التين والزيتون
تعال معي نتجول في أربع جهات الأرض التي تحيط بقريتي “سحماتا”، نتعرف على تينها دون أن أنسى زيتونها وأنواعه وصبرها وأنواعه، ولكني في هذه العجالة أقتصر على التين فمعرفتي به أوثق، ومذاقه في فمي أوضح وتسلقي لأشجاره أكثر، وما لاقيته من أذى في الحصول عليه أكبر.
لا تستعجل تذوق لذيذ طعمه فنحن لا نزال في الربيع وهو الفصل الذي يختاره الناس في الغالب لإقامة الأفراح والليالي الملاح .ومن حسن حظنا أن نرافق العريس في “الطوفة” من الرحبة إلى بيادر تين الحوز .وبما أنني هنا لا أوثق للعرس بل للتين، فها نحن في آخر البيادر حيث كروم تين الحوز .أشجار وارفة الظلال تفسح صدرها لشيوخ القرية يستريحون في ظلالها المباركة تاركين الشباب والصبايا في حلقات الدبكة، وهذا المكان هو الأنسب للأعراس .بيادر خضراء فسيحة وجميلة وظلالٌ كريم ونسيم عليل .أقول هذا لأنّي حضرت أكثر من عرسين في غير هذا المكان، أحدهما في شمال القرية وتحت أشجار الزيتون، وأمامه الشارع العام .وعرسٌ آخر في جنوب القرية ولكن في أيام الدراس والتذرية .لا شك أن العِرسان كانوا سعداء أما أنا فاستشعرت الفرق بين عرسٍ وعرس.
هكذا كانت شجرة التين جزءاً من أفراحنا وأعراسنا وسعادتنا .وحيث أننا في موسم التذرية والمحصول من قمح وشعير وعدس وغيره فهو أيضاً موسم التين .لا تظن أنني سأسجل هنا جميع كروم التين وعدد أشجاره، بل أكتفي بنظرة طائرة على أماكن مختلفة والتي تركت أثرا في نفسي ومذاقاً في فمي.
فهناك تين البلّانة وهو مشهور بجودته ومذاقه وهو يقع شرقي البلد، وهو على ما أذكر من النوع “الشحماني أو البياضي” والكرم الأشهر هو كرم يوسف حمادة .وفي الناحية الشرقية الجنوبية أيضا كروم واسعة تمتد من بيادر الحارة التحتا وطريق العين إلى تين حمودة وجواره، من أسماءٍ كثيرة غابت عن الذاكرة، ولكني أذكر هنا عامود تين “حْماري” في كرم لنا في تين حمودة .وهناك شجرة صغيرة من نوعه وإن كان شكل ثمرها يشبه شكل الإجاصة ويجاور أرضنا كروم العين عامود “حْماري” أظنه لدار أيوب.
وفي كرمنا كرم البيدر أو تين عباس شجرة واحدة من النوع “الخْضاري”، كنت أتسابق أنا وابن عمي إلى قطف ثمرها فليس في الكرم غيرها .وإلى جانب هذا الكرم، كرم تين من النوع ” البُقراطي” لسليم دوخي عم والدي وأشجاره كبيرة وهو الذي ثار شجارٌ بينه وبين جدي عندما ضبطني متسلقاً إحدى أشجاره.
وأذكر شجرة من النوع “الشامي” وأخرى من “السْوادي” على طريق درب الدورة لخالتي تمام عزام ولأخويها .وأذكر شجرة كبيرة من النوع البْياضي أظنها إلى الشرق من القلعة في الحارة الفوقا كما لا يفوتني أن أذكر تينة “شْتاوية” في دار الشيخ يحيى الجِشّي وقد رأيته يجلس تحتها وكنت في الصف الابتدائي الأول، فكتبَ حرف ميم “م” وقال ما هذا؟ فقلت “إم”، فقال: شو إمّك؟
كان شيخاً خفيف الظل ومهيباً وتقياً وكان والدي عندما تتأخر دابة ولا تأتي بعد المساء يعطيني سكيناً من النوع الذي ينطوي ويقول لي: روح لعند الشيخ يحيى يربطلك ثِمْ “فم” الوحش .وكنت آخذ السكين ويفتحها الشيخ يحيى ويقرأ عليها ويقول لي: لا تفتحها .الناس تؤمن بأن هذه القراءة تحول دون أكل الوحوش للدابة .والوحوش كثيرة ذئابٌ وضباع وغيرها .الذي أعرفه أنه تأخرت لنا دابة حمارة وربطتُ فم الوحش عنها .ذهبت في اليوم التالي أبحث عنها حيث تأخرَتْ ولم ينتبه لها الراعي .وجدتها تحت شجرة زيتون حوالي العاشرة صباحاً .كانت واقفة لا تتحرك كمن يخشى شراً، ركبتها وجئت بها إلى البيت .أنا لا أوحي بشيء وإنما أروي أحداثاً.
هذا الشيخ الجليل والذي رأيت عنده جرن قهوة ومحماسة وكتباً قرأت منها بعض صفحة من كتاب كليلة ودمنة ولم تعجبني .فقد اصطدمت بكلمات مثل دبشليم وبيدبا فأعدت الكتاب إلى مكانه في طاقة في جدار البيت.
أقول الشيخ يحيى يستظل شجرة التين الشتاوي وهي شجرة كبيرة تلفت النظر وقد سمعت أنه قال: سيحتل اليهود البلد ودعا الله أن يموت قبل أن يراهم، فمات قبل الاجتياح بثلاثة أيام إذا صحّت ذاكرتي.
كما أسجل هنا شجرة التين التي خلف بيت توفيق العبد قدورة وقد تسلقتها أفعى وأطلق عليها العبد شَرَف وهو أحد “الغُضباء” النار من مسدسهِ وقتلها.
وقبل أن أنسى أذكر شجرة التين التي استقرت فوق عين النمر في وادي الحبيس وهي الأكبر التي رأيتها في حياتي .كما لا يفوتني أن أذكر شجرات من التين “الشماطي” وثمره أكبر أنواع التين، تكون الواحدة بحجم الإجاصة .رأيت وتذوقت هذا النوع من شجرات قرب بيت الشيخ محمود الجشّي على الطريق الفرعي المؤدي إلى الشارع الرئيسي.
وعليّ أن أذكر هنا أنه يمكن تطعيم شجرة التين بأنواع مختلفة، فتستطيع أن تحصل على سلة تين أنواعه مختلفة من شجرة واحدة .كروم واسعة ومباركة سجّلت بعض الأشجار التي ربطتني بها علاقة ما، فهناك تين الحوز، وتين البيادر، وتين البياضة، وتين حمودة، وتين نشوان، وتين البلّانة، وهذا ما أذكره على سبيل المثال لا الحصر.
هذه ثمار بلادنا التي أُخرِجنا منها بالقوة والبطش وها أنا يذهب بي العمر، ولكن أرضي تبقى أرضي وأرض أبنائي وأحفادي .بتينها وزيتونها وسهلها وجبلها، بوديانها وغدرانها، بكل ذرة ترابٍ فيها مقدسةٌ هي مقدسة .سلام على فلسطين.
* المنشور فصل من مذكرات ويوميات بعنوان “جولة في الجليل الأعلى”