أوراق مجنونة
1
ها أنا عالق مع مفرش الطاولة الدمشقي
ها أنا عالق مع مفرش الطاولة هذا، مفرش باب الحارة وكل المسلسلات السورية نفس المفرش الذي تركته أمي في المنزل وتركتني معه لنعدّ ما تبقى من دقائق وأيام وشهور.. لكن مفرش الطاولة لا يعرف العد بل يعرف تجميع الأغبرة التي لن يبقى من يزيلها..
انتشر هذا النوع من الأغطية في دمشق أو الشام في سنوات السبعين البهية من القرن العشرين.. ومن ثم عبر الحدود.. إلى أين؟ إلى هنا “طول عمرك يا زبيبة”.. الحدود مقفلة طيلة عمرها وهي مقفلة الآن أكثر من أيّ وقت مضى.. لا أمي بقيت ولا الشام سلمت وبقي هذا المفرش المطرز بغير عناية فائقة والشهير.. أذكر عندما كنت أصغر كنت أتراهن مع جدتي ومن ثم والدتي قبل كل مشهد في أيّ مسلسل سوري من فئة “البيئة الشامية” أو الدراما الاجتماعية بأن المفرش سوف يظهر أثناء تجهيز “ست البيت” القهوة للمرة الألف خلال الساعة التلفزيونية، فكل قطع بين مشهد وآخر ينتهي بفنجان قهوة جاهز أو أن أحدهم يغليه ليقدم على أغطية كثيرة مثل هذا الذي تبقى لي.. هنا أمامي.
***
كأس العرق له في الشام طعم آخر.. أسطوري وخرافي وما بينهما، إضافة إلى اللوز الأخضر، أما طبق التبولة فهو حكاية أخرى.. هو متبل أو فلنقل مجبول بكل ما هو ساحر.. بالخير والوفرة.. طبق التبولة كان يصنع في الشام بينما يجري نبع خاص من تحته.. كل طبق في الشام له نبعه الخاص الذي يجري تحته أثناء تجهيزه، الحمص، البابا غنوج، اليلانجي، المكدوس، والكبة.. آخ من الكبة..
الشلالات تتدفق بين صواني الكبة، أما الماء فطعمها مسك، والقهوة طعمها زنبق، والحليب رائحته ياسمين، والليمون يقطر عسلا.. والجبنة البلدية تفيض حنانا..
هذا ما كان يقوله أبي عندما كنا نجلس سوية لمشاهدة مسلسل سوري قبل ظهور المفرش وبعده.
مات أبي، واتضح بعدها في جهاز كشف الكذب الذي خضع له في المطهر أنه كان يكذب طيلة الوقت. وأنه لم يزر الشام أبدا. وأن لا مكان اسمه “الشام” على الخريطة أصلا، وأنه مجرد اختراع للرومانسيين المغالين في اشتياقهم لما لم يكن أبدا.
ثم.. ماتت أمي. فكيف وصل هذا المفرش من الشام إلى هنا؟ لا علينا.
وها أنا أحاول تهوئة البيت وأجلس أمامك أيها المفرش الغبي علّني أنجح في شرب فنجان واحد من القهوة، فنجان واحد قد ألطخك بتفله.
2
قفص خشبي قديم
عليك أن تدخل بيتا كبيرا يقطر شمعا موجعا عمره 60 عاما في حجرة (فيما يلي: البيت).. كتبي الكيمياء بجميع اللغات ودفاتر المعادلات الصعبة مثلا. معادلات الأكسدة والحرق والاختزال، وتفتيت اللحم بحامض الكبريتيك.
عليّ أن أختار معادلة واحدة، دفترا واحد وكتابا واحداً وبعض الروايات والصور.
كمن يقف أمام محرقة بشرية وعليه اختيار ولد واحد من أبنائه لينجو
• صورة عائلية قديمة في بحيرة طبريا لحظات قبل أن يغرق فيها طفل كان يلهو معنا لتبدأ حسابات جديدة.
• رواية “في بيتنا رجل” لإحسان عبدالقدوس وقد قضمت أطراف غلافها الفئران قبل عشرين عاما أو أكثر.
• رواية “لا ليس جسدك” لإحسان عبدالقدوس وقد تغيرت أحداثها تماما بعد أن عدلها الجنون الذي دخل مخبأها ولم يخرج.
• شريط فيديو يقال إنه لقرش يلتهم رجلا.
• أغطية الرأس من الدانتيل تضعها النسوة في الكنائس لحجب دموعهن أو غوايتهن عن النظر.
• أقراص دواء تغير لونها وتلاشت مادتها الفعالة لتصبح حبات رمان.
• أسطوانة سوداء قديمة مجرحة لمقامات عراقية لم أسمعها من قبل.
• فيلم بورنو من فترة النهضة الإباحية الألمانية.
كمن يقف أمام مخلفات قصف غادر لبيته وعليه اختيار شيئا واحدا يلخص كل ما قد فات
• دفتر أرقام الهواتف الذي ألفته أمي بخط يدها.
• قبل أن يخترعوا الهاتف النقال.
• عندما اشتريت أول هاتف نقال.
• عندما كان رقمي من 8 خانات.
• عندما غيرت رقمي.
• عندما أصبح رقمي من 9 خانات.
• عندما غيرت رقمي مرة أخرى.
• عندما أصبح لدي رقمان.
• عندما كتبت أمي اسمى الشخصي فقط.
• عندما كتبت أمي اسمي الشخصي واسم العائلة.
• عندما انخفض عدد الخانات من 9 إلى 7.
• عندما خسر اسمي الشخصي حرفا واحدا.
• عندما أصبحت بلا اسم عائلة.
• عندما أصبح رقم هاتفي بدون خانات تذكر.
كمن يقف أمام ركام سنينه وعليه اختيار يد مبتورة واحدة من جسد صباه (وفق ما ورد: البيت)
• سأختار قفص عصافير أبي الخشبي القديم هذا.
• ما زالت فتحة الماء المتشققة.
• فيه تنتظر أن يرويها أحد.
• سأعبئ في القفص كل هذا الغياب..
3
يبدو أنني آخذ الأمور البديهية بدراماتيكية مفرطة
1
أعود إلى البيت لأنتحر
ولكن قبلها
أفتح الفيسبوك
كيلا يفوتني مع ذلك شيء
لأجد صورة:
ثلاثة أصدقاء من شعراء النثر وكتاب النثريات الشعرية
أو فلنقل معارف ممن يقولون لي:
“حبيبي”
يجلسون في مقهى في إحدى مدن فلسطين العامرة
يشددون في النص على كونهم صعاليك يلتئمون على هامش المدينة المزيفة
ويضعون أمامهم طبقا تبدو محتوياته
كمشهد غير ممنتج من تفجير حدث لتوه في وسط بغداد
طبق من لحمة الرأس وفظائع أخرى.
أقرر تأجيل انتحاري قليلا
يبدو أنني آخذ تلك الأمور العادية بدراماتيكية مفرطة
وبإسقاطات كئيبة للغاية.
2
أدخل إلى غرفتي لأنتحر
ثم أخرج من غرفتي لأطفئ السخان
كيلا يحصل انفجار
تنقطع الكهرباء في عز البرد
يذكرني ذلك بيوم مخمور بالصقيع
حين دفنت أمي وعدت لوحدي إلى البيت
لأجد العتمة بانتظاري
حين انقطعت الكهرباء
هل الكهرباء أنثى أم ذكر؟
3
أحلق في منطاد لا يود أن يتفكك لأنتحر داخل جب خواء ذات يوم أحد
يبدو أن المنطاد أكبر من أن يتمزق بصمت عند ملامسته الأرض
أعرف ما يمكن فعله في هذه الحالة
على أن أثبّت أحدهم على الحائط المقشر
والتهمه ببطء
أطهو لحمه على نار بطيئة
وأوازن الرائحة برش شذرات رقيقة من حامض الكلورين الطبيعي
يخرج العميل المتواطئ من القدر الذي يطهى فيه
ما أجمل هذا الشمعدان..
هل تحتاج هذا الجهاز الخلوي.
نعم أحتاجه، به صور من ماض قريب جارح
أنا ذاهب.. حبيبي
أجرتي لو سمحت؟
مئة دولار..
لكن مقابل ماذا؟
مقابل ما أملكه من عظام غضة.
” لا يمكن أن يصل السرد إلى هذه الدرجة من الرداءة” أقول لنفسي
كما.. يبدو أنني آخذ تلك الأمور البديهية بدراماتيكية مفرطة وبإسقاطات كئيبة للغاية.
***
أخرج محفظتي من جحرها الشقي.
***
عام على غياب أمي: أتذكر كل شيء من ذلك اليوم ولا أتذكر شيئا…أتذكر كيف كنت أتجوّل في غرفة العناية المركزة في المستشفى الملوث بشعور”ماذا تريدون منى”؟ الممرضة قالت إن جهاز المونيتور معطل بسبب ضغط الكهرباء وأن القيم الحياتية تهبط وتلامس الصفر بسبب ذلك، وأتذكر كيف قرر أقاربنا أنه حان الوقت لإحضار الخوري ليصلي عليها وحتى الآن لا أعرف متى يعرف الأشخاص ما هي اللحظة التي يجب إحضار الخوري فيها، كيف يعرفون وكيف لا أعرف أنا، أتذكر أننا وجدنا خوري روم أرثودوكس كانت والدته تحتضر في الغرفة المقابلة فبادرت بسذاجتي وأحضرته ليصلي على أمي وسط استغراب الجميع لأننا كاثوليك والله لن يتقبل ذلك، فتم إحضار خوري كاثوليك أو لاتين كي يكون الاحتضار سويا، أتذكر أن رجلي دين صلوا على أمي في ذلك اليوم، أتذكر كيف كانت تغيب عن الوعي فتتهاوى الأرقام وثم تستيقظ فجاء وتحرك عينيها بـ180 درجة لتبحث عني ثم تستقر عيناها عندما تجدني وتبتسم ثم تغيب مجددا وأنا أقف كالبله مفرغا من كل شيء وتقع عيني عبر النافذة الماطرة في ذلك اليوم شديد البرودة على المدرسة التي كنت أعلم فيها وتحديدا قاعة الفنون وأفكر فيما تفعل الطالبات الآن في هذا اليوم الرتيب من وسط الأسبوع، وأتمنى أن أكون هناك كي لا يكون كل هذا. تموت أمي وأشعر أن بداخلي كيسا من الكلكار الأبيض، حتى وأنا أنتحب في الممر. لا أريد كل هذا. أريد إلغاء كل أعمالي لهذا اليوم ومشاهدة فيلم رومانتيك كوميدي ليو غرانت الأحمق في البيت وكأن شيئا لم يحدث.
ما لا أتذكره تلك اللحظات أو الساعات الفاصلة بين وضعي لرأسي على الوسادة في تلك الليلة، وغفوتي. وجسد أمي المنتظر في الثلاجة.