الذات المؤنثة موضوعاً للكتابة
من خلال اطّلاعنا على ما توفر لدينا من نصوص قصصية ومجموعات نسوية مغربية تنتمي لأجيال مختلفة (الستينات مرورا بالثمانينات من القرن الماضي وصولا للراهن) نلاحظ عدم وجود فوارق قطعية بين هذه المراحل فالقصة عند مليكة مستظرف، نجاة السرار، عائشة بورجيلة أو فاطمة بوزيان تنطوي على بعض ما انطوت عليه القصة عند خناثة بنونة بشكل من الأشكال.. ربما ثمة بُعد عن التقريرية والمباشرة كما عند مستظرف بورجيلة وبوزيان.. ربما ثمة تطور في أسئلة الكتابة، لكن هذا التطور لا ينفي أنه متصل بما سبق لا منفصل عنه، مع التأكيد على أن القاصة المغربية استطاعت في كل مراحل تطور سردها (شكلا ومضمونا) طرح أسئلة جريئة تتعلق بالخلل البنيوي الذي يعتري البنى الاجتماعية كما عند: خناثة والسرار، وتمكنت من اقتفاء أثر هذا الخلل كما عند مليكة والسرار وبورجيلة وتتبع تجلياته على الشخوص المهمشين غالبا وانعكاساته على الذات الإنسانية بعامة، في هذا العالم المضطرب سريع التحولات كما عند بوزيان.
في هذا الجزء من بحثنا عن القصة النسائية المغربية اخترنا نماذج محددة لنشتغل عليها تتمثل في «العزلة الموقوتة» لخناثة بنونة و»ذبابة» لمليكة مستظرف و»الزغاريد المؤجلة» لنجاة السرار و»لنرسو على شاطئ الحلم» لعائشة بورجيلة و»يوم استثنائي» لفاطمة بوزيان.
القصة النسائية المغربية في جانب منها كما ذكرنا سابقا تنهض في الخلل البنيوي.. في تحليل الواقع الاجتماعي، خلال رصدها لتفاصيل الحياة اليومية عبر شخصيات قد تبدو للوهلة الأولى كشخصيات سايكوباتية، كما في شخوص مجموعة مليكة مستظرف «ترانت سيس» (http://www.doroob.com/?p=1746) لكنها في الواقع شخصيات مهمشة ومسحوقة سلوكها رد فعل لخلل جوهري في البناء الاجتماعي، فهم كشخوص ليس لديهم تصور مضاد أو غير مضاد للمجتمع، وما يصدر عنهم ما هو إلا انعكاس لتعاطيهم مع الأبنية المختلة نفسها، بقوانينها الضاغطة وما ينتج عن اشتغال هذه القوانين من تمزقات تعتري وتشمل كل جوانب الحياة، بحيث تبدو الذات الإنسانية في هذا التمزق: مختطفة.. مهضومة، تحاول الإفلات من قبضة اليومي. في هذا الفضاء الإنساني المتمزق والممزق للفرد تبدو المدينة المغربية كمجمّع كبير للقمامة، يحتوي كل ما يصعب تصوره من سقط السلوك البشري، والأفكار المريضة (انظر: مليكة مستظرف-ترانت سيس) لا تعبر هنا عن المدينة المغربية الكبيرة فحسب، بقدر ما تعبر بها وفيها كرمز للمدينة عموما، في زمن التحولات المتسارعة التي شملت كل العالم دون استثناء، وكانت إفرازاتها السالبة على عالمنا النامي تحديداً أشد قسوة وتمزيقا للذات الإنسانية منها على العوالم التي اكتمل نموها أو في طريقها للاكتمال.
القصة القصيرة المغربية المكتوبة بأقلام نسائية تتبدى لا كنصوص غارقة في همومها المحلية رهينة الاجتماعي والثقافي والسياسي، فهي أكثر من ذلك حالة تسام إنساني كوني يعكس كل ما يموج به حاضرنا المضطرب الموبوء بأمراض عصرنا بوتائر إيقاعه المتسارع الموتور الذي يتشيأ فيه الإنسان ويتسلَّع بل ويتعلَّب عبر الإسفير الماسنجر، وهي إشارة مزعجة كسؤال عن دفء المشاعر والعواطف الإنسانية.
إلى جانب هذا السؤال الكبير نجد أسئلة عديدة تتعلق بالمنسي والمهمل .. تتعلق بالغاضب والساخط على كل شيء، ونجد لغة الشعر المبثوثة هنا وهناك بكل ما لها من عذوبة، كما نجد النثر الجميل يتشذر في السردي المتواصل.. الأيديولوجيا أيضا كان لها نصيب فيما هيمنت به على جيل خناثة بنونة فهتافاتها هنا منذ غروب شمس الثمانينات من القرن الماضي في النماذج التسعينية ونماذج الألفية الجديدة، كرجع لصدى بعيد متلاش في اللانهاية السردية، أشبه بالتموجات التي يخلّفها حجر يلقى على بركة ساكنة، حيث تتبدى التموّجات الدائرية، كتلويحة غريق في ظلمة ماض أشد عتمة من غبرة الأفق في روايات ماركيز.. إنها نصوص الجيل التسعيني والألفي الجديد التي تنكر الأيديولوجيا، لا كإنكار يهوذا ولكن كإنكار التجاوز والتخطي، في عصر السقوط المدوي للأفكار الكبرى.. وبعد هذه نصوص لا تريد أن تبشر بسوى الإنسان المتطلع لتحقيق ذاته المحاصرة، بأسئلة السلطة المربكة في عالم يتداعى على رومانسيتنا.. وشاعريتنا وبراءتنا التي نفتقدها الآن في تداعيه على هذه الإحساسات والقيم الجمالية النبيلة تداعي الأكلة إلى القصعة فما الذي حصلنا عليه سوى أشياء نبيلة شكلا لكنها أفرغت من محتويات عزيزة علينا، محتويات تبعثرت في الفضاء الواسع والمتعدد تعدد وسائط التكنولوجيا.. فالتكنولوجيا احتلت عالمنا الشاعري الجميل لنصبح مجرد ملفات مرفقة تفتح وفقا لبرامج الوندوز أو الفيستا الكومبيوترية.. وبعد هذا جزء من رحلة النص القصصي النسوي المغربي القصير، رحلة شبيهة برحلة جلجامش في اللانهاية بحثا عن الحقيقة والحب والجمال بحثا عن الإنسان بما هو إنسان..
القاصة المغربية استطاعت في كل مراحل تطور سردها (شكلا ومضمونا) طرح أسئلة جريئة تتعلق بالخلل البنيوي الذي يعتري البنى الاجتماعية كما عند: خناثة والسرار، وتمكنت من اقتفاء أثر هذا الخلل كما عند مليكة والسرار وبورجيلة وتتبع تجلياته على الشخوص
يوم استثنائي لفاطمة بوزيان
النقد الجذري لواقع الانهيار والهزيمة والأحلام باستخدام ضمير المتكلم بما له من سلطة أغرمت بها بوزيان، تستهل راوية يوم استثنائي حكايتها معه «أنظر إليه يتكلم يخيل إليّ أني أسمع بعيني .. ألا تتكلم… العيون..». (http://www.syrianstory.com/f-bozayanne.htm) فهذه الراوية الجالسة إلى خطيبها الذي لطالما اعتقدت أنه استثنائي، بحكم أن حياته في أوروبا تركت طابعها على مظهره وسلوكه تبدأ في مراقبة كل شيء فيه «بمحبة وإعجاب.. وودّ.. بدأت أشيده بداخلي قطعة قطعة، من كل ما أعجبني، رأيت وتخيلت رجالا، منذ خالط ذلك السيل الهرموني الحارق دمي»، فهي تظن أنه «عصري في كل شيء، لا في مظهره فقط.. كان يتحدث عن مغامرات تفوق خيال تلك القنوات التي… والأفلام التي… للتو كان حديثه يفيض بغزوات نهود وظمأ وارتواء..». كانت مقهورة بتصورها له فهذا التصور، يستحوذ عليها فتتفهم أو تدعي تفهم فوضاه الجنسية، فهي مشوشة تظن أنه آخر.. كمنتج غربي يتم تسويقه لدى المغيبين العالمثالثيين، لذا تتصور أن ما بينهما حوار حضارات أو ثقافات.. إلخ من إكليشيهات لا تسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية، رغم أن كل ما بينهما هو تأكيد أو موافقة على «أسروداته» البائسة التي تخلو من أيّ فلسفة عميقة للحياة كما يدعي كخبير غربة واغتراب وتغرب.. كانت تسمع فقط وتكرر «عادي، عادي جدا ..»، بوزيان تورط القارئ في النص، إذ تحاول ربطه بحوارات سحقها تعاقب الزمن، لكن ظل تاريخنا المعاصر ينطوي عليها، فالإعجاب منذ لحظة تمرحله إلى مودة وارتباط هذه المودة بالحسي فيما بعد، بمعنى الحنان.. والحب ببعده الجنسي.. هذه المفاهيم المختلفة تصطرع في دخيلة حبيب الراوية، فهو كما تصفه كلاسيكيات علم النفس الأيديولوجي.. هذا الشخص جزء من العائلة البطريركية النموذجية، وبما أنه سيؤدي واجبه الزوجي -إذا تزوجها- عليه أن يطمئن منذ الآن بالتأكد من ماضيها الغابر، والواجب هنا ليس مفردة بل هو قيمة عميقة الجذور قبل أن يكون مفهوما مرتبطا بالأديان السماوية المألوفة والمعروفة، مثل هذا الرجل مفردات مثل «عادي ،عادي جدا» تخلخل كيانه.. لذلك عندما حكت له الراوية عن حب عذري عبر حياتها وهي طالبة، أصيب بما يشبه الصدمة، فالمرأة التي من واجبه أن يتزوجها هي تلك الشريفة الخالية من أيّ رغبات جنسية، في أيّ مر حلة من مراحل حياتها.. مع أنه كان يحكي لها عن مغامراته، ما يعني تعزيز قدرته الجنسية في نظرها.. فالمجتمع يغض الطرف عن ممارسات الرجل لكنه يقف للمرأة بالمرصاد، رغم أن التطورات على مستوى التصورات الأيديولوجية لا يمكن أن تسبق التطورات على مستوى سلوك الناس الواقعي اليومي، المرتبط بأبنيتهم الثقافية والاجتماعية.. إذن تركها ومضى بسبب قصة الحب العذري اليتيمة التي عبرت حياتها أيام الجامعة «أجبت: مرة واحدة أيام الجامعة زميلي… كنا نتبادل البوح وأشعار نزار والأحلام… أخرج الخاتم من إصبعه. وضعه جنب الفنجان. أعطى النادل حسابه. حمل هاتفه اللوزي الصغير. حاسوبه الشخصي الذي في حجم حقيبة يدي.. تزوجي زميلك إذن.. قالها وانصرف». ليس مستغربا حرصه على دفع الحساب للنادل.. تحاول الراوية أن تقول إن الرجل هو الرجل، سواء عاش في مجتمعه المحلي أو تغرّب في الغرب، تظل بنية وعيه الذكوري والتناسلي هي خلاصة محرك وعيه بذاته، كأسلافه يبيح لنفسه ما يحرمه على المرأة، كما أن التخلف الكبير في الوعي الإنساني بالمرأة في الشرق لن يزيله تبني الشرق لنمط الحياة الغربي أو الاندراج في فضاء العولمة شكليا دون أيّ مضامين إنسانية تتجذر في وعينا الإنساني والكوني، فعلا.. فالتحديث ومن ثم الحداثة مضمونان عزيزان ونبيلان على الروح العالمثالثية المنهكة الباحثة عن قيمة العدل والتحرر من موابق الماضي بأخطائه الفادحة، فالتحديث والحداثة والعولمة كمفاهيم متحولة تتعدى الشكل إلى الجوهر، فهي ليست مجرد استهلاك لكل جديد في التكنولوجيا والتقنية، سواء كانت ارتياد كافتيريات كمفهوم للفضاء العام في الغرب لعدم وجود فضاء خاص، بمعنى ليس تحضريا استقبال أحدهم في بيتك فهذا فضاءك الخاص.. أو اقتناء موبايل من ماركة البلاك بيري، أو حاسوب لاب توب من ماركة دل أو سيارة همر.. ومن ثم إذا كانت «قرونا من المواعظ الإلهية، والكثير من أساليب حيوات القديسين فشلت أن تجعل من الإنسان ملاكا.. وإذا كان المثال السلبي يتم تقليده حالا، فهذا يعني أن الفسق طبيعي، وأن الخطيئة أولية وأصلية ولا يمكن أن نفعل تجاهها أيّ شيء»( إ. س. كون. الجنس والثقافة. ترجمة منير شحود. دار الحوار. اللاذقية. ط ثانية. 2001ص: 84). والإنسان بطبعه يستوعب من وسائط الاتصال ما يروقه فقط ،لأن ذلك يجيب على حاجاته الداخلية ونظرته للقيم وتجربته المسبقة.
لوحة: جبران هداية
خناثة بنونة من مواليد فاس في أربعينات القرن الماضي، أبرز أعمالها «يسقط الصمت» التي صدرت في منتصف سبعينات القرن الماضي، إلى جانب مجموعتها الأخرى «النار و الاختيار» ومجموعتها الموسومة «بالصوت والصورة» تجدر الإشارة إلى أن وزارة الثقافة المغربية مؤخرا أصدرت أعمالها الكاملة، كما صدرت لها مؤخرا أيضا مجموعة «الحب الرسمي».. تعتبر خناثة بنونة من الجيل الرائد، في كتابة القصة النسائية القصيرة بالمغرب، ويلاحظ أنه «بينما بدأ الغرب يتحدث منذ أكثر من قرن ونصف عن الكتابة النسوية، وعن بناء الخصوصيات الجمالية في هذا الجانب منذ عام 1840 نجد أن الثقافة العربية بدأت تتحدث عن الكتابة نفسها منذ أواخر القرن التاسع عشر، تحديدا مع بدايات ظهور الصحافة النسوية عام 1892، بظهور صحيفة «الفتاة» لمنشئتها هند نوفل بالقاهرة» (http://www.arab-ewriters.com/?action=ShowItem&&id=5330).
وحول النسائية والنسوية في الكتابة يجدر بنا هنا الإشارة إلى ما أوردته دكتورة رشيدة بنمسعود في «كتابها المرأة والكتابة : سؤال الخصوصية بلاغة الاختلاف» والذي اتخذ من خناثة بنونة نموذجا تطبيقيا «عن خصوصية هذه الكتابة انطلاقا مما تكتبه المرأة، وبذلك تشكل الخنساء المنطلق لتلمس البداية الأولى (..) وجود خصوصية جنينية تلقائية فيما تكتبه المرأة، وهي حساسية ناشئة عن عاملين الأول: ما دام هناك إقرار بوجود اختلافات بين الجنسين في استعمالهما للغة فإنه لا يمكن فصل ما هو أدبي عمّا هو لغوي، لأن الأدب لعبة لغوية، والثاني: حضور الثقل التاريخي الذي يمايز بين الجنسين، باعتباره مكونا فاعلا فيما تكتبه المرأة القاصة (..) الحضور المطرد للبطل الأنثوي القلق العاجز عن تحقيق التجاوز نظرا لافتقاده لعنصر أساسي من عناصر القدرة/الفعل» (http://www.doroob.com/?p=16223).
لكن هذا الاستنتاج يصعب تعميميه، إذ بقدر ما ينطبق على نصوص مليكة مستظرف، التي ناقشناها في الجزء الأول من هذه الورقة ،أعني نص «البريوات» ونص «هذيان» كذلك نص «امرأة عاشقة.. امرأة مهزومة» الذي سنشتغل عليه هنا في هذا الجزء من ورقتنا، إلا أنه لا ينطبق على نص زهور كرام الموسوم «ومضة» والذي عالجناه سابقا، ففيه تنقلب الأدوار، ولا تبدو المرأة كفاقدة للقدرة/الفعل.. بل تبدو كذات تتخذ القرارات، وهو ذات ما نلاحظه على نص خناثة بنونة «العزلة الموقوتة» فبطلة هذا النص مناضلة تسهم مع الرجل في لملمة أطراف الهزيمة إزاء العدوان الأجنبي على الأمة.
التخلف الكبير في الوعي الإنساني بالمرأة في الشرق لن يزيله تبني الشرق لنمط الحياة الغربي أو الاندراج في فضاء العولمة شكليا دون أيّ مضامين إنسانية تتجذر في وعينا الإنساني والكوني
«العزلة الموقوتة» لخناثة بنونة هي قصة الهزيمة والخسارة الفادحة للشعارات النبيلة التي لطالما تغنيا بها ويشاهدانها الآن تغيب خلف أفق غامض تملؤه الهواجس والمخاوف والظنون.. أفق أغبر لا تفصح فيه الملامح عن نفسها، فكلاهما لم يعد يملك إجابة بعد انهيار نظام تفكيريهما، بل لم يعودا قادرين حتى على طرح الأسئلة الصحيحة التي تجنبهما مزالق الغياب أو الإرهاب «لم يكن ليفصحا فلقد استهلكا معا ما بنياه، وهما.. أو واقعا: التغيير.. البناء الجديد.. والانتماء للزمن المتحرك.. كان قد سألها: وما العمل»، فبطلة القصة المنشغلة بالقضية والمتفاعلة مع هموم شعبها وأمتها، وقبل كل ذلك حزبها، تعبّئها الأحداث التي تجري بالغبن، فتستجيب لما تبقى من نظام تفكير متداع داخلها، وتقرر تكوين خلية إرهابية «قالت: إن العالم يلغينا فيجب أن نحاربه بنفس لغته: الدمار، ثم حاولت تكوين خلية للإرهاب الأسود، فالموت لا يلغيه غير الموت»، ليمثل الإرهاب هكذا خيارها ومشروعها البديل وإجابتها على الأسئلة التي عجز الواقع عن تفسيرها.. فقد تداعى كل ما كانت تؤمن به من مشروع نهضة خلال أيديولوجيا الحزب الذي تفرق أعضاؤه أيدي سبا، تتنازعهم خيارات التمزق والتيه، فسعيد اختار أن يغيّب نفسه عن الوعي بما حوله بالتدخين، وعبدالكريم اتخذ موقفا حادا من الحياة برمتها فانتحر، ونجيب عاد إلى حظيرة الحزب المهشم يحاول ترميم ما انهار داخله من رؤية ورؤى، وعلي يترك المطلق الذي يتجسد أمامه في كل شيء حوله، ويمضي ليبحث عنه حيث لن يجده قطعا في الطرق التي تفضي للإرهاب الأسود، أو الانكفاء الصوفي.. وسعد رفيق حزبها وحياتها تتآكله الحيرة، ولا يعرف ماذا يفعل فقد فقد إيمانه بكل شيء وأصبح يشك فيها حتى هي نفسها. من قبل جهرا معا بالحنين والجوى والعذابات الكبرى، وحين أحبا بعضهما فلأجل أن يحبا العالم.. أن يبنياه مع الآخرين بهندسة مغايرة، تعيد توزيع اللقم والابتسام فيه بالتساوي، ولذلك عرفا السجون بعد الأعمال السرية التي تقوض لتبني..».
من خلال لغة تقريرية مباشرة يتبدى الزمن في «العزلة الموقوتة» قصيرا جدا فهو لحظة واحدة.. هي اللحظة نفسها في الاستهلال والخاتمة، ففي الاستهلال تهمس بطلة القصة، باسم رفيقها سعد «ألم تسافر. أم ترى أن الجو منعك» وبدء من هذه اللحظة في الاستهلال تستخدم خناثة بنونة تقنية الاسترجاع والحوار الداخلي، فتتداعى بطلة القصة غير المسماة كما يتداعى رفيها سعد في مستوى سردي مختلف.. ليشكل تداعيهما المتصل معا مستوى سرديا ثالثا حيث تمر في المستوى السردي الأول الذي تمثله (البطلة غير المسماة) والمستوى السردي الثاني الذي يمثله (رفيقها سعد) أخيلتهما كشريط سينمائي في لمحة عابرة، هي لحظة الاستهلال التي تستمر حتى الخاتمة كمديات متنامية لهذا الاستهلال، حيث تتنامى كل الصور والأخيلة وأفكارهما وتصوراتهما، في الذكريات كدينامية مغلقة على مرارة الهزيمة، تمور دواخلها باعتلاجات وأشجان ومواجد وحنين لإيمان متناء.. لعنفوان قضايا المصير العربي.
.. فالأزمة التي خلفها انهيار الأيديولوجيا والحرب الأطلسية برعبها النفسي واسع النطاق، الذي لم يشهد له التاريخ مثيلا ينتهي بشخوص القصة إلى حيرة مدمرة، ففي داخلهما لا يصدقان بعد ما آلت إليه الأمور.. لتنتهي القصة بذات الهمس الذي حمله استهلالها «وفاجأه صوتها وهي تنادي أيضا سعد، فانبغت وتوجه نحوها فوجدها تطل من باب المطبخ»، ففي هذا الزمن قصير «البرهة» تمر حياة بكاملها بأساها وأحزانها وتشتتها في مخيلتيهما، لتكشف هذه اللحظة السريعة عن مدى التمزق الكبير الذي يعيشه العقل الأيديولوجي من جهة، ويعيشه الإنسان والواقع العربي المتمركز حول أزمته من جهة أخرى، ما يعيد السؤال الجديد القديم للطرح مرة أخرى: هل ثمة أزمة واقع أم واقع أزمة.. إنه سؤال سجالي مواز ومتقاطع في الآن نفسه مع الأسئلة التي انطوى عليها نص خناثة بنونة حول الإرهاب الأسود والآخر والصراع الثقافي إلخ ..
لوحة: أمل بشير
تمكنت بنونة في هذا النص من توظيف الحوار كأداة تعبير في صميم الأسئلة القصيرة المتقطعة الدالة على المناخ النفسي المتوتر الذي تشيعه القصة من جهة، والدالة على المكان المحدود والمحدد كذاكرة مشتركة بينها وبين رفيقها سعد -أعني سكنهما/شقتهما- من جهة أخرى كمكان يناسب بمحدوديته هذه اللحظة الهاربة من عمرهما النضالي وتجاربهما الكفاحية التي قادتهما مرارا إلى المعتقلات.. هذه اللحظة المشحونة بالقلق والتحفز والتوتر الفكري والتيه الإنساني إزاء أسئلة معقدة. كما أن «المكان» دال على العزلة أو الرغبة في الانفصال عن التمزق الخارجي.. إنه الشرنقة/الوطن البديل، والملاذ الآمن بما ينطوي عليه من ذكريات مشتركة لها خصوصيتها المعزولة عن العام.. هذا العام الذي يمثل فضاء مسكونا بالهزيمة التي داخلهما قبل أن تكون في هذا العام «كان مسؤولا أمامها الأنثى والوطن، فعليه أن يفعل شيئا، أن ينقذ ما تبقى، وأن يطرق أبوابا ويكسر صمتا، ويحرر حركة ويسمع أصواتا (..) فأحس بأنه يخونها لو توقف، لذلك وضع يده على سترته المعلقة وخرج». خرج عن ملاذه الآمن ليواجه تمزقه الداخلي… ينضاف إلى ما سبق أن العزلة الموقوتة كنص قصصي قصير يكشف عن الدور الإيجابي للمرأة في مشاريع التغيير السياسية، فالمرأة هنا ليست موضوعا أو حريما سياسيا أو ربة خدر، فهي مناضلة جسورة لديها القدرة على الفعل وتحاول الإسهام مع الرجل في صياغة المعنى الاجتماعي العام لشعبها وأمتها، كما يلاحظ على النص أنه لم يخل من مفردات الهتاف التعبوي التي ربما أملتها طبيعته كنص ملتزم.
من خلال توظيفها لضمير المتكلم «أنا» وتوظيف لغة الحوار، تمضي مليكة مستظرف لتستعرض إحدى بنى المجتمع المنغلقة على ذاتها بالتقاطها من قلب هذه البنية عنصر «العرافة « فالشخصية المحورية في «امرأة عاشقة.. امرأة مهزومة» (http://www.doroob.com/?p=1746)، لا تكفيها معاركها مع الإنس، فالعرافة تزعم أن الجن هو ما يسكن جسدها، وأن الجن هو الذي جعل حبيبها يهرب منها «بيني وبينه سحر يجعله يهرب مني، أخبرتني أن جنيا ‘أسود’ يدعى ميمون يسكن في جسدي»، وهكذا تمضي لتقيم الطقوس المطلوبة «سيجارة كازا، ذبيحة كبيرة، ليلة كناوية وزيارة الولي بويا بوعمر لطرد ميمون الأسود»، ونلاحظ هنا لما للاسم (ميمون ) وللون (الأسود) من دلالة مركزية في النظام الدلالي العربي، فاسم «ميمون» غالبا ما يطلق على الجن والعبيد، كما أن اللون «الأسود» رمز للشر، ولكلّ ما هو بغيض.. نلاحظ أيضا أن الليلة الكناوية تقابل في السودان «الزار» كملاذ للتفريغ النفسي بموافقة المجتمع، إذ يباح فيه ما لا تتقبله الثقافة الشعبية السائدة: كتدخين النساء وما إلى ذلك من عوامل تسهم في طرد الجن، بخلق المناخ المناسب لعملية الطرد كما يعتقد.. وفي الواقع مثل هذه الليالي ليست سوى ملاذ مشروع صكته الثقافة الشعبية المتخلفة وأعطته فرمانات المشروعية لإفراغ الحبيس والمكبوت.. توظف مليكة أيضا رمزية «القطة» والقط كإشارة لعالم الجن، كعالم مواز للعلاقة بين بطل القصة وبطلتها من جهة، وبطلة القصة وجنها الأسود ميمون من جهة أخرى.. وللقط رمزية أسطورية فهو حارس عالم أو مملكة الموتى في الديانات النوبية القديمة، وفي الواقع حياة بطلة القصة تنتمي لعالم الموتى أكثر مما تنتمي لعالم الأحياء «هو لا يحب نعيمة سميح وأم كلثوم، يقول إن هذه النوعية من الأغاني تجعله يتثاءب.. لا نخرج إلا حين يريد هو.. لا نرتاد سوى الأماكن التي يرتاح لها هو.. كيَّف حياتي حسب رغباته وأهوائه ومزاجه.. رغباتي أنا.. أهوائي أنا لا يهم». هذه البطلة ذات الوجود الملغى في الواقع هي تعبير عن صورة المرأة المقهورة بما صاغته عليها الأبنية الاجتماعية المتخلفة، فهي امرأة حبيسة أنساق مغلقة على قيم ومعتقدات بالية، تشدّها إلى الخلف وتضعها دوما في موقع المستجدي، حتى عندما تحب. فقيم الحب كمشاركة وتفهّم ومسؤولية تتحطم أمام حواجز الثقافة السائدة التي تشتغل بناها في سطوة الإرث الذكوري، كسلطة أنانية مستبدة عتيقة، فحتى الدين كممارسة يتبدى في مثل هذه البنى المتفسخة مجرد ممارسة شكلية وزائفة تفتقر لجوهر الدين الأصيل.. ففي مثل هذه الأبنية تبدو المرأة مقهورة ومنتهكة إلى أقصى حد، عاجزة قلقة مترددة مهزومة، كما أشارت بنمسعود في سياق مختلف «زوجي الأول هرب تاركا لي خازوقا، وهذا الذي أحببته هرب وترك لي خازوقا آخر»، فهل تتمكن بطلة هذه القصة من الانتصار لذاتها والتحرر من هذا المأزق الوجودي الكبير.. تطرح مليكة من خلال بطلتها المهمشة أسئلة اجتماعية جريئة تؤشر على خصوصية الذات الأنثوية إزاء كل ما يحاصرها من ضغوطات وتعسّف يشتغل في اليومي والحميمي والهاجسي الاجتماعي.
لوحة: أمل بشير
القهر والمقاومة في الراتب لنجاة السرار يمثل اختيار «الراتب» (http://najat60.jeeran.com/) كعنوان دال على مصدر الدخل، بما يمنحه من استقلالية للمرأة في هذا النص الذي يتحول فيه الراتب إلى أداة قهر إضافية، فالزوج المستبد يخير الزوجة المقهورة بين راتبها والطلاق، أو البقاء في البيت تحت رحمته، أو الاستمرار في العمل لكن بشرط إعطائه كل راتبها، بمعنى تجريدها من هامش الاستقلالية التي يمثلها الراتب بالنسبة إليها، فتصبح كامرأة عاملة مفرغة من مضمون ما يمنحه العمل من إحساس بالاستقلالية والتحرر… تعالج نجاة السرار هنا إذن من خلال قصتها «الراتب» محاولات الزوج المستبد في النيل من مكتسبات المرأة بأساليب مختلفة كحرمانها من هذه المكتسبات، أو إفراغ هذه المكتسبات من مضمونها بتجريد المرأة من مردود العمل، بحيث يصبح عملها أشبه بحالة عبودية مقننة، هذه الزوجة التعسة التي تعاني سوء المعاملة، يفيض بها الكيل فتقرر الحفاظ على مكتسباتها، والتمرد على الوضع المأساوي الذي فرضه عليها زوجها «يجذب شعري يصفعني.. يعيد الصفعة على الخد الأيسر.. أقاوم الألم، الصفعة الثانية كانت أقسى.. كنت لا أزال نفساء وقد انصرمت عطلة أمومتي سريعا». تحاول هذه المرأة المقهورة برغبة مديرها فيها، والمحاصرة بالعنف الزوجي والطلبات الأسرية ومطالب الأهل الإفلات من كل هذه الإكراهات البغيضة، وكعادة السرار في قصصها تهتم بإبراز المشكل الاجتماعي، إذ تكشف في هذه القصة عن صورة مشوهة للرجل، إذ يتبدى خلالها هذا الزوج أشبه بالحيوان الهائج، فهي قصة لغتها مشحونة بالعنف الذكوري المستمد من مفاهيم خاطئة «للقوامة» التي لا تحدها هنا أيّ شروط، هكذا يتكشف المجتمع بأكمله كتعبير فادح عن أزمة الضمير الإنساني خلال هذه المنطقة المعتمة التي تراكمت عليها أغبرة الثقافة التقليدية في نظرتها للمرأة. فالزواج هنا لا يمثل مملكة دافئة أو ملاذا آمنا وحميما للمرأة، إذ يتبدى كجحيم لا يطاق، لا تتحرر منه هذه الزوجة سوى بالطلاق «أنت طالق طالق طالق.. أحسست حين أطلق سراح الحروف واستقرت في مسامعي.. الكلمة قد أصبحت خبرا قوض عالما وأذن بتأسيس عالم آخر»… من خلال ضمير المتكلم أنا في سرد متواصل ومتصل يقطعه الحوار الداخلي، في تساؤلات قصيرة متوترة يتبدى المكان: عشّ الزوجية كفضاء جحيمي، يتخلله زمن نفسي ممتد يؤرخ للقهر ومحاولات الإفلات من هذا القهر.
عائشة بورجيلة الحلم كبديل للمجابهة
في قصتها «لنرسو على شاطئ الحلم» (http://www.syrianstory.com/a.porgela.htm) وبتوظيفها لضمير المخاطب «أنت» تعلن عائشة تهربها من سؤل خصوصية السرد الأنثوي كتعبير عن ذاتية الذات الأنثوية، في إحالة أساسية منا للمفهوم البوزياني لعمق وتجذر ضمير الأنا في الكتابة النسائية. في نص «لنرسو على شاطئ الحلم « تحكي الراوية عن حلم أديبة ناشئة غارقة في تخيلاتها ككاتبة «مسابقة أدبية تلفت انتباهك.. الجائزة آلاف الدولارات… تجيبينهم بسخرية مرة بأنك ستفوزين وتلتقين عمالقة الأدب». فهذه القصة المكتوبة بلغة الخواطر العذبة، ترحل بنا على أجنحة الحلم، فهي تحلم بكل كيانها.. حتى قلبها ذاته يحلم بمن ينفض الغبار عن غرفاته وشرفاته.
وفي نصها «ألوان» تنتقل بنا لإعادة طرح موضوع قديم متجدد ألا وهو المرأة كموضوع لأذى الرجل.. فالراوية تتداعى «تجعلني أتصدى لكل الغاضبين، وغيرهم ممن قدر لي أن أكون ضحيتهم» فهذه العبارة مفتاحية بالنسبة إلى نص «ألوان» فالراوي/الأنثى التي أدمنت مناجاة حبيبها الكامن في القلب، أو في الواقع.. حيث أن شخصية هذا الحبيب وموقفه غير محددين، وهو أشبه باستيهامي عابر كضيوف ماركيز في نصوصه الكبرى.. عندما تجد هذا الحبيب يحاصر العوازل حبهما، ويتواطأ الواقع الاقتصادي الضاغط عليهما «ولأن الغيورين في كل مكان وزمان… فسرعان ما تسرب الخبر.. تأججت المشاعر فانسابت كلمات من قبيل: دين سلف زمن صعب.. تفهمت أن كاهله مثقل جدا». في هذا النص تتداعى صورة المرأة كشخصية مستسلمة لقدر رهيب لا طاقة لها على مجابهته.
وفي نصها «وجهان» تغرق الراوية «ناظريها هناك في الغابة الممتدة حد النظر شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.. واحة طروب.. بساط رائع.. فوقه صفت أزهار حمراء، وردية، صفراء، بيضاء، بنفسجية في نظام بديع، تستمتع بأحلى نغم وتروي أجمل قصيد.. تحاور الأطيار والفراشات وتتلذذ بالرحيق الذي يمتصه النحل هنا وهناك، ويسيل لعابها عندما يقع على ثمار أشجار الأركان المنتصبة بشموخ»، عند عائشة السرد ليس مجرد حكاية تكتنفها عقدتها وتنطوي على حلها، أو بنى حكائية صغيرة ترتص إلى جانب البنية الكبيرة كما في الروايات، فهو مزيح ينهض في الإشباع بالوصف لما حولنا من جمال، غالبا لا تلحظه عيوننا العابرة المرهقة الملاحقة والمختطفة من قبل إيقاع الحياة المعاصرة السريع التي اعتادت الزحام والقبح المديني المعنوي والمادي، فاستحالت الطبيعة إلى ما هو أشبه بالحلم لهذه العين التي أضناها الحنين إلى بيئات الشعر الغامضة التي اندثرت تحت وطء الرقميات وأرماث الإلكترونيات. فالراوية في هذا النص تنتمي للطبيعة وتتفاعل معها فلا حقيقة للذات الإنسانية إلا في الطبيعة التي تكسر قناع هذا النص لتسترد في عصرنا الراهن براءته المفقودة « كسرت المرآة التي أتعبها السؤال.. أين تكمن الحقيقة».