذا الكتاب.. دعوة إلى المرأة العربية لتستعيد الثقة بنفسها، وتنفض عنها غبار السنين الطويلة من الجهل والتخلف» (قاسم أمين، المرأة الجديدة، ص1).
وكما أشرنا إلى دور الخلفية الفكرية لقاسم أمين في توجيهه إلى الطريقة التي تناول بها قضايا المرأة، يمكننا أيضاً أن نشير هنا إلى نفس هذا الدور الذي لعبته خلفية إمام عبدالفتاح الفكرية، كأستاذ للفلسفة، في توجيه مشروعه النظري حول علاقة الفلاسفة بالمرأة.
لوحة: جبران هداية
2-المنهج
يلجأ كلّ من قاسم أمين وإمام عبدالفتاح إلى التاريخ من أجل إبراز وجهتي نظرهما في المسائل المتعلقة بالمرأة، وعلى رأسها وضعية المرأة نفسها في المجتمع وفي التاريخ. فيستدعى كل منهما من أحداث الماضي (العربي أو الغربي) ما من شأنه أن يلقي شيئاً من الضوء الكاشف على أوضاع المرأة الحالية.
وفي هذا الصّدد يقول قاسم أمين «لا يمكن معرفة حال المرأة اليوم إلا بعد معرفة حالها في الماضي. تلك هي قاعدة البحث في المسائل الاجتماعية، فإنّنا لا يمكننا أن نقف على حقيقة حالنا في شأن من شؤوننا إلا بعد استقراء الحوادث الماضية والإلمام بالأدوار التي تقلبت فيها وبعبارة أخرى يلزم أن نعرف من أي نقطة ابتدأنا حتى نعلم إلى أي نقطة نصل» (د. إمام عبدالفتاح، نساء فلاسفة القاهرة: مكتبة مدبولي، ط1، 1996، ص13).
ويعبّر إمام عبدالفتاح عن نفس المعنى قائلاً «إننا إذا أثبتنا عن طريق شواهد التاريخ أن هناك امرأة واحدة تفلسفت، أو برهنت على رجاحة العقل وصواب الفكر عندها، فإننا نهدم بذلك آلاف الأمثلة الإيجابية التي يقول بها أصحاب الفكرة الأورسطية المتخلفة التي تغمض العين حتى لا ترى نماذج مضيئة لنساء راجحات العقل: صائبات التفكير، سديدات الرأي» (المرجع السابق، ص14).
ويلاحظ أنه بالرغم من غلبة المنهج التاريخي على كل من المفكّريْن، إلا أنه كان عند قاسم أمين حاضراً في شكله التقليدي. فالتاريخ عنده سلسلة من الوقائع المتصلة التي ترتبط بزمن خطيّ له بداية ونهاية، بحيث تؤدي معرفة البدايات إلى وعي أكثر بالنهايات. أو بعبارة أخرى تؤدي معرفة الماضي إلى فهم أعمق للحاضر.
وبالرغم من أن إمام عبدالفتاح يمضي في بحثه على نفس النهج تقريباً إلا أن خلفيته الفلسفية الهيجلية تجعله يعنى بالأفكار أكثر مما يعنى بالحوادث. فالتاريخ عنده ليس تاريخاً للوقائع بقدر ما هو تاريخ للوعي، وبهذا الاعتبار فإن دراسته للمرأة هي بالأحرى دراسة عن تطور فكرة المرأة عبر التاريخ. ولعل هذا هو السبب في أنه يميل للحديث عن المرأة بإطلاق ودون حرص على تحديد جنسيتها.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يمكننا أن نعثر في تحليلات إمام عبدالفتاح على ملامح فوكوية أركيولوجية تتبدى في محاولاته الدؤوبة للحفر في الجذور، فرجوعه إلى أفلاطون وأرسطو والفلسفة المسيحية ليس إلا بهدف العثور على أساس لما يتم الترويج له في الثقافة الحديثة عموماً، والثقافة العربية بنحو خاص، حول الصورة التي عليها المرأة الآن. وأخطر ما توصل إليه إمام عبدالفتاح في هذا الأمر -من وجهة نظرنا- هو نجاحه في إثبات أن الصورة السلبية عن المرأة التي نجد لها تدعيماً من الدين هي ليست من الدين في شيء. ومن ذلك ما أورده عن فلسفة أرسطو حول المرأة التي حاولت أن تقدم أساساً نظرياً للصورة الشائهة التي كان يراها عليها من تدنّ في الذكاء ونقص في العقل وعدم اتزان في الحكم على الأشياء وعدم صلاحية للسياسة أو القيادة أو إدارة لشؤون البلاد، وكيف أن هذه الصورة المسيئة للمرأة قد تسربت للثقافة العربية (الرفيعة منها والشعبية) وارتدت ثوباً دينياً، والدين منها براء. فنجده يقول عن أفكار أرسطو «تجدها متناثرة هنا وهناك، يرتدى بعضها -للأسف- زياً دينياً ليكون أكثر عمقاً ونفاذاً، أقحموه على الإسلام الذي رفع المرأة العربية من حضيض الجهل والتخلف، بعد أن كانت تورث مع ممتلكات الرجل إلي أعلى المراتب الاجتماعية عندما جعلها قيّمة على نفسها ومالها وزوجها.. ألخ» (د.إمام عبدالفتاح، أرسطو والمرأة، القاهرة: مكتبة مدبولي، ط1، 1995، ص9).
ويمكن أن نعثر على نفس النتيجة لدى قاسم أمين الذي تناول قضية الحجاب -ضمن مسائل أخرى- باستفاضة ليثبت أنه في صورته العملية لا يعدو أن يكون عادة اجتماعية تمّت المغالاة فيها حتى جاوزت ما أمر به الإسلام، فيقول في هذا المعنى «إن الحجاب الموجود عندنا ليس خاصاً بنا، ولا أن المسلمين هم الذين استحدثوه، ولكنه كان عادة معروفة عند كل الأمم تقريباً ثم تلاشت طوعاً لمقتضيات الاجتماع، وجرياً على سنة التقدم والترقي» (قاسم أمين، تحرير المرأة، ص38).
يلجأ كلّ من قاسم أمين وإمام عبدالفتاح إلى التاريخ من أجل إبراز وجهتي نظرهما في المسائل المتعلقة بالمرأة، وعلى رأسها وضعية المرأة نفسها في المجتمع وفي التاريخ. فيستدعى كل منهما من أحداث الماضي
ويفسر قاسم أمين مغالاة المسلمين في التمسك بالحجاب بأنه كان وليداً للمغالاة في الاحتشام في مقابل مغالاة المجتمعات الغربية في التكشف. وهنا يلتقي قاسم أمين بإمام عبدالفتاح في أنهما يردّان صورة المرأة السيئة ووضعيتها المتدنية في المجتمع إلى الغرب. ودون محاولة التعرض بالنقد لهذه الفكرة أو حتى محاولة تجاوزها، يمكننا القول إن ثمة هاجساً متغلغلاً في اللاوعي العربي يجعلنا دائماً نشعر بأن الخطر يأتي من الخارج لا من الداخل. وخطورة هذا الهاجس تكمن في أنه لا يتوقف عند مسألة من مسائلنا أو قضية من قضايانا قد ترد هنا أو تعرض هناك، وإنما يمتد إلى الهوية والمصير ليجعل منهما كيانات مائعة تنتظر الآخر ليضع لها الحدود ويرسم لها الأشكال.
لا نقول بخطأ هذه التفسيرات التي يقدّمها مفكرانا الكبيران، فنحن نؤمن بتعددية الفكر وبانفتاح التأويل، لكننا نقول بأن المضي إلى نهاية التحليل ينبغي أن يصل بنا إلى مثل هذه النتائج، فعذراً إن بدت صادمة.
قبل أن نختم هذه الجزئية من البحث ينبغي أن نشير إلى أن البعد المعرفي لا يغيب عن تحليلات قاسم أمين، كما أن البعد الاجتماعي لا يغيب عن تحليلات إمام عبدالفتاح إلا أننا نتحدث عن التوجه العام والطابع المميز لفكر كلّ من المفكّريْن.
ففي كتاب «الفيلسوف المسيحي والمرأة» يستهل إمام عبدالفتاح الكتاب بمقدمة يوضح فيها كيف أنه يختلف عن الكتابين السابقين «أفلاطون والمرأة» و»أرسطو والمرأة» في سلسلة «الفيلسوف.. المرأة» في أنه يطرح مسائل عملية تختلف عن الآراء النظرية التي قدمها فلاسفة اليونان، فيقول «في كتابنا الحالي نعرض للعلاقة بين الفيلسوف المسيحي والمرأة.. وإذا كان فلاسفة اليونان قد عبّروا، نظرياً، عن التراث السائد في مجتمعهم… فسوف نجد في كتابنا هذا مثالاً جيداً لسيطرة العادات والتقاليد وطغيانها علي الفكر الديني» (د.إمام عبدالفتاح، الفيلسوف المسيحي والمرأة، القاهرة: مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى، سنة 1996، ص 7).
ويشرع في استعراض وتحليل آراء علماء الأنثربولوجيا والجغرافيا والاجتماع ليكشف عن ملامح المجتمع الذكوري الذي كان يعمد إلى السيطرة على المرأة واعتبارها في مرتبة أدنى. وفي هذا الصدد يقدم تفسيراً اجتماعياً للحجاب متأسساً على بعض الآراء الأنثربولوجية التي تربط بين الملكية الخاصة ووضع المرأة. فالمرأة -وفقاً لهذا التفسير- وباعتبارها ملكية خاصة كان لا بد من حجبها عن الأنظار حتى تضمن سلالة من صلب الزوج صاحب هذه الملكية. وهو أيضاً ما يفسر عدم أهمية الحجاب بالنسبة إلى المجتمعات التي تسود فيها الشيوعية الجنسية.
وفي المقابل نلمح لدى قاسم أمين بعداً علمياً ومعرفياً في كتاباته حول المرأة، ويتبدى ذلك بوضوح في معالجته لمسألة «نقصان عقل المرأة»، حيث يقوم باستعراض وتحليل العديد من الآراء العلمية التي قال بها علماء الطبيعة والفسيولوجيا والتشريح بعد أن يستبعد رأي العامة الذي تأسست عليه هذه المقولة المجافية للصواب، فيقول «إذا سألنا الرأي العام فالجواب سهل معلوم. ولكن الرأي العام لا يصح أن يكون له صوت في مسألة علمية كهذه. لأن مبنى الرأي العام القضايا المشهورة التي صاغتها العادة وقررتها الألفة بدون بحث ولا تنقيب.. والرأي العام يعتبر تغيير كل عادة ألفها مخالفة للطبيعة لأنه لا يفرّق بين العادة والطبيعة حيث يظن أن ما هو حاصل الآن كان كذلك وسيبقي إلى الأبد» (قاسم أمين، المرأة الجديدة، مرجع سابق، ص 42).
وينطلق قاسم أمين بعد هذا التحديد الدقيق للمصطلحات الذي يفصل بين ما هو عادة وبين ما هو طبيعة، ليقوم ببحث طبيعة عقل المرأة، وهل هو أقل من عقل الرجل أم مساوٍ له أم متفوق عليه؟ وذلك كله من خلال طرح علمي يتناول المسألة من جوانبها المختلفة، ليصل إلى نتيجة نهائية مؤداها أن المرأة تساوي الرجل رغم الاختلافات الطبيعية الكثيرة التي بينهما، ذلك لأن المساواة هنا من نوع خاص. فهي ليست مساواة في الأجزاء وإنما في مجموع القوى والملكات. وفي هذا المعنى يقول «إن مجموع قواها وملكاتها تكافئ مجموع قواه وملكاته وإن كان يوجد خلاف كبير بينهما، لأن مجرد الخلاف لا يوجب نقص أحد المتخالفين على الآخر» (المرجع السابق ص 47).
3-الإشكالية والحل
الإشكالية واحدة -تقريباً- عند المفكرين، وهي الوضع المتردي للمرأة العربية. وإذا كانت الإشكالية واحدة، فإن الحلول أو المعالجة مختلفة. ذلك أن الدور الإصلاحي الذي يلعبه قاسم أمين من ناحية، وخلفيته القانونية من ناحية أخرى يجعلانه حريصاً علي أن يضع خطة أو برنامجاً محدداً للعلاج. وهو برنامج تربوي بالأساس، يحاول من خلاله أن يعيد بناء الشخصية النسائية بأن يمنحها فرصة مماثلة لما أتيح للرجل حتى تستكمل جميع مؤهلاتها وترقى بملكاتها النفسية والعقلية والروحية، الأمر الذي من شأنه أن يفتح لها الباب على مصراعيه للمشاركة في نهضة الأمة وصلاحها. أي يمكننا القول إن قاسم أمين عندما كان يشخّص العلة ويحدد أسباب المشكلة من خلال الرجوع إلى الماضي، إنما كان يفعل ذلك وعيناه على المستقبل، وبالتالي أتت معالجته في شكل أفكار عملية صالحة للتطبيق.
وفي المقابل نجد أن الخلفية الفكرية لإمام عبدالفتاح وميله للبحث والتنظير جعل الحل لديه لا يتجاوز إيجاده المبرر لنهضة المرأة ومشاركة الرجل في العمل والتفكير والبناء، وذلك من خلال مقاربات نظرية عديدة ومتنوعة ترمى كلها -في النهاية- إلى إثبات وتأكيد قدرة المرأة على الإسهام الحضاري والإنساني، خاصة في مجال الإبداع والتفكير (التفلسف).
فإمام عبدالفتاح -خاصة في كتابه «نساء فلاسفة»- يحاول تأكيد وضع قائم بالفعل، وهو وجود نساء مارسن التفكير الفلسفي وتركن آثاراً فلسفية جديرة بالتقدير، لكن دون أن يقدم لنا الآلية المنهجية العملية التي تجعل المرأة -خاصة العربية- تعبر الفجوة الكبيرة التي بين وضعها الحالي المتخلف (وحيث ازدياد نسبة الأمية بين النساء)، وبين الصورة التي يرمي إليها، والتي تجعل من هذه المتخلفة فيلسوفة تنافس الفلاسفة الرجال.
فهل يمكن القول إن قاسم أمين قد حقق هذه الخطوة منذ قرن من الزمان، ومن ثم لم يجد إمام عبدالفتاح مبرراً لإعادة المحاولة مرة أخرى؟ أم أن الأمة الآن لا تحتاج إلى فكر قاسم أمين الإصلاحي التربوي قدر حاجتها إلى مستوى معرفي أعلى يناسب تعقيدات هذا العصر بثوراته الاتصالية والمعلوماتية؟
لوحة: مايسة محمد
لن تتضح الإجابة إلا إذا اطلعنا على شيء من فكر قاسم أمين الإصلاحي، وفكر إمام عبدالفتاح التأملي، فما هي ملامح النظرية التربوية عند قاسم أمين؟ وما هي الفلسفة النسوية التي يمكن أن تشارك بها المرأة في نهضتنا المعاصرة؟
يفرد قاسم أمين لمبحث التربية فصلاً مستقلاً بعنوان «تربية المرأة» في كتابه «تحرير المرأة». ويستهل هذا الفصل بالتأكيد على المساواة بين الرجل والمرأة في الأعضاء والإحساس والفكر من حيث كون كل منهما «إنسان» ولا يختلفان إلا بقدر ما يستدعيه اختلافهما في الصنف، وأن تفوّق الرجل إنما جاء نتيجة لاشتغاله بالعمل والفكر أجيالاً طويلة كانت المرأة فيها محرومة من استعمال القوتين. وعلى ذلك لا تحتاج المرأة إلى ملكات وقدرات جديدة، بل فقط إلى التربية التي تبرز هذه الملكات وتعوض هذا الفارق الذي جاء نتيجة لتعطلها عن العمل.
ويبدأ قاسم أمين من الصفر في نظريته التربوية حيث ينبغي للمرأة ابتداءً أن تتعلم القراءة والكتابة، «فإذا تعلمت المرأة القراءة والكتابة، واطلعت على أصول الحقائق العلمية، وعرفت مواقع البلاد، وأجالت النظر في تاريخ الأمم، ووقفت على شيء من علم الهيئة والعلوم الطبيعية، وكانت حياة ذلك كله في نفسها عرفانها العقائد والآداب الدينية استعد عقلها لقبول الآراء السليمة وطرح الخرافات والأباطيل التي تفتك بعقول النساء» (قاسم أمين، تحرير المرأة، مرجع سابق، ص 18).
وبعد هذا العرض المجمل لرؤية قاسم أمين التربوية يقوم بطرح مفصّل لهذه العناصر التربوية بالنسبة إلى الوظيفة الاجتماعية والعائلية. ففي الأولى يرى أن المرأة المصرية يمكن أن تشتغل مثل الغربية بالعلوم والفنون والآداب والتجارة والصناعة إذا أُحْسِنت تربيتها، فإنه «لو أخذ بيدها إلى مجتمع الأحياء، ووجّهت عزيمتها إلى مجاراتهم في الأعمال الحيوية واستعملت مداركها وقواها العقلية والجسمية لصارت نفسها حية تنتج بقدر ما تستهلك، لا كما هي اليوم عالة لا تعيش إلا بعمل غيرها. ولكان ذلك خيراً لوطنها لما ينتج عنه من ازدياد الثروة العامة والثمرات العقلية فيه». (المرجع السابق، نفس الصفحة).
وإذا كان قاسم أمين يركز على الجانب العملي في حالة الوظيفة الاجتماعية مؤكداً على أهمية أن تخرج المرأة للعمل وتكون عضواً فاعلاً ومنتجاً في المجتمع، فإنه يركز في حالة الوظيفة العائلية على أهمية إعداد المرأة على النحو الذي يجعلها قادرة علي إدارة شؤون البيت وتربية الأطفال وتهيئة الجوّ المناسب لزوجها، خاصة إذا كان من هؤلاء الرجال الذين يتخذون من العلم والفكر مهنة ووظيفة، وفي هذا الصدد يقول «والحقيقة أن إدارة المنزل صارت فناً واسعاً يحتاج إلى معارف كثيرة مختلفة، فعلى الزوجة وضع ميزانية الإيراد والمصرف بقدر ما يمكن من التدبير، حتى لا يوجد خلل في مالية العائلة، وعليها مراقبة الخدم.. وعليها أن تجعل بيتها محبوباً إلى زوجها، فيجد فيه راحته ومسرّته إذا أوى إليه.. وعليها.. وهو أول الواجبات وأهمها تربية الأولاد جسماً وعقلاً وأدباً» (نفسه، ص27).
ويلاحظ هنا أن قاسم أمين برغم دعوته الإصلاحية الثورية في تحرير المرأة ومطالبته بمساواتها بالرجل إلا أنه يقصر دورها على الأعمال المنزلية وتربية الأولاد. حتى عندما يدعوها للخروج للعمل فإنما يكون ذلك بمثابة العون لها في مهمتها الأولى التي خلقت من أجلها. وليس أدل على ذلك من عبارته «ولست ممن يطلب المساواة بين المرأة والرجل في التعليم، فذلك غير ضروري، وإنما أطلب الآن -ولا أتردد في الطلب- أن توجد هذه المساواة في التعليم الابتدائي على الأقل، وأن يعتنى بتعليمهن إلى هذا الحد مثل ما يعتنى بتعليم البنين» (نفسه، ص 32).
والحقيقة لا ينبغي لنا أن نندهش من هذا الموقف ولا أن نتهمه بالتناقض، لأن الظروف التاريخية والاجتماعية التي كتب فيها قاسم أمين كتابيه حول المرأة، هي التي جعلته لا يحاول أن يعلي من سقف دعوته الإصلاحية أكثر من التعليم الأوّلي والإعداد للمهارات الاجتماعية والعائلية كمرحلة أولى في التربية والإصلاح. ولعل هذا ما يبرر لنا ذلك الشعور الذي قد ينتابنا بأن المرأة في فكر قاسم أمين لم تتخل تماماً عن تبعيتها للرجل وأن حريتها -في هذا الفكر- مازالت منقوصة.
إلا أن ذلك لا يمنعنا -في المقابل- من اتخاذ هذا الطرح المبكر لقضية المرأة -في العصر الحديث- في الثقافة العربية أساساً أو مبرراً لمحاولة إمام عبدالفتاح الفلسفية. فقاسم أمين لم يحدثنا عن دور إبداعي، فضلاً عن أن يكون فلسفياً للمرأة. فلم ينشغل بالبحث في وجود امرأة أديبة أو عالمة أو فيلسوفة قدر اهتمامه في البحث عن امرأة تجيد إدارة البيت وتربية الأولاد بنحو عصري مستنير. والحقيقة أننا لا نستطيع إنكار أن المرأة المبدعة لا يمكن أن تأتي إلا من رحم المرأة التي تجيد فن إدارة البيت وتربية الأولاد. فإذا عدنا إلى فيلسوفات إمام عبدالفتاح فلا أعتقد أننا سنعثر على فاشلات في الحياة الزوجية والاجتماعية.
ولكن ما هي ملامح الفلسفة النسوية في العصور القديمة. أي البدايات الأولى للتفلسف التي يقدمها إمام عبدالفتاح للتأكيد على قدرة المرأة على التفلسف مثلها مثل الرجل تماماً؟
قاسم أمين لم يحدثنا عن دور إبداعي، فضلاً عن أن يكون فلسفياً للمرأة. فلم ينشغل بالبحث في وجود امرأة أديبة أو عالمة أو فيلسوفة قدر اهتمامه في البحث عن امرأة تجيد إدارة البيت وتربية الأولاد بنحو عصري مستنير
يستعرض إمام عبدالفتاح في كتابه الرابع والأخير من مشروعه الكبير حول الفلسفة والمرأة، والمعنون بــ»نساء فلاسفة»، عدداً من النساء الفلاسفة اليونانيات. ويبدأ تاريخهن -كما هو حال الفلسفة الغربية عموماً- في القرن السادس قبل الميلاد بالمدرسة الفيثاغورية وفي هذا الصدد يقول «حظيت المرأة الفيثاغورية بفرص هامة مكنتها من القراءة والكتابة، وقبل كل شيء من التفكير والمناقشة وإعمال العقل، ووقفت على قدم المساواة مع الرجل. وكان الاعتقاد السائد عند الجماعة الفيثاغورية أنه علي الرغم من أن طبيعة المرأة تختلف عن طبيعة الرجل، فإنها لا تقل عنه أبداً، لا من حيث القدرة، ولا من حيث القيمة» (د.إمام عبدالفتاح، نساء فلاسفة، مرجع سابق، ص 25).
ويحذر إمام عبدالفتاح من الاعتقاد بأن النساء الفيثاغوريات كتبن فقط في الاقتصاد المنزلي، أو أن الموضوعات التي كتبن فيها تدور حول رعاية الطفل وتربيته، ودور المرأة في المنزل والمجتمع. وفي المقابل يدعو إلى قراءة نقدية فاحصة ومدققة للشذرات التي تركنها هؤلاء الفيلسوفات حتى نخرج بنتيجة هامة مؤداها قدرة هؤلاء الفيلسوفات على توظيف مفاهيم مثل «الهارمونيا» و»التناغم» و»الانسجام» لتطبيقها على بنية الدولة وإدارتها وعلى بنية الأسرة وإدارتها. «فإذا كان فلاسفة الفيثاغورية من الرجال قد اتجهوا بجهودهم نحو تفسير العالم الكبير، تفسيراً رياضياً يجعل نسيجه العدد والنعم، فإن فلاسفة الفيثاغورية من النساء اقتصرت جهودهن على العالم الصغير، أعني: علي الفلسفة بالمعنى الواسع للفظ الذي يشمل الأسرة والدولة في آن معاً» (نفسه، ص 26).
وبالرغم من أن إمام عبدالفتاح يستمر في استعراض النساء الفيلسوفات مبرزاً تنوع موضوعاتهن التي امتدت إلى نظريات الحب وخلود النفس، ووصلت في العصر الحديث إلى الكتابة عن «الثورة» وعن «العنف» وعن «الحرية»، وعن «حياة العقل» إلا أن ما يستوقفنا هنا هو تراث الفيلسوفة الفيثاغورية التي نجحت في فلسفة حياتها اليومية:
أولاً: إن هذه المنطقة هي التي تشترك فيها امرأة إمام عبدالفتاح مع امرأة قاسم أمين، والفرق بينهما هو فارق تاريخي وهو أيضاً فارق في الوعي. فإذا كان قاسم أمين قد اهتم بتقديم نظرية تربوية تؤهل المرأة للقيام بواجباتها المنزلية والعائلية، فإنه لم يعمل على إعداد امرأة تقدم هي نفسها نظرية في التربية.
ثانياً: إن ما قامت به النساء الفيثاغوريات ليس فقط مجرد اقتحام لمجال الفلسفة -أياً كان موضوعها- وإنما تلك الروح والعقلية النسائية عندما تنشط وتعمل في اتجاه التأمل والتنظير. وهو ما نراه الآن في الفلسفة النسوية المعاصرة -الأكثر نضجاً- والتي تجاوزت فكرة مجرد محاكاة الرجل وإثبات الذات والوجود في مواجهته بالقيام بذات الأعمال والإبداعات التي يقوم بها. وإنما على العكس من ذلك تقديم إبداع مواز يصطبغ بالصبغة النسوية التي لا يمكن أن يصل الرجل إليها مهما بلغ من قدره ومن عبقرية. وليس أدل على ذلك من مجال العلم الذي ظل لسنوات طويلة يقدم على أنه محايد لا دين ولا جنس له، حتى ظهر مؤخراً ما يعرف بأنثوية العلم. وهو اتجاه جديد يأتي موازياً لاتجاه العلم الذكوري الذي أسسه الرجل على مدار التاريخ.
ونحن في هذا الصدد ضد المحاولات النسائية التي تريد التشبه بالرجال لمجرد إثبات مساواة سطحية وساذجة كأن تقوم المرأة بالدخول في حلبات المصارعة أو حمل الأثقال أو كمال الأجسام، أو محاولتها خوض مجال الاستشارات الزوجية لتقديم الدروس في العديد من القضايا لزبائنها من الرجال.
وعلي أيّ الأحوال، إذا كان لنا من كلمة نقولها في نهاية هذا البحث القصير، فهي أن أفكار قاسم أمين كانت ثورية في زمانها وقد أدت دورها، وأن أفكار إمام عبدالفتاح ثورية في هذا الزمن وسوف تؤدي دورها. وستحتفظ هذه الأفكار جميعها -كتراث فكري عربي أصيل- بثرائها وخصوصيتها على الدوام، بحيث تمثل لنا الزاد الذي سيعيننا على الطريق نحو النهضة ونحو الحرية ونحو الكرامة.