عن الشعر في مصر.. عندما نحاول أن نستنطق التجربة وفق أهوائنا
تتجاوز المشكلة عند أثير الطابع التعميمي الذي لا يمكن من خلاله الحكم على أيّ تجربة، لا سيما إذا كانت هذه التجربة بعمر وثراء التجربة الشعرية في مصر، والتي هي امتداد لثراء التجربة الأدبية والثقافية في هذا البلد الذي شهد أول مشروع نهضوي، وأول محاولة للتفاعل مع الحداثة الغربية، كان من نتيجتها ظهور أعلام النهضة والتجديد في الفكر والثقافة العربية .إن هذا الدور الذي لعبته مصر على هذا المستوى يظهر المغالطات التي وقع فيها الكاتب عندما حاول أن يبرر موضوعيا أسباب حكمه على هذه العلاقة بين المصريين والشعر .ولعل هذا كله هو ما دفع الكتاب والأدباء والصحافيين من بلاد الشام للتوجه إلى مصر للاستفادة من هذا المناخ، على خلاف ما يذهب إليه الكاتب في استنتاجاته المغلوطة.
المغالطة الأخرى التي يقع فيها أثير حول تبريره لضعف سوية الشعر في مصر هي الحديث عن دور الجغرافيا في ذلك، ولو كان ما يقوله صحيحا فما الذي جعل الحضارة الفرعونية عمرانا وأدبا وفنا وعلما أن تبلغ هذا المستوى، وأن تحتل هذا الموقع المتقدم في تاريخ الحضارة الإنسانية .فهل الجغرافيا التي لعبت دورها الكبير في نشوء هذه الحضارة، تؤدي دورا عكسيا بالنسبة إلى الشعر والشعراء في مصر، في الوقت الذي خلف فيه الفراعنة الكثير من الأشعار والأساطير التي تركت آثارها المعروفة على الثقافتين اليهودية والمسيحية القديمتين؟
تبدو القراءة الانتقائية في أفضل حالاتها عندما يتحدث عن الحاضنة اللغوية والتاريخ وعلاقة الثقافة والتعليم بالسلطة أو علاقتها بالثقافة الغربية من أجل تأكيد ما يذهب إليه من خلاصات يبرر فيها رأيه حول تدني واقع الشعر في مصر، لكنه ينسى أن الكثير مما يقوله ينسحب على باقي الأقطار العربية ولا سيما العراق لأن مصر الفرعونية التي تحوّل جزء من سكانها إلى المسيحية قبل وصول الإسلام إليها لا تختلف عن عراق البابليين أو الآشوريين السريان وهي شعوب لها لغتها وثقافتها الخاصة أيضا، في حين أن علاقة الفصحى بالعامية تعد إشكالية عامة في العالم العربي لم تستطع اللغة الفصحى رغم انتشار الإسلام أن تلغيها.
وبينما يحاول أن يتخذ من ظهور مدرسة الديوان وجماعة أبولو دليلا على عجز الشعر والثقافة في مصر عن إنتاج شعر ثريّ الدلالة ومتطور فنيا، فإنه يغالط نفسه لأن تأثير الشعر والثقافة الغربية على الشعر والثقافة في مصر كان أسبق وأكبر من أيّ مكان آخر، والتجربة التي قدمتها هاتان المدرستان إلى جانب ما قام به الشعر المهجري، هي جزء من سيرورة التحول الذي مهّد لظهور تجربة قصيدة التفعيلة، وهو ما يحسب لصالح التجربة الشعرية في مصر وليس عليها.
لم يكن شعراء مصر هم من توجوا شوقي أميرا للشعراء بل شعراء من الشام والعراق ومصر فهل كانت ذائقة كل هؤلاء الشعراء وفهمهم للشعر متخلفة حتى منحوه هذه الإمارة، أم أن الكاتب أراد أن يصحح التاريخ الشعري بناء على ذائقته الخاصة ورؤيته للشعر .والحقيقة أن الكلاسيكية برموزها الكثيرة في العراق أو مصر أو الشام تتباين من حيث القيمة والمستوى، ولو أردت شخصيا أن أقرأ شعر الجواهري على سبيل المثال لما وجدته يتعدى توظيف خزينه الشعري الكبير في كتابة قصائده، وقد ظلّ على هذه الحال رغم معاصرته لأكثر من جيل من شعراء الحداثة، فهل يصح أن أحكم على الشعر في العراق من خلال شعره .من حق أثير ألا يعجب بشعر شوقي أو حافظ إبراهيم لكن لا يمكن أن نضع العربة أمام الحصان، ثم نحاول أن نبرهن على صحة ذلك.
لا أحد ينكر أهمية شعر شوقي في إطار حركة التجديد الكلاسيكية، كما لا أحد يستطيع أن ينكر أهمية تجربة صلاح عبدالصبور ولا محمد عفيفي مطر أو أمل دنقل في إطار تجربة الشعر العربي الحديث .أما بخصوص التأثر والتأثير فهذه ظاهرة طبيعية لا تخلو منها تجربة داخل الثقافة العربية، التي عكست في قيمها الجمالية والنفسية والفكرية ملامح تتقاطع مع بعضها البعض في مصر والعراق والشام نظرا للسياق الثقافي والاجتماعي التي عبّرت هذه الحركة عنه.
إن مقارنة موضوعية بين واقع التجربة الأدبية والفكرية في مصر وغيرها منذ القرن التاسع عشر تظهر تقدم هذا الواقع على غيره من أقطار الوطن العربي والأمثلة على ذلك كثيرة حتى بالنسبة إلى الحركة السياسية .ولو أخذنا تجربة الكتابة الروائية والقصصية في الوطن العربي على سبيل المثال لوجدنا أن هذه التجربة بينما كانت في مصر ترسّخ جذورها وتراكم منجزها، كانت في المشهد الأدبي العربي تتلمس طريقها تحت تأثير الرواية في مصر عليها، ومن الإجحاف نكران ذلك.
والغريب في أطروحات الكاتب أنها تحاول أن تجرّد الشعر الفصيح والعامي معا في مصر من شعريته، في الوقت الذي استطاع فيه شعراء العامية المصرية كسيد حجاب والأبنودي وأحمد فؤاد نجم والشرقاوي وغيرهم أن يدخلوا إلى كل بيت عربي تقريبا، فكيف استقام لأثير أن يسلب كل هذا المنجز على الأقل شعريته، وأن يصل إلى ما وصل إليه من أحكام قطعية ومبرمة بحق هذه التجربة المتقدمة في الشعر العامي العربي.
إن النهضة الثقافية التي عرفتها مصر في القرن التاسع عشر هي التي استقطبت الكتّاب والشعراء والصحافيين العرب، لا سيما من بلاد الشام، ولو لم تكن هذه الحاضنة التي أشاعتها الثقافة الليبرالية والنهضة الثقافية هناك، لما وجد هؤلاء الأدباء حافزا في القدوم إليها والمشاركة للاستفادة من هذا المناخ والمشاركة في إثراء الحياة الفكرية والثقافية فيها .لذلك ما أراد أن يجعل أثير منه حجة لسلب هذه الحاضنة الثقافية قيمتها ودورها المشهود، هو في حقيقته برهان على تقدم هذه الثقافة وقدرتها على استقطاب واستيعاب أيّ جهد أو مساهمة ثقافية عربية، وهو ما يدل على انفتاحها وتفاعلها الإيجابي الذي ما زال ماثلا حتى الآن مع الثقافة العربية ورموزها بصورة عامة.
لقد شكلت مصر تاريخيا نقطة استقطاب بين الشرق والغرب، ساهم موقعها الجغرافي والحضاري في أن تلعب هذا الدور الريادي، الأمر الذي جعل الحياة الثقافية والسياسية فيها أكثر انفتاحا وتفاعلا مع محيطها العربي والأوروبي، عززته قيم الثقافة الليبرالية السائدة، في حين كانت الحواضن العربية الأخرى ما زالت محكومة بطابع العلاقات التقليدية المحافظة، ولا ننسى الدور الذي لعبته الجاليات الإيطالية واليونانية والانكليزية واليهودية في تعزيز هذه المظاهر وإثراء الثقافة والفن هناك .كذلك لعب الاتصال المبكّر بالغرب والحضارة الغربية منذ حملة نابليون ومشروع محمد علي النهضوي دوره الهام في تطوير وإغناء الحياة الثقافية .لقد أسهم كل هذا في تطور الثقافة في مصر وخلق حاضنة ثقافية ساهمت في تطور الآداب والفنون هناك لا سيما الرواية والمسرح، حيث لا يستطيع أحد أن ينكر ريادة مصر وتقدمها في هذا المجال، فهل كان الشعر في مصر يتحرك وينمو خارج هذا المشهد أم داخله، وبالتالي كيف يتطور هذا الجنس الأدبي بينما تتعثر ولادة جنس آخر لم تنقطع على الأقل صلته العميقة بحاضنته الثقافية العربية؟