أُنْشُودَةُ يُوسُفْ
هَلْ أَعُودُ مِنَ الْمَوتِ لِأَرْوِيَ قِصَّتِي
لِمَنْ هَلَكْ،
أَمْ أَذْهَبُ إِلَى الْمَوتِ لِيَرْوِيَ الْمَوتُ، عَلى طَلَلٍ، قِصَّتِي؟
أُنَادِيكَ مِنْ حَافَّةِ الْأَرْضِ،
مِنَ الْعَالَمِ بَعْدَ الْعَالَمِ،
أُنَادِيكَ،
مِنْ فَرَاغِ الْحَقِيقَةِ، وَفَراغِ الْأُكْذُوبَةِ،
مِنْ صَعْقَةِ الْبَرْقِ الَّذِي تَحَطَّمَ فِي يَدَيَّ،
والْغَابَةِ الَّتِي آحْتَرَقَتْ.
أَنَا أَنْتَ يَا حُطَامِي،
إكْتَشَفْتُ الْحَقِيقَةَ
بَعْدَ لَأْيٍّ،
أَنَا أَنْتَ،
أَنَا إِخْوَتِي الْهَالِكِينَ،
وَأَنَا الْمَنْفِيُّ مِنَ الْحِكَايَةِ
بِلا قَمْحٍ،
وَلَا كَيْلٍ،
وَقَمِيصِيَ مُبَلَّلٌ بِدَمِي وَدَمِ الْهَالِكِينَ إِخْوَتِي.
***
مَشَيْتُ الْأَرْضَ كُلَّهَا وَوَصَلْتُ الطَّرفَ الآخَرَ مِنَ اْلأَرْضِ وَلَمْ أَجِدْ زَمَنِيْ،
لَمْ أَجِدْ عَلَى الْجُرْفِ سِوَى ظِلِّيَ الشَّاهِق يَرْشَحُ دَمَاً،
والْهَاوِيَةُ تَصْرُخُ: أَنَا أُمُّكَ، يَا حَبِيبِي.
وَالْعَدَمُ
طَائِرٌ يَطْوِي سَمَاءً فِي كِتَابْ.
هَلْ أَعُودُ مِنَ الْمَوتِ،
أَمْ أَذْهَبُ إِلَى الْمَوتْ؟
وَكَمْ وجْهَاً لِي فِي الْمَوتِ
تُرِيدُونَ
لِتَتَعَرَّفُوا وَجْهِيَ الْغَرِيبِ فِي الْحُطَامْ؟
***
كَمِ اسْمَاً تُرِيدُونَ لِي؟
كَمْ صِيغَة لِلْموتِ
تكفي أَجَلي؟
كَمْ وَجْهَاً؟
وَكَمْ قِنَاعاً...؟
***
كَمْ مَرَّةً، يَا مُوتُ تَأْخُذُنِي
بالنَّصْلِ
مِنْ دُبُرٍ
لِأَنْهَضَ
مَرَّةً أُخْرَى
وَدَمِي الْمِهْرَاقُ يَنْظُرُنِي
وَلَا يَعْرِفُنِي
ثُمَّ تَقْتُلُنِي
وَلَا تَجِدُ السَّبِيلَ
إِلى خِتَامٍ لَائِقٍ بِجَرِيمَةِ الْقَتْلِ؟
***
لَمْ تَعُدْ بَينَنَا لُغَةٌ
ولَا تَرْجَمَةٌ عَنْ لُغَةٍ
وَلا إِشَارَةْ..
صَمَتَتْ بِينَنَا كُلُّ اللُّغَاتْ.
لوحة: فادي يازجي
***
قَالَ كِتَابٌ لِعَرَّافٍ يَقْرَأُ فِي كِتَابْ
أَرَى أَطْفَالاً فِي الْأَسِرَّةِ
نَائِمِينَ
وَأَيدِيهمُ الْمَرْبُوطةَ بالْحِبالِ
تَنْزِفُ
وَهُم لَا يَسْتِيقِظُونْ؛
أَطْفَالٌ بِأَقْنِعَةٍ ضَاحِكَةٍ وَنَشِيجٍ مُلَوَّنٍ..
يَسْتَبِقُونَ عَلَى الْمَرَايَا، فِي كِتَابٍ أَعْمَى لِيَصِلُوا إِلَى الطَّرفِ الآخَرَ مِنَ النَّهْر.
***
لَكِنَّنَا لَسْنَا هُنَا، لَمْ نَعُدْ هُنَا، أَبَداً
قَالَ الرَّبِيعُ
وَمَا ذَاكَ الَّذِي تَخَلَّفَ
لِيَسْتَطْلِعَ الْخَبَرَ
فِي بُسْتَانٍ
وَرَاءَ سُورٍ مُحَطَّمٍ فِي دِمَشْقَ
سِوى فَتَىً مَاتَ وَدَفَنَّاهُ فِي الْبَيتِ قَبْلَ مَائَةِ عَامْ.
***
أَمَّا وَقَدْ رَجَعَ واحِدٌ آخَرُ مِنْهُمْ لِيُغْلِقَ الْبَابَ
قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا فِي قِطِافِ التُّوتِ؛
فَتِلْكَ صُورَةٌ لَيسَ إِلَّا مِنْ شَريطٍ أَسْودَ صَامِتٍ فِي عُلْبَةٍ مُحْتَرِقَةْ.
***
أُخَلِّصُ ظِلِّيَ مِنْ جَسَدِيَ الْمُمَزَّقِ
وأَخْرُجُ مِنْ حُطَامِ نَشِيدِي
فَأَخَالُ أَنَّنِي فِي نُزْهَةٍ
عَلَى دَرَّاجَةٍ فِي صَيفٍ دِمَشْقيٍّ مَضَى، وَعَلَى عَتَبَةِ الْبَيتِ قَطَرَاتٌ مِنْ دَمِ طُفُولَتِي.
***
مَنْ أَنَا اليومَ
لَوْ لَمْ أَكُنْ يُوسُفَ الشَّامِ ولِيَ في كُلِّ شِبْرٍ مِنْ تُرابِ الشَّام جَبَلٌ وجُلْجُلَةٌ ومَريمةٌ تطوفُ الأرضَ بقميص يوسف.
مَنْ أَنَا اليومَ لَوْ لَمْ أَكُنْ يُوسُفَ الْغَرِيبَ فِي الصُّوَر..
مَنْ أَنَا وَمَنْ أَنْتَ، يَا قَاتِلِي
وَمَا فِي الْعَمَاءِ
مَرايَا
لِيَرَى الْقَاتِلُ وَجْهَهُ فِي وَجْهِ مَنْ قَتَلْ.
***
كَانَ ضِيَاءُ الْقَمَرِ يُطِيلُ قَامَاتِنَا فَتَسْبِقُنَا إِلَى الْمَشْفَى
وَتَسْبِقُنَا إِلَى الْبَيتِ
هُنَاكَ سَيُخِيطُونَ عُنُقُيَ بِإِبْرَةِ اللَّيلِ، وَيِعِيدُونَ يَدِي إِلَى كَتِفِيَ الْمُهَشَّمْ.
***
وَالآنَ أَمْشِيَ فِي دِمَشْقَ
وَوَرَائِيَ ظِلٌّ شَاهِقٌ وَفِي يَدِهِ فَأْسٌ.
***
قالتِ الشآمياتُ للريح: مَشَينَا الْأَرْضَ كُلَّهَا، وَبَلَغْنَا الْمَاوَرَاءَ
وَهَا نَحْنُ وَالْأَرْضُ مَا بَعْدَ كُلِّ أَرْضٍ، وَكُلِّ فِكْرَةٍ، وَكُلِّ سَمَاءْ.
لوحة: فادي يازجي
***
مَنْ أَنْتَ قَالَ ظِلُّ الْقَتِيلِ لِظِلِّ الْقَتِيلِ
عَلَى
بَابِ
جَيرُونَ:
أَنَا يُوسُفُ الشَّامِ، أَيْقُونَةُ الْمُسَافِرينَ إِلَى حَتْفِهِم
قَمَرُ الضَّائِعِينَ فِي حُطَامِ أَرْضٍ لَمْ تَعُدْ تُشْبِهُ الْأَرْضَ
وَسَمَاءٌ مُحَطَّمَةٌ عَلَى أَهْلِهَا
أَنَا يُوسُفُ مَا أَخَذَ الْبَحْرُ مِنْ تُرَابِ الشَّامِ، ومَا أَعْطَتِ الْعَاصِفَةُ،
يُوسُفُ مَا شَقَّقَتْ يَابِسَةٌ وآبْتَلَعَتْ صَفْحَةٌ فِي كِتَابْ.
***
ذَهَبَتُ إِلَى الْحِكَايَةِ، وَلَمْ أَجِدْ بَاباً،
فَخَرَجْتُ
وَوَجَدْتُ الْخَلْقَ فِي الطُّرُقَاتِ
قَامَاتٍ بِلا رُؤُوسْ..
وَفِي صُورَةٍ أُخْرَى..
جَبَابِرةٌ وَمُسُوخٌ يَطُوفُونَ بالرُّؤُوسِ فِي سِلَالٍ
وَيُدَحْرِجُونَهَا فِي الْهَاوِيَاتْ
طَوابِيرٌ مِنَ الْأَسْرَى عَلَى صِراطٍ مِنَ الْمَرَايَا وَأَقْدَامُهُمُ الْمُجَرَّحَةُ تَزْعَقُ...
شُقُوقُ الْأَرْضِ تَرْتَجِفُ،
وَالْجُذُورُ تَتَوَجَّعُ
***
ذَهَبْتُ إِلَى الْحِكَايَةِ وَلَمْ أَجِدْ نَفْسِي،
فَتَحْتُ أَبْوَابَاً وَأَغْلَقْتُ أَبْوَابَاً،
وَوَرَاءَ كُلِّ فِكْرَةٍ
أَوْ صَرْخَةٍ
تُهْتُ فِي حُطَامِ الْأَبْوَابِ وَصُرَاخِ الْمَرَايَا
وَهَا أَنَا الْآنَ فِي عَرَاءٍ وَمِنْ حَوْلِيَ جُنُودٌ لَهُمْ رُؤُوسُ أَغْنَامٍ وَفِي أَيْدِيهُمُ حِجَارَةً يَسْحَقُونَ بِهَا أَجْنِحَةً تَضْطَرِبُ.
***
الْبُيُوتُ تَتَدَاعَي وَتَهْوِي هِيَ وَالْأَصْوَاتُ
والنَّشِيجُ
يَمْلأُ الْهَاوِيَةْ
***
مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ الْفَرَاغُ
أَنَا يُوسُفُ خَاتِمَتِي وَقَدْ سَبَقَتْ خُطْوَتِي،
والنِّصَالُ الَّتِي أَدْمَتِ الْكَلِمَاتِ فِي الْقَامُوسْ.
***
يُوسُفُ الْمَرْأَة الَّتِي صَمَتَتْ فِي الْحِكَايَةِ، وَصَمَتَتْ بَعْدَ الْحِكَايَةِ، وَلَمْ تَتَكَلَّمْ
يُوسُفُ الْقِنَاع الَّذِي رَأَى الْجَمَالَ وَقَدْ صَارَ هَشِيمَاً فِي الصِّوَرْ،
لَا أَبَ لِيَ
لِأُنَادِي، مِنْ وَحْشَةِ الْأَرْضِ: «أَبِي»
أَقِفُ فِي عَرَاءِ مَا بَعْدَ دَمِي
وَمَعِي أُخْوَتِي الهَالِكُونْ.
***
يُطِلُّ الْقَتِيلُ عَلَى أَمْسِهِ
لِيَمْلأَ عَيْنَيْهِ مِنْ رَمْسِهِ:
أَأَكُونُ الْمَسِيحَ
وَقَاتِلَهُ
أَمْ أَنَا طَلَلٌ
فِي سَرابٍ..
أَأَكُونُ خَشَبَ الصَّلْبِ
لوحة: فادي يازجي
وَالْغَجَرِيَ الَّذِي جَلَبَ الْمَسَامِيرَ مِنَ الْمَدِينَةِ
والسَّمَاءَ الَّتِي هَرَبَتْ فِي الْحُقُولِ...
وَشَهْقَةَ الْعَذْرَاءِ فِي رَنِينِ الْجُلْجُلَة؟
***
أَنَا يُوسُفُ أُغْنِيَتِي
لَا أَبَ لِيْ وَلَا إِخْوَةٌ ولَا قَمْحٌ فِي كِتَابٍ
لَا دِلَاءٌ
وَلَا سَيَّارَةٌ يَنْحَنُونَ عَلَى بِئْرِ دَمِي
لِكِنَّنِي يُوسُفُ الْمَنْفِيُّ مِنْ بِئْرٍ إِلَى بِئْرٍ وَدَمِي يَرْشَحُ مِنْ كِتَابِ اللهْ.
***
أَنَا يُوسُفُ فِكْرَتِي وَقَدْ صُرِعَتْ،
لَا حِكَايةَ لِي فِي كِتَابٍ
وَلَا حَتَّى دَمَ كَذِبٍ فِي قَمِيصٍ،
لَكِنَّنِي الصَّاعِقَةُ الَّتِي احْتَرَقَت عِنْدَ بَابِ الْكَهْفِ،
الضَّوءُ الْمَرْجُومُ بِالْحِجَارةِ،
والصَّخْرَةُ الْمَشْطُورَةُ فِي عُنُقِ الْجَبَلْ.
***
فِي الْغُرُوبِ لَمَّا تَصِيرُ السَّمَاءُ لَوحَاً مِنَ التُّوتْيَاءِ
يَحْمِلُهُ عَلَى ظُهُورِهِمْ فِتْيَةٌ مُجَرَّحُونَ بِلَا وُجُوهٍ
وَلِسَانَاً مِنَ النَّارِ يَلْتَهِمُ الْحُقُولَ
يَنْحَنِي الْأَطْفَالُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَتَشَمَّمُونَ تُرَابَ دَمِيْ
أَجْنِحَتُهُمْ مَقْصُوصَةٌ
وَأَرْجُلُهُمُ الْمُحْتَرِقَةِ مُلَطَّخَةً بِالرِّيَاشْ.
***
هَلْ أَعُودُ مِنَ الْمَوتِ لِأَرْوِيَ قِصَّتِي
لِمَنْ هَلَكْ؟
أَمْ أَذْهَبُ إِلَى الْمَوتِ لِيَرْوِيَ الْمَوتُ عَلَى طَلَلٍ قِصَّتِيْ؟
***
كَمْ آلةً لِلْمَوتِ تُرِيدُونَ أَنْ تُجَرِّبُوا فِي جَسَدِي لِتَكْتَشِفُوا جَسَدِي؟
كَمْ مَرَّةً تُرِيدُونَ أَنْ تُرْسِلُونِي إِلَى حِكَايَتِي
لِتَتَأَكَّدُوا مِنْ أَنَّنِي يُوسُفُ الْبِئْرِ وَالْقَمِيصِ وَالْأَجْنِحَةِ الَّتِي يَحْرُسُهَا الرَّمَادُ؟
كَمْ قَبْراً تُرِيدُونَ فِي الْأَرْضِ وَكَمْ جُرْحَاً فِي الْمَرَايَا
لِتَطَالُوا بِالسَّكَاكِينِ وَجْهِيَ الْمُسَافِرَ فِي الزَّمَنْ؟
***
كَمْ فَتَىً فِي جَنَازَةٍ سَوفَ تُرْسِلُونَ إِلَى الْقِيَامَةِ لِيَصِيرَ لِيْ وَجْهِيَ الْجَمِيلَ فِي الْقِيَامَةِ، وَيَطِيبَ لِلْأُمَمِ أَنْ تَرْوِيَ فِي صَحَائِفِ الْأُمَمِ قِصَّتِي؟
أَنَا يُوسُفُ الشَّآمِيُّ؛ الصَّفْحَةُ الْأَخِيرَةُ فِي الْكِتَابْ
ذَهَبْتُ إِلَى الْمَوتِ لِأَسْتَعِيدَ مِنَ الْمَوتِ صُورَتِي وَكِتَابِي.
أَنَا يُوسُفُ النَّهْرُ، وَالْكِتَابُ شِآمِيَّاً، هَامَتِي الْمُكَلَّلَةُ بِالشَّوكِ فِكْرَتِي.. وَأَنَا بَابُ الْمَدِينَةِ وَلِسَانُ السَّابِلَةِ. بِيَدَيَّ الْمُجَرَّحَتِينِ رَفَعْتُ الْحَجَرَ وَعَمَّرْتُ الزَّمَنَ فِي الْقَوسِ والْقَنْطَرةْ. وَأَنَا نِهَايَةُ قِصَّةٍ لَا تَنْتَهِي.
لندن في 10-12-2016