سماء الفينيق
بعد أن عبرت الجسر، وجزت المسافة التي لا تذكر، وأثناء ما نقلتني الحافلة إلى استراحة أريحا، تداعت في الذهن، ما كان يتحدث به كبارنا، عن واقع الحال، قبل الاحتلال، في هذه المساحة من الوطن، فالذاكرة تشير هنا، إلى أن قبيلة العدوان، في الشونة الجنوبي، نقلا عن بوح الرواة، ممن وعوا الحال قبل هذا الزمان، حيث كانوا يقولون بأنه حين كان يموت أيّ واحد من الشونة الجنوبية والمناطق المجاورة، كانت جنازته تسير باتجاه أريحا، وكانوا يدفنون موتاهم قريبا من مقام النبي موسى، هذا المقام الذي يبعد عن طريق أريحا القدس حوالي كيلومتر واحد، ويعود تاريخه إلى عهد صلاح الدين الأيوبي، ويضم إضافة إلى القبر المفترض (ذلك أن النبي موسى لا يعرف له قبر، وفقدت آثاره على جبل نيبو في مأدبا في الأردن، بحسب العهد القديم)، هناك مسجد، وإسطبلات للخيل، ومخبز قديم، وآبار، وعشرات الغرف، وحوله تمتد مقبرة ، يدفن بها من يوصي بذلك، ويرجح أن الذي بنى المقام هو القائد المملوكي الظاهر بيبرس الذي بنى المسجد والأروقة عام 1265 ميلادي، وأوقف عليه كثير من العقارات والأراضي.. هذه أولى حكايات الربط، هذه أول إشارة، حكاية دالة للمشترك الطيب دون زيف ولا تنظير ولا ادعاء.
***
ها أنا هناك، في أريحا..
أبتسم لكل الأشياء، إلا للذباب.. ذباب أريحا الذي كان في استقبالي، وكأنه تجسيد لجنود الاحتلال الذين رأيتهم على الجسر، مقيتا، دبقا، طاردا لروح الحياة، وقد كان هذا الذباب نهما حين كان يحوّم حولي، وأنا أقرأ الشيرازي، منتظرا، وكأن هذا الذباب، في ملاقاته للضيوف، يريد أن يضيّق الخناق عليهم، ليعودوا من حيث أتوا، وهو لا يتورّع في أن يلسعهم على كل مساحة متاحة، وكأنه يريد أن يعبّر عن روح أخرى، للاحتلال، روح سوداء تخرج من العالم السفلي، حيث أنه جماعات يحضر، يهمّ بقوة، يراوح في إقباله أو غيابه، لحظات قليلة فقط، لكنه يبقى يحوّم حول الجالس منتظرا في أول استراحة في أريحا بعد تجاوز الجسر، ونقاط التفتيش، وكأنه يريد أن يشعر القادم بالضيق، والاشمئزاز، والنفور، وكأنه في حالة تحالف مع جند الاحتلال، وحرارة الشمس، والضغط الجاثم على الأذنين، وقلق الانتظار.. ذباب أريحا، حالة أخرى لتأمل المحتلّ، بعد الجسر بقليل!!
لا مسافة تذكر.. وأنا لم أشعر بأن هناك إيقاعا مختلفا بين أريحا وبين الشونة الجنوبية، وعلى ترنيمة هذا القرب كنت جزت الجسر، جسر الملك حسين، من ضفة القلب، إلى حجرته الأخرى، تقربا من أرض الأمنيات، والحلم، والذاكرة.. ها قد تحقق بعض الحلم، وها أنا أسابق خطواتي، باتجاه أصدقائي الذين ينتظروني، على أرض ليست مثل أيّ أرض أخرى، سلام على كل ما فيها، ومن فيها، سلام مذ أول نسمة هواء، وأول شعاع شمس، وأول ذرة تراب، لامستها، وعايشتها، وتلمست فيها فلسطين الفردوس الذي أعشق، وإليه أتوق.
***
وصلت استراحة أريحا، وكان الأصدقاء، في الانتظار.. عانقتهم واحدا واحدا، ومن خلالهم عانقت كل البلاد، ورحبت بي معهم دروب أريحا، في طريقي إلى مدينة رام الله.
قبل أن نخرج من أريحا نبهني طائر الفينيق إلى ضرورة النظر إلى فضاء المدينة حولي، ونحو موطئ قدمي، والذاكرة المختزنة في أريحا.
كنت أخطو في أريحا على أثر الإحدى وعشرين حضارة التي سكنتها، منذ أقدم العصور، أعود وأنا واقف فيها إلى الألف الثامن قبل الميلاد.
أريحا.. بوابة فلسطين من الشرق، تلك المدينة الكنعانية، هي أقدم مدن العالم على الإطلاق، وكانت حاضرة قبل مدينة دمشق بخمسة آلاف عام، وكانت أريحا مأهولة بالسكان قبل أيام أبي الأنبياء إبراهيم الخليل، بحوالي ستة آلاف سنة.. تلك أريحا التي أنا فيها الآن، حيث كانت معرفة الفلاحة والزراعة الأولى، على هذه الأرض بالذات.
قلت للأصدقاء “تمهلوا قليلا قبل أن نغادر أريحا”.. واستحضرت في الذاكرة، تداعيات أصل تسميتها (أريحا) التي أعادتني إلى تلك الجذور السامية، فهي عند الكنعانيين تعني القمر، والكلمة مشتقة من فعل يرحو أو اليرح، وهذا يعني في لغة جنوبي الجزيرة العربية شهر، أو قمر، وريحا في السريانية معناها الرائحة، والأريج.
انتشيت من رائحة المكان، وعبق تاريخه وذاكرته، ولوحت لأريحا، بالقلب، فلسوف أعود إليها في رحلة عودتي، من هنا، وأخذني الكلام مع الأصدقاء، ونحن باتجاه رام الله، وحديث ذو شجون مع الأحباء:
يقول سامح خضر: “محبة القلب لك من فلسطين”.
ينتشي يوسف الشايب قائلا: “بعد ثلاث محاولات لاستخراج تصريح دخول لك إلى فلسطين، ها قد نجحت المحاولة الرابعة”.
يعلق زياد خداش: “كأنك إرهابي يا صديقي ونحن لا ندري بهذا!!”.
قلت بتحد ونشوة: “ها قد تحقق المراد، دخلت فلسطين كما أريد، وأعتزّ بهذا، وأنا الآن في طريقي إلى رام الله”.
“وين عَ رام الله”..
أغنية أسمعها في الأردن كثيرا.. أغنية.. كأنها تُذَكّر بأيام كانت رام الله مصيفا يتجه إليه الأهل، وكانت الدروب متاحة إليها. مضى على تلك الأغنية عشرات السنين، ولكن وقعها، وموسيقاها، تجيء، كأنما الحنين هو الذي يجسدها، للقادم إلى رام الله، وهنا يحضرني حديث مع الدكتور محمد غوانمة، وهو متخصص في الموسيقى والغناء، حيث قال لي مرة في معرض حديثنا عن هذه الأغنية، إنها من التراث الغنائي، وكانت تغنى في الأصل “وين عَ باب الله”، لكن عندما تم إطلاق الإذاعة الأردنية من القدس، وكان مبناها بين رام الله والقدس، تم تحوير الكلمات، لتكون “وين عَ رام الله”، ولحنها جميل العاص، وغنتها سلوى العاص، ثم بعدها غناها عبده موسى، وتم تطوير لحنها لتغنيها سميرة توفيق كذلك، وانتشرت الأغنية، وما زالت تداعب قلب كل من يسمعها، وها أنا أعيش الحالة، وأكاد أحس نبض المشتاقين عندما تتردد هذه الأغنية على مسامعهم، غير أن مشاعري زادت قربا من كلماتها، وأنا أمام أبواب المدينة القادمة، رام الله، التي سأزورها، فأستعيد هالة الأغنية، وبساطتها، وحجم الدفء فيها:
“وين عَ رام الله.. وين عَ رام الله.. وِلفي يا مسافر، وين عَ رام الله..
ما تخاف من الله.. ما تخاف من الله.. خَذيت قليبي.. ما تخاف من الله..”.
ها قلبي يخفق، ينبض، مأخوذا، بالحنين.. ياه أي شوق، ووجد، تحمل في طياتها هذه الكلمات.. ياه.. وها أنا وسط مزرعة زيتون في رام الله، والأهل هناك يجدّون الزيتون، ليعصروه.. تباركت المدينة وأشجارها.. وقبل أن أترك ذاكرة الشجر، لأدخل المدينة، حيث سيرة البشر، ونقوش الحجر، أحسّ كأن كهلا يجلس تحت زيتونة، وكأنه عرفني، وبدأ يسرد لي شيئا من ذاكرة المدينة التي أقيمت على عدة تلال، تتخللها أودية منخفضة، ويرجع اسمها إلى كلمة الرامة، بمعنى العالي والمرتفع، حيث أن (رام)، هو جذر سامي مشترك يفيد العلو.
مقهى رام الله
ودعت الكهل تحت زيتونته، ودخلت رام الله.. بعد ليلة الوصول، تركني الأصدقاء لأسير بها وحدي نهارا، وكانوا معي ليدلوني على مفاتيح أسرارها ليلا.
سرت في شوارعها، ارتحت قليلا في مقهى رام الله، وجه “أبو إلياس» صاحب المقهى، سمح، أليف، ودود، ورحب بي كأنه يعرفني منذ زمن بعيد، أو أنه يترجم ألفة المدينة من خلال الاستراحة التي يوفرها مقهاه، المعروف بأنه ملتقى للمثقفين والساسة؛ وجدت هناك صديقي مهيب البرغوثي، عاد من الأردن إلى رام الله منذ سنوات، والتقيت كثيرا من الأسماء والأصدقاء المعروفين لي، بعضهم بشخوصهم، وبعضهم من خلال أسمائهم.
الاستراحة في مقهى رام الله، لا بد منها، والأرجيلة تستثيرني إذ كان المعسل الخاص بي أحمله معي، فقد أوصاني الأصدقاء أنه قد لا أجده هناك.. أخرجت معسل “الزغلول” من كيس أحمله، وكانت توجيهات “أبو إلياس» حميمية بتعمير الأرجيلة، ومعسلها، وجمرها.
يقع مقهى رام الله في الشارع الرئيس في رام الله، شارع “ركب”، نسبة إلى محل “بوظة ركب” الشهير فيه، وصاحبه هو شوقي دحو “أبو إلياس»، رجل مثقف، ويحب المثقفين، وهذا انعكس على الصور المعلقة في المقهى لمحمود درويش، وحسين البرغوثي وإميل حبيبي، وغيرهم، إضافة إلى الكتب التي يزدان بها المكان، هي من مكتبته الخاصة، ومكتبات الأصدقاء روّاد المقهى.
هاله من الألفة تلف مقهى رام الله، الذي من الممكن أن يمر عليك وأنت فيه عشرات الأشخاص الذين لم تلتق بهم من زمان، وقريبا منه هناك مطعم زرياب، غير أني بعد أن أنهيت أرجيلتي، وفنجان قهوتي، قلت للأصدقاء الذين التقيتهم هناك، أنني أستأذنهم لأكمل جولتي، وأنني سأتجه إلى دوار المنارة، وهو ليس بعيدا عن مقهى رام الله.
دوار المنارة
أسير في الطريق المؤدي إلى دوار المنارة. وأنا في هذا الاتجاه، تذكرت طائر الفينيق الذي غاب عنّي، جانبا من الزمن، ما إن دخلت رام الله: أين اختفى؟ ولماذا تركني ولم يكلمني ليلة من الزمن؟
جاءني في هذه اللحظة، وكأنه قرأ أفكاري، واستمع إلى تساؤلاتي.. لمحت طيفه، وقد كان يحلق فوق رأسي مباشرة، ولا أحد يراه سواي.
سألت الفينيق: “لم غيابك؟”.
قال: “أنت بين أهلك”.
قلت: “فما حجبك عني؟”.
قال: “لا خوف عليك”.
أحسست بسكينة وراحة..
لحظة صمت سادت، خلت معها أنه حلّق بعيدا، لكنه قبل أن يبتعد، قال: “سأكون قريبا منك حين ترحالك بين المدن المتاحة لك في فلسطين، ولن أبتعد عنك عندما تكون محاطا بالآخر العدو.. تابع مسيرك إلى دوار المنارة، فهناك قصة لاظمة لضفتي القلب هناك”.
***
مشيت حتى دوار المنارة، أو دوار الشهداء، أو دوار المغتربين..
وقفت قريبا من أحد جوانب الدوار، واستحضرت صديقي الروائي أكرم مسلم، في كتابته رواية “سيرة العقرب الذي يتصبب عرقا”، كيف أنه أخذ مساحة صغيرة قرب دوار المنارة، و”كَرّج” هناك، بدل سيارة؛ كان يستأجر مساحة هذا الكراج، ويأتي كل يوم ليرصد الحياة الاجتماعية، ويستعيد لحظات يريد أن يكتبها، ومعه في زاوية من الدوار، يستذكر الأديب والمفكر المهم حسين البرغوثي، وأنا أستذكره أيضا، الآن، وروايته “الضوء الأزرق”.
ها أنا حالي مثل حال أكرم مسلم، أقف في زاوية من دوار المنارة، لكن ذاك الكراج، في رواية سيرة العقرب، لم يعد موجودا، ولذا فقد اتكأت على جدار مواجه للدوار، لأتأمل الأسود التي نحتت ووزعت على زوايا الدوار، ليس فقط تأملا للمنحوتات، بل أحاول هنا أن أستعيد حكاية مرت عليها أجيال، ورددها الكثيرون، لكن الحيرة في من أين أبدأ؟
***
يقال إن هذه الأسود المُوَزّعة في دوار المنارة، كانت أثناء فترة الاحتلال الإسرائيلي محفوظة في مخزن البلدية، حتى لا يدمّرها الأعداء، وقد تمت إعادتها إلى أمكنتها، على الدوار، بعد خروج المحتل من رام الله، وعودة أبنائها ليديروا شؤون مدينتهم.
ترددت حكاية هذه الأسود، على مسمعي، عدة مرات أثناء جولاتي في غير قرية من قرى الأردن، وكل تلك التفاصيل شكلت في مجملها حكاية كان جانبا من نهاياتها، تأسيس رام الله، أو الإقامة في غير منطقة من فلسطين.
إذن فللقصة شقّان؛ جزء منه في الأردن، وهذا ما سمعته من أفواه أحفاد عشيرة الحدادين في قراهم، والجزء الثاني في فلسطين، وهذا ما قرأته، أو التقطت نتفا من تلك التكملة من الأهل الذين التقيتهم أثناء زيارتي هذه إلى رام الله.
تشير الحكاية إلى أن أبناء الحدادين كانوا يقيمون في جنوب الأردن، وبالتحديد في الشوبك، ولهم مواقع في أذرح، ولكن قدوم كثير من العشائر العربية إلى جنوب الأردن جعلهم يفضلون الانتقال من هناك إلى أماكن أخرى.
وقد تجاور “الحدادين” في الشوبك مع إحدى عشائر العمرو وهم القياصمة، وبقوا معهم فترة من الزمان، ثم خرجت العشيرتان (الحدادين، والقياصمة) من الشوبك إلى الكرك، وهذا حدث في القرن السابع الميلادي، ولكن الحدادين رغم خروجهم من الشوبك إلا أنهم بقوا محتفظين بأراضيهم الزراعية هناك، وبقوا يعطونها “مثالثة” لمن يريد زراعتها، في البداية، ثم باعوها نهائيا، واستقروا بالكامل في الكرك بعد العصر المملوكي.
أما فيما يخصّ “قصة صبرة وراشد”، وهما من يرتبط بهما مخطوط تكوين مدينة رام الله، فيمكن سرد تفاصيل سيرة البدء تلك على هذا النحو:
لوحة: سعد يكن
شقيقان اثنان.. كانا في الكرك. وكان اسمهما صبرة وراشد، وكانا من رجال الحدادين، ولهما ذكرهما الطيب، ووضعهما الحسن في مدينتهما جنوب الأردن.
ويقال إن جيرانهما في تلك الفترة كانوا من عائلة تعرف باسم “البنوية”، كما كانت تربطهما مع ابن قيصوم زعيم المنطقة، في تلك الحقبة من الزمان، علاقات وثيقة.
كان الأخوان متفقان، ولكن صبرة كان يمتلك حسا قياديا، وكان حكيما، وذكيا، حتى أنه كان يخزّن الحنطة في الآبار الرومانية، ويدبر أمور الزراعة، ويتطلع دائما إلى المستقبل مخططا لتفاصيله، وبانيا حساباته للقادم من الزمان.
تشير أقوال الرواة إلى أن صبرة رُزق يوما ببنت، وكان ابن قيصوم عنده، فقال له “الحَذِيا يا حداد”( أي أطلب البنت المولودة منك زوجة لي، أو لأحد أبنائي)، فأجابه صبره: “ابشر، جَتَك، وعلى حسابك”.
وتمر الأيام، وتكبر الطفلة، وتصبح فتاة، ويتفاجأ صبرة بأن ابن قيصوم يرسل وفدا طالبا يد ابنته، فيرفض.
يُصِرّ ابن قيصوم، ويكرر إرسال الوفود، وصبرة يرفض، وبعد ذلك يُغير (يهجم) ابن قيصوم على مواشي صبره، ويسلبها.
لكن صبرة يبقى مصرا، فيختطف ابن قيصوم اثنان من أبناء صبره كرهينتين، ويهدد بقتلهما، فيرفض صبرة، ويعمد ابن قيصوم إلى ربطهما بحجر ودحرجتهما من مرتفع “باطن الطويل”، ويتحول اسم هذا المكان بعد موت ولدي صبرا إلى “مدحل ولدي حداد”.
وبعد هذه الحادثة فكر صبرا، وعمد إلى التحالف مع جيرانه “البنوية”، وبعد ذلك أرسلوا إلى ابن قيصوم بمرسال يخبره بالموافقة على الزواج، ويحضر رجال ابن قيصوم، ويدخلوهم إلى المضافة، ويقدم لهم صبرة الطعام بلا ملح، وبعد ذلك يتم الهجوم عليهم ويقتلوهم، ثم يخرج “الحدادين” وعائلاتهم، ومعهم جيرانهم “البنوية” إلى فلسطين عن طريق اللسان في البحر الميت.
بعد ذلك.. وعندما بلغ الخبر ابن قيصوم ركب مع قومه، ولحقوا بـ”الحدادين” إلى البحر الميت، ولكنهم لم يدركوهم.. ثم يصل الراحلون/الهاربون إلى حلحول في قضاء الخليل، ويمضون فيها ستة أشهر، ويتجهون بعدها شمالا إلى بيت جالا وبيت لحم، لكنهم لا يرتاحون في الإقامة هناك، فيلتجئ راشد إلى رام الله، ويستقر البنوية في البيرة، أما صبرة، فإنه لا يستطيع الإقامة في تلك المناطق، ويَحِنّ إلى الكرك. وبعد ست سنوات، يعود مغامرا لوحده، وهناك قصة طويلة حول تفاصيل عودته تلك، وتسويته للوضع مع الشيخ ابن قيصوم.
مكث صبره الحداد عند ابن قيصوم عدة أسابيع، مكرّما في الكرك، ورأى حالة سيئة من الجوع عند الناس، ففتح أحد الآبار التي كان يخزن فيها الحنطة، ووزّعها، وبعد ذلك عاد إلى فلسطين، وأخبر أهله، وإخوته، وأصدقاءه البنوية، بنهاية العداء مع ابن قيصوم، وبنيته العودة، لكن أخوه راشد لم يعد معه، وفضل أن يبقى في رام الله، كما أن “البنوية” استقروا في البيرة، بينما عاد صبرة وأولاده وحدهم إلى الكرك.
هذه قصة البدء، أما ما تبقى من متن الحكاية، فيشير إلى أن هذا المهاجر الذي اسمه راشد الحدادين، اشترى خربة رام الله من عائلات البيرة القدامى، دون أن يعلم هو أنه يؤسس لمدينة سيكون لها دور هام في تاريخ الفلسطينيين.
ولكن راشد الحدادين، الذي نجح في موطنه الجديد، لم يفارقه الحنين إلى الكرك، وتقول بعض الروايات أنه قرر العودة إلى مدينته تلك، بعد وفاة الشيخ المتسبب في رحيله، ولكنه ترك خلفه أبناءه الخمسة، الذين أسسوا عائلات رام الله، وتلك التماثيل للأسود الخمسة في دوار المنارة، في مركز مدينة بيت لحم، تمثل هؤلاء وهم: صبرة، وإبراهيم، وجريس، وشقير، وحسان، وهم أجداد العائلات المعروفة بأسماء: آل يوسف، وآل عواد، وآل الشقرة، وآل الجغب، وآل عزوز.
“الحياة.. حتى آخر قطرة”
كل زهرة في فلسطين لها حكاية.. وللشجر قصص، وللممرات ذاكرة، وللمساحات الخضراء موسيقى مغلفة بالشجن، هناك، حيث تماهيت مع تلك التفاصيل أوّل ما دخلت حديقة البروة التي تضم في حضنها ضريح الراحل الكبير محمود درويش، وكأن للشاعر ديوانه المكتوب من نبض الريف الفلسطيني، بموازاة شعره الذي حاكى فيه فضاءات العالم الإنساني أجمع. أصل متحف محمود درويش، في حديقة البروة، في رام الله، على تلة تطل على القدس.. أهيم في حضرة الغائب.. أقف أمام قبره، والصمت في هذا المقام صلاة، وتداعيات من وحي شعره ونثره وسيرته.
قلت: “سلام على تلك الروح الشفيفة النقية”. قرفصت أمامه، وتلمست الرخام، فشعرت بدفء الترحيب، وكأن الشاعر يبتسم للقادمين إليه، كما الحجيج إلى كعبة شعره، ونقاء روحه، وزمزم إبداعه، ونبيذ سرده.. وكأنه يُذَكّر بتلك القصيدة من ديوان “أثر الفراشة”، وعنوانها “الحياة.. حتى آخر قطرة”.. ها هو يعيد قراءتها:
“وإن قيل لي ثانية: ستموت اليوم، فماذا تفعل؟ لن أحتاج إلى مهلة للرد: إذا غلبني الوَسَنُ نمتُ. وإذا كنتُ ظمآنا شربتُ. وإذا كنت أكتب، فقد يعجبني ما أكتب وأتجاهل السؤال. وإذا كنت أتناول طعام الغداء، أضفت إلى شريحة اللحم المشويّة قليلا من الخردل والفلفل. وإذا كنت أحلّق، فقد أجرح شحمة أذني. وإذا كنت أُقبِّل صديقتي، التهمت شفتيها كحبة تين. وإذا كنت
أقرأ قفزت عن بعض الصفحات. وإذا كنت أقشّر البصل ذرفتُ بعض الدموع. وإذا كنت أمشي واصلت المشي بإيقاع أبطأ. وإذا كنت موجودا، كما أنا الآن، فلن أفكر بالعدم. وإذا لم أكن موجودا، فلن يعنيني الأمر. وإذا كنت أستمع إلى موسيقى موزارت، اقتربت من حيّز الملائكة. وإذا كنت نائما بقيت نائماً
وحالما وهائما بالغاردينيا. وإذا كنت أضحكً اختصرت ضحكتي إلى النصف احتراماً للخبر. فماذا بوسعي أن أفعل؟ ماذا
بوسعي أن أفعل غير ذلك، حتى لو كنت أشجع من أحمق، وأقوى من هرقل؟”.
***
تابعت دخولي مقام متحف محمود درويش.. استقبلني مدير المتحف الصديق سامح خضر، وتجوّلت برفقته في مرافق المتحف وقاعاته وإيماءات درويش المرتبة في المكان؛ لوحات تناجي الغائب، بعض مقتنياته، مكتبه، قلمه، نظارته، ركوة القهوة، بعض أرواقه، والفضاء عابق بروحه، وشعره، ومحبّة العالم له.
تابعت.. ووقفت على إطلالة الموقع، لأشاهد من بعيد أمكنة لم أستطع الوصول إليها، هناك أرى أضواء القدس، وهنا أبثّ المحبّة لها، فقد كانت أمسيتي في المتحف، حيث حضر أصدقاء لم أرهم منذ زمن بعيد؛ عانقت الدكتور إبراهيم أبو هشهش، وفرحت بصديقي الجميل الشاعر ماجد أبوغوش، وكان حاضرا المبدع المخرج إيهاب زاهدة الذي جاء من الخليل، وكان آخر لقاءاتنا في تونس خلال مهرجان قرطاج المسرحي السابق، وبحميمية أخوية التقيت الصديق أكرم الحمري، رفيق ذاكرة الجزائر قبل سنوات طويلة، جاء من بيت لحم، بعد طول غياب لنلتقي في أكناف محمود درويش، والتقيت غيرهم من الأصدقاء.. وكان الحوار دافئا كقلوب الأهل هناك.
مبدعان كبيران
كأن ظلال محمود درويش في كل مكان في رام الله، إذ ليس صدفة أن يكون موقع إقامتي، وفندقي، أمام مركز خليل السكاكيني.. هناك، في فندق “بيوتي إن”، الواقع بمواجهة المركز، كان صاحبه الدمث الطيب المضياف “أبو أندريه”، قد غمرني بلطفه، وفي مساء كل يوم صرت ألتقيه، حيث جلسنا عدة مرات، وفي واحدة من تلك الجلسات حدثني عن محمود درويش، قائلا بأنه عندما تم اجتياح رام الله عام 2002، كنت أقوم ببناء هذا الفندق، وكنت في الوقت الذي يهرب الناس من هنا، أعكف على تعمير هذا المكان، ومصمما على أن أبقى ولا أغادر، وكان هناك عمال يعملون هنا في أصعب الظروف، ذلك أنه حين كان يأتي جنود الاحتلال، كنا نختفي، أو نبتعد، ونوقف العمل.
يستمر أبو أندريه في حديثه: مرة كنت أقف أمام هيكل البناء، وكان الجنود قريبين من المكان، وكنت حذرا، والعمال مختبئين، حين التقطت أذني صوت ارتطام ثمرة فاكهة قريبا مني، والتفتّ إلى الجهة المقابلة، فكان محمود درويش هو الذي رمى الثمرة، ويشير لي بأن الجنود قد ابتعدوا، فاقتربت باتجاهه، بعد أن أشرت للعمال بمواصلة أشغالهم، ثم تمشيت معه قليلا في الشارع المجاور لمركز خليل السكاكيني.
هكذا يحضر درويش، ومض ذاكرة حميمية وفيض حكايات تروى عند كثير من أهل البلاد هناك، وكنت أنتظر صديقي يوسف الشايب الذي لم يتأخر على موعدنا، واتجهنا مباشرة من باب الفندق مشيا إلى مركز خليل السكاكيني، فالمسافة التي تفصلني عنه عدة أمتار، ودخلت وصديقي المركز، ووقفت عند بورتريه طولي لدرويش، ثم مضينا إلى مكتبه، وجلست قليلا هناك في حضرة الشاعر، ثم تجولت داخل المركز الذي يحتوي في جنباته ذاكرة عظيمين، مبدعين، هما خليل السكاكيني (1878-1953)، ومحمود درويش، وكل واحد عاش في زمن مختلف، لكن كان أثرهما عميقا ثقافيا وإنسانيا.
***
تنبض الذاكرة بمنهاج الدراسة الابتدائية، وكنت ممّن درسوا العربية من خلال كتاب خليل السكاكيني للصف الأول الابتدائي، والذي يبدأ بدرس كلمتي “راس.. روس»، وكانت الصورة تثري الكلمة، كان هذا أثره واضحا، هو الذي أسّس في المناهج التربوية، وقد كان شاعرا، ومعلما، وسياسيا، ومفكرا.
أستعيد جوانب من تلك السيرة، أكثر، وأنا أتجول في مركز السكاكيني في رام الله، مما عاينته وقرأته، وقد استذكرته حين كانت لي زيارة إلى قرية أبو اللسن، في معان جنوب الأردن، وورد أنه التحق بالثوار في هذه القرية، وهنا أعود بالزمن إلى عام 1918، حيث أن خليل السكاكيني سجن لدى العثمانيين، وكانت إقامته الإجبارية في دمشق، ثم هرب هو ومجموعة من الشباب الأحرار، للالتحاق بجيوش الثورة العربية الكبرى، وقد مروا في طريقهم على قرية القريا في جبل العرب، وتابعوا مسيرهم إلى جنوب الأردن، إلى قرية أبو اللسن، وكان هناك الأمير فيصل بن الحسين قائد جيوش الثورة العربية الكبرى، وكتب هناك نشيدا وطنيا، صار نشيد الثورة العربية الكبرى.
يا الله، كيف يكون للتاريخ طعم مختلف، عندما يأتي هذا الربط الوجداني، عفو الخاطر، بعد عشرات السنين، على هذا النحو، وها أنا الآن في رام الله، وفي حضرة الكبيرين (السكاكيني، ودرويش)، وأستعيد النشيد الذي كتبه السكاكيني، في ذاك الوقت:
أيها المولى العظيم فخر كل العرب
ملك الملك الفخيم ملك جدك النبي
نحو هذا الملك سيروا قبل فوت الزمن
وعلى الخصم أغيروا لخلاص الوطن”.
تداعيات كثيرة حملتها زيارتي لمركز السكاكيني، وأعادتني إلى مرحلة عاشها، وقصة حياته، وتفاصيل نضاله، وإنسانيته العالية، ومواقفه الوطنية، كل هذا كنت أتلمّسه، حتى وأنا أقف تحت شجرة التين العتيقة التي ما زالت صامدة أمام الدرج المفضي إلى بورتريه درويش، ومكتبه.