ثلاث ورقات عراقية
الورقة الأولى
عامان ونصف العام في موسكو
في الفترة التي أعقبت ثورة تموز عام 1958، انقطع الأمل بإعادة العلاقات مع ذوي القربى في إيران. وانهمك جيلنا في الأحداث العاصفة التي أعقبت الثورة. ففي عام 1959 تخرجت في كلية العلوم-جامعة بغداد، الدورة الثالثة في قسم الجيولوجيا. وحصلت على بعثة حكومية للدراسة في الاتحاد السوفييتي لنيل شهادة الدكتوراه في عام 1960.
وبعد إكمال جميع إجراءات السفر زارنا في البيت الشهيد سلام عادل، سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، والمرحوم عامر عبدالله عضو المكتب السياسي آنذاك، اللذان كانا يعلمان بالطبع بنيتي في إكمال الدراسة، وطلبا منّي التريث في السفر الآن من أجل إكمال الترتيبات للسفر إلى الاتحاد السوفييتي أيضاً ولكن للدراسة في أكاديمية العلوم الاجتماعية السوفييتية، أي المدرسة الحزبية، وذلك لدراسة العلوم السياسية والاقتصاد والفلسفة. وما كان لي أن أرفض قرار الحزب حيث كنت آنذاك مسؤول التنظيم الطلابي لمدينة بغداد. فوجئ الأهل برفضي للبعثة الدراسية، وهم الذين كانوا يحلمون بأن يحصل ابنهم على شهادة الدكتوراه. ولكن ما كان بإمكانهم أن يثنوني عن توجهي للدراسة الحزبية. وسرعان ما بادرت إلى إرجاع المبلغ الذي قررته وزارة التربية والتعليم للسفر، وإلغاء عقد البعثة تمهيداً للسفر إلى الاتحاد السوفييتي ولكن لهدف آخر.
إلاّ أن خطة السفر كادت أن تنهار كلياً بسبب حادث لم يكن في الحسبان. ففي تلك الأيام اندلعت الإضرابات العمالية في مدينة بغداد، وخاصة في مجمع مصانع إنتاج السيجاير. وفي عشية السفر كُلفت من قبل الحزب بمتابعة إضراب العمال الذي اندلع في شارع الوثبة وفي محلة صبابيغ الآل والعوينه، لإيصال المدد إلى العمال المضربين والمعتصمين. لقد كان العمال متحصنين في معملهم “معمل سيجاير غازي” مقابل المدرسة الثانوية الجعفرية في شارع الوثبة. وكلفنا، باسم مشتاق وأنا، بمتابعة وضع المضربين وإيصال المعونات إليهم وتنظيم الصلة معهم. واضطررنا إلى التسلل عبر “عگد النصارى” الذي جرى تطويقه من قبل الشرطة وأفراد الجيش. وفي لحظة اختراقنا للطوق، هاجم المحلة أفراد من الشرطة والجيش وشرعوا باعتقال كل من كان هناك أو من كان يمرّ بالأزقة الضيقة المحيطة، واعتقلنا نحن أيضاً. ولكن على حين غرة طوّقنا جندي من المفرزة المهاجمة وبدأ الحديث معنا باحترام ونحن لا نعرفه. تبين أن هذا الشخص يعرف هويتنا وأراد حمايتنا من الاعتقال، وأفهم ضابط القوة المهاجمة أننا طارئين أو من الأمن أو ما شاكل ذلك ليطلقوا سراحنا. وأوصلنا هذا الجندي النبيل إلى زقاق يؤدي إلى شارع الرشيد وهكذا نجونا من الاعتقال.
على أيّ حال رحت على عجل أستعد للسفر الذي سوف يتم بعد يوم فقط. وتطوعت الأخت العزيزة سعاد حبه كعادتها في مرافقتي إلى زقاق “تحت التكية” قرب الشورجة لشراء معطف سميك “يليق” ببرد موسكو الخيالي من سوق “اللنگات”، إضافة إلى ما سوف أحتاجه من ملابس دافئة في هذا البلد الغريب علينا بجوّه وتقاليده؛ أي الاتحاد السوفييتي. ومع الاستعداد بدأت أدشّن، وبدون أن أعلم، تغييراً في مسيرة حياتي والذي قربني لاحقاً دون أن أتوقع ذلك من إيران وشعبها وثقافتها من ناحية، ومن ناحية أخرى استبداد وجبروت حكامها كما سنرى في تطور الأحداث اللاحقة.
في خريف عام 1960، سافرت بالطائرة إلى بيروت وللمرة الأولى بهدف التوجه إلى الاتحاد السوفييتي. وكانت بيروت آنذاك ملاذاً لأنصار العهد الملكي الذين غادروا البلاد أو فصلوا من وظائفهم في السفارات العراقية في الخارج ومن بينهم صهري وزوج أختي والوزير السابق في العهد الملكي المرحوم عبدالرزاق الأزري، وخالي الأصغر المرحوم محمد جواد الصفار الذي كان يشغل منصب القنصل العراقي في بيروت وفصل من السلك الدبلوماسي بعد الثورة. بقيت في ضيافة خالي لفترة قصيرة في بيته في حيّ المزرعة دون أن يعرف عن وجهتي. بالطبع عرفت أختي العزيزة المرحومة شعاع حبه بوجودي، ودعتني لزيارتها في شقتها المطلة على البحر الأبيض المتوسط في منطقة الروشة. وما أن دخلت البيت حتى وجدت حشداً من الأقارب والمعارف ممن تركوا العراق لعلاقتهم بالنظام الملكي. وبدأ الهجوم على هذا الشيوعي “والبعبع الخطير” القادم من العراق. واشتدت ألحان العزف على نغمة “السحل” و”الكفر والإلحاد والإباحية وحرق القرآن” و åمصادرة أموال الناسò، وكل ما كان يردده أحمد سعيد من إذاعة صوت العرب وكل ما تردده التيارات العراقية والعربية التي اتخذت موقفاً عدائياً من التطورات في البلاد. إن كل هذه النغمة ما كانت إلا محض ادعاءات مصطنعة ومفبركة عن أفعال لم أصادفها في العراق وتنطوي على الكثير من التزييف والتأليب فحسب. وحشرت في هذه “الوليمة” في وضع لا أحسد عليه. ولم يسعفني في هذا الجدال الحامي الوطيس إلاّ الأخت العزيزة شعاع التي كانت تبدي نحوي على الدوام آيات من التعاطف والود.
ذهبت متلصلصاً أكثر من مرة إلى السفارة السوفييتية علّني أحصل على تأشيرة الدخول السوفييتية، التي تقرر إرسالها إليّ في بيروت. وبعد مرور أكثر من شهرين حصلت على التأشيرة، وتوجهت بطائرة الخطوط الجوية الهندية إلى پراگ العاصمة التشيكية، حيث كانت پراگ المنفذ الوحيد للوصول إلى الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت. ووصلت موسكو على متن طائرة الخطوط الجوية السوفييتية عشية العام الجديد، عام 1961. ولم أصدق نفسي عند نزولي من الطائرة حيث وجدت كل شيء أبيضَ ناصعاً. فدرجة الحرارة كانت 25 مئوية تحت الصفر. وكدت أتجمد من شدة هذا البرد العجيب والرعب منه. وانتابني هاجس غريب وقلق وتساؤل عن مدى إمكانية العيش في هذه المدينة التي تغلفها قوالب الثلوج. لم أكن مستعداً من حيث الملابس، التي اقتصرت على المعطف الذي اشتريته من سوق “تحت التكية” في بغداد ولا يلبسه الموسكوفيون إلا في الربيع، وحذاء أنيق من صنع المرحوم الحاج عباس الكاهچي والذي لا ينفع في موسكو إلاّ لحضور المسارح والأوبرا. على أيّ حال تأقلمت لاحقاً بعد تزودي بمعطف روسي حقيقي أشبه باللحاف وقبعة من الفرو وجزمة مبطنة بالفرو لتقيني عذاب البرد الروسي الخيالي ومخاطره. باشرت بالدراسة بهمة عالية وشغف، واستطعت التحدث والقراءة والكتابة باللغة الروسية خلال وقت قصير مدفوعاً بالأمل والحلم الكبير الذي كنا نعيشه بعد ثورة تموز ببناء أرض الفراتين وتحديث مجتمعنا وإضفاء المحبة بين أبناء هذا الوادي بغض النظر عن انحدارهم، وترسيخ قيم العدالة والديمقراطية في بلادنا.
في تلك الفترة التي استمرت قرابة العامين ونصف العام، زاملت نخبة طيبة ورائعة ممن سبقوني في الدراسة أو قدموا بعدي بينهم الشهيد سلام عادل الذي أبعد عملياً من بغداد بقرار من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي بحجة الدراسة في موسكو إثر الخلافات التي عمّت الهيئة القيادية حول التعامل مع التعقيدات التي سادت البلاد بعد عام من الثورة، وبعد الاجتماع الصاخب في صيف عام 1959 والذي انعقد في بيتنا. وكان يسبقنا في الدراسة وعلى وشك إنهائها الشهيد محمد صالح العبلي، عضو المكتب السياسي، الذي التحق بالمدرسة قبل ثورة تموز عندما قدم إلى موسكو في عداد وفد الشبيبة إلى مهرجان موسكو للطلبة والشباب في عام 1957. كما سبقني في الدراسة الشهيد جمال الحيدري، عضو المكتب السياسي، الذي أنهى دراسته في المدرسة الحزبية العليا ثم استمر في الدراسة في أكاديمية العلوم الاجتماعية للحصول على درجة علمية رفيعة في العلوم الاجتماعية. كما سبقنا في الدراسة كل من بهاء الدين نوري وعزيز الحاج والمرحوم شريف الشيخ. والتحق بالمدرسة لاحقاً المرحوم ثابت العاني والمرحوم عامر عبدالله والمرحوم مهدي عبدالكريم والمرحومة الدكتورة نزيهة الدليمي، أول وزيرة في العراق والبلدان العربية، والسيدة ثمينة ناجي يوسف أرملة الشهيد سلام عادل والمرحوم صالح دگلة وزوجته إنعام العبايچي وعبدالسلام الناصري. وضمت المدرسة مستمعين آخرين من عراقيين وعرب وأجانب ومنهم وصال فرحة زوجة المرحوم خالد بكداش وأحمد مكيس من قادة الحزب الشيوعي السوري حيث كنا ندرس في فصل واحد، والسيدة أسماء الفيصل مترجمتنا الماهرة شقيقة يوسف الفيصل رئيس الحزب الشيوعي السوري الحالي وزوجة رياض الترك لاحقاً. هذا بالإضافة إلى مستمعين آخرين من لبنان والأردن والسودان والصومال وقبرص وبلدان أوربية وأميركية لاتينية. وكان يتلقى محاضرات في المدرسة أيضاً وبشكل مستقل كل من المرحوم خالد بكداش وألفارو كونيال الرسام البرتغالي وسكرتير الحزب الشيوعي البرتغالي الذي هرب لتوّه من سجن الفاشية البرتغالية والذي ربطته علاقات طيبة مع الشهيد سلام عادل. وكان يتلقى محاضرات بمفرده أمير خسروي “بابك” أحد كوادر حزب توده إيران وزوجته الفنزويلية. وكان بابك صديقا قديما للمرحوم مهدي عبدالكريم عندما كان يعمل في سكرتارية اتحاد الطلبة العالمي في براغ في بداية خمسينات القرن العشرين. وقد ترك خسروي في السنوات الأخيرة حزب توده وأسس حركة أخرى معارضة لتوده سماها “راه توده” في عقد الثمانينات من القرن الماضي وبعد الضربة التي وجهت إلى حزب توده إيران في عهد الخميني. لست هنا في معرض الحديث أو استذكار تلك الأيام الحافلة بالمثابرة والتزود بالمعرفة، فمجالها إن سمح الوقت في مكان آخر.
كانت تلك الأيام تمر علينا أيضاً والقلق يساورنا جميعاً بسبب تدهور ملحوظ في الأوضاع السياسية في الوطن، بما ينذر بمأساة حقيقية للبلاد. وفعلاً حصلت الكارثة في 8 شباط عام 1963. كنا نقضي أيام العطلة الشتوية في مدينة “پوشكينو” القريبة من موسكو. وكنا جالسين صباحاً، العزيزة أم إيمان والمرحوم عامر عبدالله، في صالة دار الراحة عندما لاحظنا السيدة وصال فرحة تهرول نحونا وعلى محيّاها أسارير الفرح، وتبشرنا بماذا؟ لقد أطيح بعبدالكريم قاسم.
وقع الخبر علينا كالصاعقة، وخلافاً لما توقعته السيدة المحترمة التي لم يكن لديها أيّ تصور عمّا يجري في العراق، تماماً كما يحدث الآن حيث لا يستطيع العديد من العرب تفسير الأحداث بعد الإطاحة بأخلاف ” فرسان” الموت في التاسع من نيسان 2003. وسرعان ما بادرت العزيزة أم إيمان إلى الاتصال بالمسؤولين في الدار لتأمين عودتنا إلى موسكو. كنا ندرك أن هذا الحدث يعد نكبة وطنية حقيقية وارتدادا مريعا يشمل القيم والثقافة وتنمية البلاد، واستباحة لكرامة المواطن العراقي وتشويها للعمل السياسي وعرقلة السعي نحو الديمقراطية. لقد أشاع هذا الارتداد العنف والقتل والتدمير بشكل ربما لم يشهده العراقيون منذ استباحة المغول لأرض السواد خلال العصور المظلمة. كانت هذه الكارثة ردة بكل المقاييس، زرعت “قيم” التوحش والتدمير والإرهاب وهوس عبادة السلاح في المجتمع العراقي، هذا الهوس الذي مازال إلى الآن ديدن المتطرفين من كل لون في العراق الجريح. وفقد العراقيون نخبة من خيرة أبناء العراق وبناته خلال الانقلاب المشين. واستمر هذا الحدث يولّد المزيد والمزيد من المضاعفات السلبية بشكل يحد من أيّ تطور إيجابي واستقرار للأوضاع في البلاد وحتى بعد الإطاحة بأخلاف إنقلابيي شباط في التاسع من نيسان عام 2003. لقد غيّر هذا الحدث الدموي أولويات المواطن العراقي ونمط حياته واهتماماته ومستقبله. فقد وجّه هذا الحدث الخطير أكبر ضربة لقوى الحداثة والتنوير والعقلانية في المجتمع العراقي، وأغرق العمل السياسي بالقوى الأكثر تخلفاً في المجتمع، وهو ما نراه اليوم. وسلب هذا الحدث المروّع بغداد، أمّ الدنيا ومهد حضارتنا، دورها الحضاري بعد أن حط فيها صعالكة التخلف، والآن ملثمو الظلامية من التكفيريين والإرهابيين القادمين من وراء الحدود وعبثيو الميليشيات من رموز التخلف والارتداد والذين يصبون جام غضبهم على عروس دجلة، وييتمون أطفالها، ويمحون بؤر التنوير فيها.
الورقة الثانية
التوجه نحو العاصمة الإيرانية طهران
قلبت نكبة شباط 1963 رأساً على عقب أولويات المواطن العراقي ونمط حياته واهتماماته ومستقبله. وكان لا بد أن يؤثّر هذا الحدث المروع على الحزب الشيوعي العراقي بشكل مضاعف. فبعد الإبادة التي طالت قادة الحزب وكوادره وأعضاءه، راح من تبقى من قادة الحزب وكوادره في الخارج بالعمل على إعادة بناء الحزب وإقامة الصلة مع من فلت من طاحونة الموت في الداخل. في صيف عام 1963 أنهيت دراستي في أكاديمية العلوم الاجتماعية-المدرسة الحزبية العليا، وكنت على أتم الاستعداد للمشاركة في العمل مهما كان متواضعاً من أجل إعادة بناء الحزب وتضميد جراحه. وقع عليّ الاختيار للتوجه مع اثنين آخرين من أعضاء الحزب كدفعة أولى إلى إيران لجعلها محطة لعودة كوادر الحزب من الخارج إلى العراق ومنفذا لعلاج وإنقاذ من تعرّض للإرهاب على يد الانقلابيين، أو ممّن اضطر إلى الهروب إلى الأراضي الإيرانية. ومن بين الرفاق الثلاثة الذين وقع عليهم الاختيار بالتوجه إلى إيران هم كل من بهاءالدين نوري الذي كان يدرس معنا ولم يكمل دراسته بسبب مرضه. وأما الآخر فهو فرج محمود، السجين السابق في العهد الملكي وطالب الدراسات العليا في فرع الكيمياء في أحد معاهد موسكو آنذاك وأنا.
وهكذا خطوت خطوة أخرى صوب الاقتراب من إيران والأحداث الإيرانية بدون تخطيط مسبق لذلك. وبالفعل ففي بداية أيلول عام 1963 أُبلغت بالاستعداد للسفر ومعي بهاءالدين نوري إلى پراگ، العاصمة التشيكية، كمحطة أولى للاستعداد لحين التوجه إلى إيران. وفي يوم 12 أيلول أبلغنا المرحوم ثابت حبيب العاني أن موعد السفر سيكون غداً. وخرج المرحوم أبو حسان معي في ذلك اليوم إلى أحد مخازن العاصمة موسكو لشراء ما قد أحتاجه في سفرتنا. وتذكرت أن هذا اليوم هو يوم عيد ميلادي الخامس والعشرين. وأثناء زيارتي لمن تبقى من المجموعة العراقية في المدرسة، أخبرتني العزيزة المرحومة الدكتورة نزيهة الدليمي بدعوتي لحفلة شاي للوداع في غرفتها. خمنت أنها قد كانت على علم بيوم ميلادي واستغلت فرصة سفرنا لكي نحتفل، وإن لم يكن لدينا أيّ مزاج للاحتفال بعد كل ما جرى. وفي مساء ذلك اليوم رن جرس التلفون في غرفتي الصغيرة في القسم الداخلي وإذا به أخي عبدالله الذي أخبرته بمغادرتي موسكو إلى جهة لم أحدّدها له. فوجئ بالخبر وأصرّ على اللقاء فوراً وكان آخر من ودّعته في موسكو. كان أخي العزيز عبد الله حبه في بعثة دراسية على نفقة وزارة التربية والتعليم العراقية للحصول على شهادة الإسبرانت- الدكتوراه في المسرح بعد أن نال في العراق درجة البكالوريوس في اللغة الإنكليزية من كلية الآداب والعلوم، وأنهى معهد الفنون الجميلة في قسم المسرح. وفي موسكو انخرط عبدالله في أشهر معهد مسرحي في روسيا وهو معهد åگيتيسò، معهد الدولة للدراسات المسرحية.
لوحة: سعد يكن
تربطني بأخي عبدالله أكثر من وشائج الأخوّة والقرابة إلى علاقات صداقة وودّ حميمين تمتد إلى هذه اللحظة. التقينا في مكان قريب من المدرسة وقسمها الداخلي وقد فوجئ بالسفر. وبقينا صامتين ونحن نخطو خطوات ثقيلة، ولسان حالنا يقول هل سنلتقي أم إن هذا هو اللقاء الأخير؟ إن لعبدالله طبعاً هادئاً وقليل الانفعال، بل ولم أره منفعلاً طوال حياتي. إلاّ أن صمته الثقيل في تلك اللحظات كان له أكثر من معنى، وينطوي على انفعالات عميقة. توادعنا بالقبل وافترقنا. عدت إلى القسم الداخلي لأتلقّى قسطاً من الراحة استعداداً للسفر، وغفوت. وفجأة أيقظني رنين التلفون في وقت متأخر من الليل. كان صوت أخي من جديد، ويدعوني للقاء من جديد في محطة مترو قريبة من المدرسة وقسمها الداخلي وهي محطة “نوفوسلوبودسكايا”. ارتديت ملابسي على عجل وتوجهت نحو المحطة لأرى أخي عند البوابة. رأيته ينظر بحنان ورقة وانفعال، وطلب مني أن نتبادل ساعتينا لتبقى كذكرى الوصل والود بيننا في مستقبلنا المجهول. وودعنا بعضنا من جديد وذهب كل في طريقه.
في صباح اليوم التالي توجهنا، بهاءالدين نوري وأنا، إلى مطار شيريميتوفا في ضواحي موسكو لتقلنا الطائرة إلى العاصمة التشيكية پراگ. كان في استقبالنا المرحوم حسين سلطان وشخص جيكي، ثم اتجهنا جميعاً إلى خارج مدينة پراگ. توجهنا نحو غابة شاسعة تحيط بمدينة “ملادابوليسلاف”، لنستقر في كوخ خشبي معزول يستخدمه هواة الصيد في وسط الغابة. وبعد أيام التحق بنا فرج محمود قادماً من موسكو ليصبح فريقنا مكوناً من ثلاثة أشخاص. مررنا في فترة إعداد لعملنا اللاحق وبمساعدة من أحد خبراء العمل السرّي في الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي ممن كانوا يعملون سراً في أثناء الاحتلال النازي. وفي الحقيقة لم تزدنا محاضراته شيئاً كثيراً على ما كسبناه أثناء تجربتنا في العمل السرّي، عندما كان الحزب يعمل بسرية أثناء العهد الملكي، أو من خلال قراءتنا لبعض المؤلفات المتعلقة بنشطاء العمل السري في أحزاب مختلفة، أو حتى من تلك التجارب التي اطلعنا عليها من خلال قراءة الكتب البوليسية مثل قصص آرسين لوپين في سنوات المراهقة. وخلال هذه الفترة اطّلعنا أيضاً على ممارسات السلطات النازية ضد المواطنين التشيك في فترة الاحتلال النازي لتشيكوسلوفاكيا، وخاصة مراكز التعذيب والاعتقال ومعسكرات العمل في مدينة پلزن. وبعد ثلاثة أشهر تقريباً كنت أول من غادر تشيكوسلوفاكيا في أواخر عام 1963 إلى بيروت. وكان في وداعي المرحوم ثابت حبيب العاني الذي بقي على صلة بي عن طريق المراسلة طوال فترة وجودي طليقا في طهران، وحتى آخر رسالة كتبتها له من العاصمة الإيرانية.
وصلت بيروت في بداية كانون الأول من عام 1963، أي بعد انقلاب عبدالسلام عارف على حكم البعث والإطاحة بحكمهم. وكانت العاصمة اللبنانية تعج بالهاربين من جحيم الانقلابيين في بغداد. واضطررت إلى قضاء جلّ أوقاتي في الفندق المتواضع في قلب بيروت لكي أتفادى الاحتكاك بالعراقيين. ومن المفارقة أنني وعندما كنت أطل في أحد الأيام من شباك الفندق على الشارع لمحت أخي الدكتور فيصل حبه، الذي وقع أسير الانقلابيين وخاض تجربة مريرة في قصر النهاية سىء الصيت وهرب من بغداد بعد انقلاب عبدالسلام عارف، وهو يسير في الشارع المحاذي للفندق برفقة الفنان يوسف العاني وهو الذي تحرّر للتو من سجن الانقلابيين. بالطبع لم أجرؤ على النزول إلى الشارع في ذلك الوقت رغم أنني كنت مفعماً بالشوق لألتقي بأخي وأحتضنه، وهو الذي خرج للتو من تجربته المرعبة بعد انقلاب شباط، وذلك تكتماً على مهمتي السرية في إيران.
توجهت إلى السفارة الإيرانية للحصول على تأشيرة الدخول التي كان من الصعب على المواطن العراقي الحصول عليها. ولكن تذرّعي بزيارة خالي في طهران قد خفف من إصرار المسؤولين في السفارة الإيرانية على رفض إعطائي التأشيرة. ولكن مع ذلك استغرقت الموافقة على التأشيرة وقتاً يزيد على الشهر. ففي أواخر كانون الأول من العام نفسه حصلت على التأشيرة الإيرانية، وحجزت على الفور مقعداً على طائرة ك.إل.أم. الهولندية المتجهة إلى العاصمة الإيرانية طهران. وعند الانتظار في صالة مطار بيروت علمت أن الطائرة ستحط أيضاً في بغداد. ولذا تجاهلت دعوات مكبّرات الصوت في المطار بالتوجه إلى الطائرة تفادياً للمرور في بغداد. وترتب عليّ تغيير الحجز وعاودت التوجه مباشرة إلى طهران على متن طائرة پان أميركان متجاوزاً الهبوط في مطار بغداد.
وصلت طهران وللمرة الأولى في حياتي في أواخر كانون الأول عام 1963. وهكذا بدأت مرحلة جديدة من التعرف على إيران وشعبها. لم يكن معي عند وصولي إلى طهران سوى عنوان خالي الذي بقي في ذاكرتي منذ سنوات الصبا، “سرچشمه-جنب حمام سرچشمه”، وتعني بالعربية بجانب حمام رأس النبع! كانت معرفتي باللغة الفارسية تكاد تكون في مستوى الصفر. إذ لم أكن أتلفظ إلاَ بضع كلمات كان يرددها ابن خالي عندما كان يأتي إلى بغداد مع والده في الخمسينات من القرن الماضي، أو ما تعلمته من “كتاب تعلم الفارسية في بضعة أيام” في پراگ. حطّت بنا الطائرة على مدرج مطار مهرآباد، وهو مطار العاصمة الإيرانية طهران. وعندما نزلت من الطائرة كان الوقت يكاد يقترب من الفجر وأحسست ببرودة الجو القارس. كان المطار مكتسياً باللون الأبيض الناصع بسبب هطول الثلوج بكثافة وتراكمها. ذهبت كالعادة إلى ضابط الجوازات وسلمته جواز سفري العراقي. غادر الجميع مكتب فحص الجوازات باستثنائي، حيث كان ضابط الجوازات يقلب جواز سفري العراقي ويتصل بالتلفون. جلست بقلق في أحد زوايا المطار بانتظار انتهاء الإجراءات. ولفت نظري وأثار استغرابي سقف المطار الذي كان يزينه في الوسط الصليب المعقوف وهو شعار الحزب النازي الألماني. وعرفت بعدئذ أن المطار، وإلى جانب عدد من المنشآت الهامة الأخرى مثل المحطة المركزية للسكك الحديدية، قد تم بناؤه من قبل ألمانيا النازية في الثلاثينات من القرن العشرين عندما سادت العلاقات الحميمة بين هتلر ورضا شاه حاكم إيران السابق. لقد بُني هذا السقف بشكل تصعب معه إزالة هذا الصليب بدون تدمير السقف كله. ومن باب الصدف أن ينهار السقف كلياً في عقد السبعينات من القرن الماضي بفعل تراكم الثلوج ليقضي على أيّ أثر للصليب المعقوف في مبنى المطار. بعد مرور قرابة نصف الساعة، استدعيت إلى مكتب الأمن في مطار مهرآباد. وبدأ معي شبه تحقيق عن سبب قدومي إلى إيران ومن أيّ بلد أتيت..الخ. وأوضحت للضابط أنني قادم لزيارة خالي وأني أتيت من پراگ حيث أنهيت دراستي العلمية!، حيث لم يختم جوازي بأيّ ختم سوفييتي. في ذلك الوقت وفي ظل النظام الشاهنشاهي، فإن مجرد المرور بأيّ دولة أوروبية شرقية يثير الشك لدى الأجهزة الأمنية الإيرانية وخاصة جهاز الساواك المعروف بقسوته، وذلك بسبب وجود أعداد ضخمة من اليساريين الإيرانيين كلاجئين سياسيين في تلك البلدان.
بعد مرور ثلاث ساعات، سمحوا لي بمغادرة المطار وتوجهت إلى أحد فنادق الدرجة الثالثة لأبقى فيه بعضاً من الوقت ريثما أتدبّر أموري وألتقي بخالي. في صباح اليوم التالي خرجت من الفندق لأستكشف المدينة وأتجول في بعض مناطقها بهدف أن تتكون لديّ فكرة أولية عن العاصمة الإيرانية طهران. ومن تجربتي فإن أفضل وسيلة وأرخصها للتعرف على المدينة وعدم الضياع في شوارعها المتشابهة هو ركوب الباصات بمختلف أرقامها ذهاباً وإياباً وبمختلف الاتجاهات من أول خط الباص وحتى نهايته. وعلى النقيض من كلّ تصوراتي السابقة، فقد رأيت طهران مدينة كبيرة وعصرية وجميلة ونظيفة قياساً بالمدن الشرق أوسطية التي زرتها. ومما يزيدها جمالاً هو موقعها على سفح جبل البرز الشاهق الذي يكتسي بالثلوج خلال أيام الشتاء. وتبقى قممه مكتسية بالثلوج أيضاً في أثناء فصل الصيف. ولكن ما جلب انتباهي من النظرة الأولى للمدينة هو أنها مجزأة إلى جزأين، فالجزء الشمالي منها تسكنه الفئات الثرية والمرفهة والوسطى. أما القسم الجنوبي فيكتظّ بالفئات الكادحة والمعدمة والفقيرة والمهاجرة من الريف بحثاً عن لقمة العيش في العاصمة. وهذه الظاهرة تعكس الهوة الاجتماعية العميقة بين طبقات المجتمع والتي تتجاوز في ما نشاهده في طهران سائر المدن الشرق أوسطية الأخرى، إذا ما استثنينا القاهرة. ومن الطبيعي أن تؤثر هذه الهوة والفرز الاجتماعي العميق على جزأي المدينة، ويتأثر جمال كلا الجزأين بالطبيعة الاجتماعية لسكانه واهتمام الدولة بالجزء الذي يقطنه الميسورون، أي شمال المدينة الذي يعرف بـ”شمرانات” الذي تقع فيه مصايف العاصمة سربند ودربند، في حين تتجاهل السلطة القسم الجنوبي الذي يقطنه المعدمون. ويمتد الجزء الجنوبي من المدينة عبر بساتين ومزارع تروى من المياه المنحدرة من جبال البرز ليخترق مدينة “ري” التاريخية التي تضم ضريح الإمام محمد بن موسى الرضا، وهي المدينة التي ولد فيها العلامة والطبيب المعروف في القرون الوسطى أبوبكر الرازي.
وخلال تجوالي في اليوم التالي في شوارع طهران لم أنس مهمة البحث عن بيت الخال في وسط طهران وفي محلة شعبية معروفة تدعى -سر چشمه- أي رأس النبع. سألت أحد المارة مستعيناً بالكلمات الفارسية القليلة التي أعرفها عن العنوان، ولشدة استغرابي وحتى قلقي أجابني هذا الكهل بلغة روسية ذات لكنة فارسية! وفي الواقع رحت أضرب أخماساً بأسداس. فمن أين لهذا الشخص أن يعرف أنني أتكلم الروسية؟ هل هي محض صدفة أم أن الرجل يعمل وكيلاً للمخابرات الإيرانية، وبذلك فإنني تحت المراقبة؟ كل هذه الهواجس والشكوك تبددت لاحقاً بعد أن عرفت أن العديد من كبار السن، وخاصة في مناطق شمال إيران المحاذية للاتحاد السوفييتي يتقنون اللغة الروسية بسبب وجود الجيش الروسي قبل ثورة أكتوبر، وبعد ذلك الجيش السوفييتي خلال احتلال الحلفاء لإيران في 25 آب عام 1941 أثناء الحرب العالمية الثانية، هذا إضافة إلى الروابط التاريخية التي تربط البلدين الجارين. وإلى جانب ذلك هناك جالية روسية تحتفظ بكنائس ومكتبات ومراكز اجتماعية تعود إلى الروس البيض الهاربين من بلادهم بعد اندلاع ثورة أكتوبر. فقد كانت إيران أحد مراكز لجوء وهروب المعارضين للنظام السوفييتي ومحطة هامة للنشاط الغربي المعادي للسوفييت. تملّصت بسرعة من الرجل ورحت أسير بسرعة صوب الاتجاه الذي أشار إليه.
بعد الاستفسار من عدد من المارة اقتربت من البيت. كانت واجهة البيت تشبه سائر البيوت الشرقية والإيرانية، حيث السياج المرتفع والذي لا يمكن أن نرى شيئاً في داخله من خارج البيت. طرقت الباب فلاح لي بعد فج باب الدار وبعد مضي وقت طويل وجه نسائي محجّب بما يعرف في إيران بـ”الچادر”. كان هذا الوجه يشبه إلى حد بعيد قريبات لي في بغداد. سألتها عن الخال فأجابتني، يبدو أنها كانت بنت خالي، بلغة فارسية لم أفهم جميع مفرداتها، ولكني عرفت من لغة الإشارات وبعض الكلمات العربية التي تعرفها بنت الخال أنه في مقر عمله وهو متجر لبيع الأدوات الاحتياطية للسيارات. وفي نهاية المطاف تعرفت بنت الخال على هويتي وأدخلتني البيت إلى غرفة الضيوف بانتظار مجيء الخال بعد أن اتصلوا به تلفونياً.
الورقة الثالثة
رحلة
بدأ شتاء عام 1963-1964 البارد جداً يطوي صفحاته، ولاحظت حركة غير عادية لدى أهالي طهران. فقد أخذت طهران، شأنها شأن المدن الإيرانية الأخرى، تكتسب حلة الاحتفال برأس السنة الإيرانية الجديدة، أي عام 1343 الهجرية الشمسية، وما يطلق عليه عيد åالنوروزò، ويعني اليوم الجديد، أو “دورة السنة” عندنا في العراق. ويقابل ذلك في التقويم الميلادي يوم الـ21 من آذار/مارس، حيث يتساوى الليل والنهار. إن الإيرانيين يستخدمون الآن التقويم الهجري الشمسي عوضاً عن التقويم الهجري القمري. وقد جرى العمل بهذا التقويم في عام 1926 ليحل محل التقويم الهجري القمري الذي كان يجري العمل به منذ عهد ملكشاه السلجوقي (465 هـ -485 هـ قمري) والذي عرف بالتقويم الجلالي. علماً أن المبدأ يبقى لدى التقويمين هو تاريخ هجرة النبي من مكة إلى المدينة. ويحتفل الإيرانيون في الأول من فروردين؛ أي 21 من آذار/مارس، باعتباره اليوم الأول من السنة الجديدة. إن هذا العيد مناسبة تقليدية وتقويم سنوي قديم لدى الفرس والأقوام الهندية الأوروبية. ويعد هذا العيد أهم وأكبر الأعياد الوطنية الإيرانية.
وترتبط بهذا العيد تقاليد وعادات وأساطير كثيرة، أبرزها أسطورة كاوه الحداد والحاكم المستبد الضحاك. وتحكي هذه الأسطورة عن تمكن كاوه الحداد من كسر شوكة الاستبداد وإزالة كابوس الظلم عن شعبه بعد أن أطاح بالضحاك المستبد. وغالباً ما تربط هذه الأسطورة بواقع حال الشعب الإيراني في عهود تعرض الشعب للضيم وما أكثره، حيث يجد الضحاك المستبد شبيهاً له في الشاهنشاهات والحكام المستبدين في مختلف العصور. إن هذه الأسطورة تحفّز الإيرانيين بل وشعوبا آرية أخرى في الشرق الأوسط على الثورة ضد ظالميهم. وتسبق هذا العيد استعدادات من قبيل زرع الحنطة في الصحون التي توضع على مائدة العيد، ثم تؤخذ إلى البوادي في اليوم الثالث عشر من السنة الجديدة ليتم عقد أوراق الحنطة من قبل الصبايا والفتيات ليسعفهن الحظ في الزواج ولقاء المعشوق في السنة الجديدة. وفي ليلة الأربعاء التي تسبق السنة الجديدة، “شب چهار شنبه سوري”، يقوم الأهالي بتحضير أكوام الخشب والحطب لحرقها. وما أن يتصاعد لهيب النار حتى يقوم الأهالي بالنط على النار مرددين عبارة “زردي من أز تو، سرخي تو أز من”، وما يعني بالعربية “اللون الشاحب الذي يكسو وجهي أقدمه لك، وأعطني لون لهيب النار الأحمر”. إنه تعبير عن انتهاء فصل الشتاء، فصل الركود والسبات وبدء فصل الربيع فصل النشاط والخصب والحياة والخضرة. وترتبط بهذه المراسيم أساطير وأساطير. فإذا لمس لهيب النار وحرق لباس من يقفز فوقها، فإن ذلك دليل على غلبة العدو على القافز وتعبير عن الحظ العاثر. وإذا ما وقع الشخص وسط النار أثناء القفز فمعنى ذلك أن السعادة ستغمره خلال السنة الجديدة. أما إذا اصدر الحطب الأصوات أثناء الاحتراق فإن نصيب الرجل سيكون النجاح في رزقه، في حين سيكون نصيب المرأة الإنجاب. وبعد أن تنتهي هذه المراسيم المثيرة وتقترب النار من الخمود، يقوم كل شخص بأخذ الرماد ويلفه بخرقة من ملابسه القديمة ثم يرميها في الجدول كتعبير عن إبعاد الغم والنحس عن شخصه في السنة الجديدة القادمة.
ومن التقاليد التي تمارسها الفتيات والصبايا في هذه الليلة هي مراسيم “قاشق زني”، أي الضرب بالملعقة. حيث تقوم الفتيات والنساء بالعزف بواسطة الملاعق الخشبية وهن يمرقن الأزقة والحارات لجمع ما يتكرم به أهالي الحارة من هدايا وعطاء بدءاً من القند والنبات والحلويات وانتهاءً بالنقود والرز والحبوب والفواكه. ومن يبادر إلى تقديم هذه الهدايا فسيكون جزاؤه الثواب والسؤدد والنجاح، أما من يتردد في ذلك فلا ينتظره في السنة الجديدة سوى الأضرار والفشل والأيام النحسة.
إنه تقليد جميل يدلّ على الحركة والتطوّر والتغيير والحياة، وليس عبادة النار كما يريد أن يصوّره ويشوّهه المتطرفون والقوميون المتعصبون عندنا. لقد كان العراقيون يحتفلون عندنا في بغداد بنفس المناسبة ويسمونها “چنبر سوري”، وهي تعريق لكلمة “چهار شنبه سوري” الفارسية، حيث تشعل الشموع على ضفاف دجلة الخالد أو توضع على خشبة لتطوف وتنحدر مع تيار النهر.
وفي ليلة العيد تنصب مائدة مزدانة بصحون تحتوي على سبعة مواد يبدأ اسمها بحرف السين، مثل سكة وسماق وسيب (التفاح) وسركه (خل) وسبزي (الخضرة) وسنجد (نبك العجم) وسمنو (عصير الحنطة). إن عدد سبعة هو تعبير عن الكواكب السبعة التي ترد في الأساطير عامة. وتوضع على السفرة أيضاً نسخة من القرآن الكريم أمام مرآة وشموع ومكسّرات وحلويات وقارورة تحوي على ماء تسبح فيه السمكات الذهبية الصغيرة. ويرتفع مع دورة السنة دعاء الإيرانيين التقليدي ملتمسين من الخالق ومتضرعين إليه:
يا مقلب القلوب والأبصار
يا مدبر الليل والنـــــــهار
يا محول الحول والأحـوال
حول حالنا إلى أحسن حال.
ويستمر الاحتفال بهذا العيد حتى اليوم الثالث عشر من السنة الجديدة، حيث يحيي الإيرانيون مراسيم “سيزده بدر”، أي “الخروج من البيت في اليوم الثالث عشر”. وحسب التقاليد فإنه من باب الشؤم البقاء في داخل البيت في هذا اليوم. ولهذا يخرج الجميع إلى البوادي والحدائق والمنتزهات ليقضوا اليوم كلّه هناك. ويصادف هذا اليوم عندنا اليوم الثاني لما نسميه بكذبة نيسان أو كذبة أبريل المصادف في اليوم الأول من شهر نيسان/أبريل من كل عام. ولربما يشبه هذا العيد عيد شم النسيم عند المصريين. وصادف أن خرجت في هذا اليوم في رحلة مع خالي العزيز إلى مدينة كرج القريبة من طهران، حيث يرتفع سد كرج الذي يحجز المياه ويزوّد العاصمة بمياه الشرب. كان المكان مزدحماً أشد الازدحام بالقادمين من العاصمة وضواحيها، وقد وصل تعدادهم إلى مئات الآلاف حيث تصدح الموسيقى في المكان، وتنظّم حلبات الرقص شرقياً كان أم غربياً بشكل لم أشهد له مثيلاً في أيّ ركن من أركان البلدان التي زرتها.
لوحة: سعد يكن
عادت الأمور اليومية إلى مجاريها بعد هذه الاحتفالات، وعاد الناس إلى عملهم وكدحهم وبنشاط أكثر بعد أن خيّم الربيع بخضرته وهوائه العليل وشمسه الساطعة ودفئه على العاصمة.
في أحد الأيام عرّجت على دكان الخال حيث كنت أزوره بين فترة وأخرى في محله، وصاح بأعلى صوته وبانفعال ملمحاً إلى إنه كان يبحث عنّي لأمر هام. وسألته عن هذا الأمر الهام، وأجابني أنه يود أن أسافر معه للفسحة إلى شمال إيران وبالتحديد إلى إقليم مازندران المحاذي لبحر الخزر. كان الخال يملك، إضافة إلى محل بيع الأدوات الاحتياطية للسيارات، حافلتين لنقل المسافرين بين العاصمة طهران وبقية المدن الإيرانية. وصادف توجّه إحدى الحافلتين إلى محافظة مازندران في تلك الفترة، وأراد الخال أن يريني هذه المنطقة الواقعة على بحر الخزر التي غالباً ما كان يتحدث الخال عن جمال طبيعتها وسحرها.
وسرعان ما جهّزت نفسي للرحلة خلال سويعات وعدت إليه في المحل لأرى الحافلة تنتظرني وقد جلس الخال في المقعد الأمامي، وحجز لي المقعد الآخر المحاذي لمقعده والملاصق لنافذة الحافلة الجانبية. وما أن دارت عجلات الحافلة كي تتوجه نحو الشمال حتى بدأت تتسلق الطرق الجبلية. وعلت الحافلة بحيث أخذت تصطدم بالسحب الكثيفة التي تخيّم على الطريق. وخلال سيرنا كنت أسأل الخال بفضول عمّا نصادفه على الطريق من معالم ومشاهد، ويجيبني بتفصيل وبأسلوب ممتع.
ولفت نظري العديد من القبور المزدانة بالأقمشة الخضراء والقبب الخضراء فوق قمم الجبال. وسألت الخال عن أصحاب هذه القبور وكيف تم الوصول إلى قممها؟ وقبل أن يجيبني ارتسمت على وجهه ابتسامة ذات مغزى. وقال إن الناس هنا يطلقون على هذه القبور “إمام زاده” أي مراقد أولاد الأئمة، وهي على غرار ما ينتشر من مراقد بنات الحسن عندنا على ضفاف شط الحله على وجه الخصوص. وأردف الخال قائلاً إن تجربتي تشير إلى أن هذه القبور لا علاقة لها بأولاد الأئمة، ولا توجد أي جثة في غالب الأحيان في هذه القبور. ولكن ما العمل مع معتقدات الناس البسطاء وهي تقترب أحياناً من الخرافة. ورحت أستمع إلى حكايته عن هذه القبور. في عقد الثلاثينات من القرن العشرين كان الخال يعمل ميكانيكياً في طهران، وكان يتم استدعاؤه من قبل الجيش الإيراني أثناء المناورات العسكرية لمرافقة القطعات الميكانيكية كي يتم إصلاحها أثناء العطب. وصادف أن جرت مناورات عسكرية في وسط إيران، واستُدعي الخال لمرافقة القطعات العسكرية الميكانيكية. توقفت المناورات في أحد الأيام، وتوجه الضباط لأخذ قسط من الراحة. ودُعي الخال لمشاركة الضباط بمائدتهم العامرة بقناني الخمر والنبيذ، وراحوا يفتشون عن مكان لتناول الخمر وما لذ وطاب. وهنا أشّر أحد الضباط إلى موقع “إمام زاده” القريب من مكان المناورات كمكان مفضل للجلوس. وعندها اعترض الخال على هذا الاختيار باعتباره مكاناً يوارى فيه ابن الإمام ولا يصح تناول الخمر فيه. وأثناء الجدال بين الضباط خرج على حين غرة من داخل مقام “الضريح” رجل تلف رأسه عمامة خضراء وله لحية تعبر عن ورع هذا الرجل. لقد استمع هذا الرجل إلى النقاش والضوضاء وأشار على الجميع أن يدخلوا ويأخذوا قسطهم من الراحة في المقام بما في ذلك تناول الخمر! أثارت دعوة المتولّي دهشة الجميع، ولكن دهشتهم تحولت بعد حين إلى ضحك وتندر لا نهاية له. فقد قال الرجل أنه لا يوجد هنا أيّ مقام. فالقصة وما فيها أنه كان قد هرب من ملاحقة أهالي أحد القرى المجاورة بسبب قيامه بمحاولة للسطو على بيت أحد الميسورين في القرية. وعرف القرويون بذلك ولاحقوه ولم يتركوه إلاّ عندما ابتعد عن تلك النواحي ولجأ إلى هذا المكان وهو أقرب إلى الإعياء. عندها سجد وانهار مما أثار اهتمام عدد من القرويين الذين سألوه عن حاجته. لم يجبهم خوفاً ولكنه فطن، وقال درءاً لأيّ عواقب سلبية، إن في البقعة يدفن “إمام زاده”! أثار هذا الادعاء ضجة بين سكان القرية وراحوا يتراكضون لدعوة أقرانهم، وباشروا ببناء “الضريح”. وأصبح “السارق” وطريد القرية المجاورة متولّي هذا الضريح وتاب عن السرقة. ضحك الخال بملء فمه وقال هذه هي حكاية مراقد “إمام زاده” التي يبدو أن أغلبها ليس لها علاقة بأولاد الإمام ولا بأيّ من الأولياء. إنها محض مظهر من مظاهر المعتقد الديني عند الناس للتخفيف عن همومهم وما أكثرها، ولو كان بعضها لا علاقة له بالدين ولا بمن يرقد في هذه القبور.
اخترقت الحافلة الأنفاق العديدة والطويلة التي تشق طريق الشمال وبما يعرف بجادة åچالوسò. وتغيّرت الطبيعة من منطقة طهران الجافة وقليلة الخضرة إلى منطقة تكسوها الخضرة والغابات الكثيفة والطبيعة الخلابة للغاية، والهواء المنعش. إن سبب هذه الطبيعة الساحرة يعود إلى أن مازندران وكيلان، وهما المنطقة التي كانت تعرف بطبرستان، تطلان على بحر الخزر الذي يوفر للمنطقة السحب التي تجلب الأمطار الغزيرة. فالمطر في هذه المناطق يهطل في جميع المواسم ممّا حولها إلى أراض خضراء زراعية خصبة خاصة لزراعة الشاي على سفح الجبال والرز ذي الجودة العالية في الوديان. ولهذا يعتمد الأهالي هنا بالدرجة الأولى على الرز في غذائهم بدلا من الخبز في أحيان كثيرة. بعد ساعات وصلنا إلى مدينة بابلسر المطلة على نهر بابلرود الذي يصب في بحر الخزر. وما أن بدأت الحافلة بالانحدار من سفح الجبل والنزول إلى الوادي حتى تراءت لنا مزارع الرز والشلب الجميلة، شاليزار، وهي غارقة في المياه.
كما لاح ساحل بحر الخزر في أقصى الأفق. إن ساحل بحر الخزر الجنوبي الذي يعود إلى إيران هو منطقة سياحية جميلة، ويؤمّها الإيرانيون وحتى الأجانب لهوائها العليل الذي يقيهم من حرارة الصيف في المناطق الجنوبية الأخرى والتمتع بساحلها الرملي الذهبي المطل على بحر الخزر أو ما يعرف عندنا ببحر قزوين. وتعتبر المناطق السياحية الإيرانية على بحر الخزر من أجمل المناطق مقارنة بسواحل أذربيجان وروسيا وكازخستان وتركمانستان المطلة على نفس البحر أيضاً والتي سمحت لي الظروف بزيارتها عندما كنت في الاتحاد السوفييتي كما أسلفت.
البجعات في مازندران
تركت الطبيعة الجميلة بصماتها على طبع الناس الهادئ والطيب والأوجه البشوشة، وكذلك على جمال أهلها وخاصة حسن طلعة صباياها وفتياتها. ولكون هذه المنطقة مطلة على البحر فإن غذاء الأهالي الأساسي إلى جانب الرز هو السمك والحيوانات البحرية وأشهرها ما يعرف بالسمك الأبيض، “ماهي سفيد”، الذي تلذذنا بتناوله أثناء وجودنا على ساحل البحر. وتعتمد المنطقة أيضاً على صناعة الكافيار الذي كانت تشرف على إنتاجه مؤسسة سوفييتية-إيرانية مشتركة. والكافيار هو بيض أسود لسمك لا يوجد إلا في بحر الخزر ويطلق عليه “الستوريجون”، ويعتبر من الأسماك القديمة المنقرضة. بالطبع لا يتناول الإيرانيون من الكافيار إلا القليل لاعتبارات دينية غير مفهومة بالنسبة إليّ، ولكنه يصدّر بالأساس إلى الخارج. قضينا مع الخال على ساحل البحر ساعات جميلة خلال عطلة نهاية الأسبوع البهيجة لنعود من جديد بعد يومين إلى العاصمة طهران.