نازك الملائكة والشعر الأنثوي
لقد ظلّت الثّقافة الذّكوريّة هي المقدّس السّائد في كل المجتمعات دون تحديد، ولم تحصل المرأة إلّا على الهامش الضّيّق، الذي جعلها تحت وصاية الذّكر وداخل شرنقته، ولم يمنحها نفسا لتعبّر عن ذاتها، ولا أن تقول ما تريد أن تقوله، فعاشت كبتا طويلاً انعكس سلبا على ذاتها، ولعلّ هذا ما عبّرت عنه الناقدة ألين شوالتر بقولها «المرأة قد دربت طويلاً على كراهية ذاتها وإعلاء قيمة الذّكور».
ولما دخلت عالم المرأة الكتابة، وأدلت بدلوها فيه، فقد وجدت نفسها أمام حائط لّغة. بما أنّ اللّغة هي وسيلة المبدعة لتخطي السّائد الذّكوري-الفحل، فكيف يمكن أن يحدث ذلك إذا كانت هذه اللّغة التي ستكتب بها في حد ذاتها من صُنع الرّجل..؟، فالمعجم اللّغويّ يضع المرأة دائماً في الصف الثاني ويلخص هذا بيير داكو في كتابه «المرأة: بحث في سيكولوجية الأعماق، ص. 79» قائلا إن «اللّغة الرّاهنة ذات الأساس المذكر، لا تتيح للمرأة أن تحدّد موقعها، ولا أن تصف نفسها من حيث هي امرأة». وفي هذا السياق نتساءل: هل نجحت الشاعرة العراقية المعروفة نازك الملائكة في تأنيث القصيدة وتجاوز عقبة الفحولة الذكورية كمضمون وكقالب موسيقي بوعي أو دون وعي..؟ وماذا يقول بعض الشعراء والنقاد الذين عاصروها عن تجربتها هذه؟
بادئ ذي بدء نجد النّاقد والشّاعر الرّاحل توفيق صايغ ينتقد البعد الذكوري في شعر نازك الملائكة وذلك في كتابه «نازك الملائكة/ طريدة المتاهة والصوت المزدوج» الصَّادر عن دار الجمل، «لماذا الرقيق، وأبولو رمز الجمال الرجولي؟». لقد ورد هذا النقد الذي صاغه في شكل سؤال في تعليق له على قصيدتها «يوتوبيا الضائعة» التي تقول فيها:
إلى ذلك الأفق الأزليّ
وحيث يعيش أبولو الرّقيق.
(ديوان نازك الملائكة، المجلد 2، ص: 42).
وفي الحقيقة فإن السؤال الذي ينبغي طرحه في هذا السياق هو: هل استطاعت الشاعرات المبدعات في المشهد الشعري العربي، ومن بينهنَ الشاعرة نازك الملائكة، أن ينسلخن عن مضامين، وأشكال التراث الشعري الذكوري؟ أم أن الشّعر «شيطانه ذكر» كما يتغنى بذلك الشاعر الفرزدق. كما ذكر كل من الدارسين أبو نجم العجلي، وجمل بازل. من المعروف في التقاليد الشعرية العربية أنه ينظر إلى الشعر على أنه كان فحلاً، وأنه ارتبط بالرّجال دائماً، وأنه كان من الصّعب على المرأة الدخول إلى مؤسّسة الفحول. فالشاعر الفرزدق قد قال ذات مرّة ساخراً في امرأة قالت شعراً «إذا صاحت الدّجاجة صياح الدّيك فاذبحوها». إن مثل هذا الرأي الصادر من هذا الشاعر قد ساهم في جعل كل من يُخالف هذا النسق الطاغي يجد نفسه في حرب ضروس، وتنبغي الإشارة هنا إلى أن الشاعر أبي تمام الذي كان يُمثّل «النسق المفتوح» ويرى أنّ الشّعر «ناقة ولود ومعطاء» قد عانى من هذا النوع من الحرب إذ قالوا عن شعره «إن كان هذا شعراً فما قالته العرب باطل».
لوحة: تانيا الكيالي
رغم هذا فإن المرأة العربية المبدعة قد اقتحمت هذه القلعة الحصينة الخاصة بالفحول وتمكنت من قرض الشعر، ولعلّ الاسم البارز تاريخياً هو الخنساء التي لم تكتب إلّا شعراً عن الذكور، الفحول حيث أمضت عمرها كله في رثاء رجلين مما جعل شعرها تابعاً للرجل، وبهذا الخصوص يقول عبدالله الغذامي في كتابه (تأنيث القصيدة والقارئ المختلف، ص: 32) «فالخنساء وصويحباتها لسن إلّا تعزيزاً للمعنى الفحولي للشعر»، وهذا يعني أن الخنساء اسم أنثوي يكتب شعراً فحولياً، بمعنى أنّها لم تحدث اختراقا نوعيا جديدا للثقافة الذكورية، وهكذا استمر شّعر المرأة العربية مطعّماً بالفحولة على مدى خمسة عشر قرناً منذ الخنساء، إلى أن جاء صوت الشاعرة نازك الملائكة العراقية في سنة 1947 بتفعيل نموذج الشعر الحر. في هذا الشأن يرى عبدالله الغذامي أنّ نازك الملائكة قد قامت بقلب موازين الخليل وكسر عمود الشّعر، حيث كانت قصيدتها «الكوليرا» أول قصيدة من الشعر الحر نشرت في مجلة «العروبة» اللبنانية عام 1947. عن هذه القصيدة تقول نازك الملائكة نفسها في كتابها (قضايا الشعر المعاصر، ص:23) «كانت أول قصيدة حرة الوزن تنشر هي قصيدتي المعنونة (الكوليرا)» وتضيف في نفس السّياق مبرزة «وفي النصف الثّاني من الشّهر نفسه صدر في بغداد ديوان بدر شاكر السياب أزهار ذابلة وفيه قصيدة حرة الوزن له من بحر الرّمل عنوانها (هل كان حبا)» (نفسه، ص: 24).
إن السّؤال الذي ينبغي طرحه الآن هو: ما هو الجديد الذي جاءت به نازك الملائكة حتى جعلت من النّاقد السّعودي المعروف عبدالله الغذامي يُخصّص لها كتابا كاملا وهو «تأنيث القصيدة والقارئ المختلف».. وهل كانت نازك الملائكة سّباقة في التّجديد فعلا..؟ فالغذامي يقول بأنّها «فتاة يافعة -يقصد نازك الملائكة- تجرأت على عمود الفحول وعلى نظام لغتهم» (ص. 4). من الواضح هنا أن الغذامي يقصد هنا ثورتها على نظام اللّغة الشّعريّة السّائد. وطبعاً فكلنا يعرف قراءات الغذامي السّلفيّة، فهو يرى أنّ شعر أدونيس فحولي، ورجعي وتقليدي، ويعلل هذا بأن اسم أدونيس وثني لأنّه اسم الإلهة الإغريقيّة، بينما نسي أنّ اسم نازك – إن كان عربياً- «يُحيل إلى دلالات ذكورية بارزة. إن (النّزك)، كما يذكر ابن منظور، هو ذكر الورل والضب» (عبدالله الغذامي والممارسة النّقديّة والثّقافيّة، مجموعة من المؤلفين، ص: 119). وهنا نتساءل: كيف تجرأت نازك على هتك نظام لغة الفحول- كما يرى الغذامي- دون أن تتفطن إلى اسمها الذي يحمل دلالات ذكورية كما أشرنا سابقا؟
لاشك أن نازك الملائكة قد قدمت الكثير للشعر الحر، كشاعرة، ومنظرة، وكصاحبة فكر ناضج، إلّا أنّ ما ذهب إليه الغذامي في كتابه المذكور واعتبار نازك صاحبة الرّيادة في «الشّعر الحر»، هو في حدَ ذاته قضية كانت ولا تزال محل جدل واختلاف حيث هناك من يرى أنّ نازك الملائكة لم تكن السّباقة إلى ذلك. لقد كانت نازك الملائكة «من أوائل من ردَ على دعاة ‘قصيدة النّثر’ التي تبنتها مجلة ‘شعر’ واعتبرتها بدعة غريبة»، ومن جهته فقد شكَك أدونيس في حداثتها حين كتب «بيان الحداثة» حيث يرى فيه أنّ «في شعر أبي تمام حساسية حديثة ورؤية فنية حديثة لا تتوفران عند نازك الملائكة». وفي كتابه «ها أنت أيّها الوقت، ص: 45» يتحدّث عنها أدونيس ساخراً من ادّعائها أنها الرائدة الأولى التي كتبت الشعر الحر، وأنها أول من أطلق حركة التجديد. أما بدر شاكر السّياب فيعترف بدور نازك الملائكة، وأن ما قاموا به قد مهد له الشعراء الأندلسيون الذين ثاروا على القوافي والأوزان، وثم شعراء المهجر الذين مهدوا الطّريق له ولنازك الملائكة ومن معهما. وبهذا الخصوص يقول السياب، الذي اقتبسه الدارس حسن الغرفي في كتابه (السياب النثري، ص: 105) ما يلي «إنّنا فعلنا شيئاً شبيها إلى حد ما بما فعله الشّعراء الأندلسيون حين كتبوا الموشحات، كانت الموشحات الخطوة الأولى إلى الأمام، وقمنا نحن بالخطوة الثانية، بعد أن مهد الطريق لنا شعراء المهجر». على ضوء شهادة الشاعر السياب نفهم أن ما قامت به نازك، ليس سوى خطوة ثانية مكملة للأولى التي قام بها الأندلسيون وشعراء المهجر ومن سبقهم، أي أنّها قامت بتغيير تسريحة شعر الرّأس الذكوري، دون أن تُقلعه قلعاً، وتُحلّ مكانه بدائل تتناسب معها كأنثى ثائرة على النّسق الذّكوري كما يدّعي الغذامي. وبعبارة أخرى فإن نازك الملائكة لم تقم بإحداث رجة عنيفة لزلزلة المضمون الذكوري للقصيدة العربية التقليدية.
إنّنا هنا لا نُنكر أنّ نازك قد قدّمت الإضافة، وهذا لا مناص منه، ولكن لا يُمكننا أن نربط حركة التّجديد بها وحدها لأن بدايات نهضة الشعر الحر تعود تاريخيا إلى ما قبل نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبدالوهاب البيَاتي ومن عاصرهم أو تلاهم. إن ربط الشعر الحر بهؤلاء وحدهم يُعدّ إنكاراً لفضل من سبقهم مثل أبي تمام، والأندلسيين، وشعراء المهجر الذين مهدوا لهم الطّريق.