فانتازيا الأحلام متلبسة بسريالية الواقع
تتضمن هذه المجموعة القصصية أربع عشرة قصة قصيرة نذكر منها “نكات للمسلحين” و”غراموفون” و”بسكويت” و”أكواريوم”و”برداية” و”سينما” و”نكتة” و”ماتادور” و”الحمال” و”برداية”، و”خوان وآوسا سيندروم” و”أحلام الآخرين”.
وتتميز “نكات للمسلحين” بكتابتها السيكولوجية السوسيولوجية حيث تغوص في أعماق النفس البشرية وتقلباتها بطريقة فانتازية سريالية من خلال مجموعة من الوقائع المتلبسة بالأحلام لطفل يعيش الحياة باندفاع وسخرية عميقة “حلمت بأن لأبي عينا زجاجية”، وراو يتلاعب بالأحداث وبنا وبالطفل فيخلق له عائلة غريبة بين أخ توأم أبكم لا يتكلم وأب ذي عين زجاجية يحاول اختراع النكات كي ينجو من براثن ومضايقة المسلحين في طريق عودته من عمله، وأمّ متحولة متلونة فمرة هي أمّ مثالية ومرة هي مريضة نفسية تتردد على مصح الأمراض النفسية “أمي هادئة في المقعد الخلفي .وأنا أسرد نكتة لزوجتي وأقود السيارة .نحن في طريقنا إلى مصح الأمراض النفسية والعقلية” ..وخال ماتادور يموت ثلاثة مرات ويبعث من جديد “في أسبوع واحد مات خالي ثلاث مرات .بدأ خالي ماراثون موته يوم الثلاثاء بعد مجيئه مباشرة من المسلخ”.ويدخل هذا الطفل الحالم هو وعائلته في علائق عجيبة وغريبة مع محيطه لتتوالد الحكايات الساخرة في قص مكثف وجميل.
المجموعة عبارة عن كابوس سريالي جميل تتواشج فيه كل متناقضات الواقع والخيال ..أليس الواقع اليوم أكثر سريالية وغرائبية من الأحلام والخيال .وتتكثف هذه العبثية وهذا التناقض الجميل منذ العنوان “نكات للمسلحين” لتتواصل على كامل ردهات المجموعة سخرية سوداوية وضحك مشوب ومتلبس بالبكاء ..كما تحضر الحرب ببعدها الرمزي المجرد في أغلب القصص تقريبا ولكن القارئ يلامس تأثيرات هذه الحرب على كل الشخصيات بطريقة فنية سلسة وغير مباشرة.
وهذه هي أكثر النقاط المضيئة في المجموعة التي نجح فيها مازن معروف حيث استطاع تحقيق هذه المعادلة الصعبة في المزج بين الأحلام والكوابيس وبين الواقع والخيال المجنح، فكان يدس الفرح في الحزن والشجاعة في الخوف كما كان يسخر من الحرب من خلال أنسنتها وتصعيدها فنيا وإبداعيا في نوع من الإعلاء .أليس مازن معروف هو نفسه أحد ضحايا الحرب والمنفى وحياة التشرد والتسكع التي عاشها بين مخيمات بيروت وبرد وثلج أيسلندا بعيدا عن أمه الحقيقية فلسطين. وربما تصل السخرية من الحرب والواقع قمتها حين يحضر هذا الكائن المخيف المدمر -الحرب- بصيغته الماضية والحاضرة والمستقبلية حتى ولو اضطر الطفل الراوي استحضاره لا لشيء إلا ليهزأ منه ويستقطبه ويجنده فيصرخ “لو عادت الحرب، فسأكون شخصاً له وجه يخوّف”.
الأدب والإبداع هو نوع من الاحتجاج على الواقع وقصص “نكات للمسلحين” هي احتجاج فنيّ على طفولة مترعة بالغربة واللجوء والتشرد واليتم الوطني، وذاكرة مشرعة على الحنين والخوف والوحشة والحلم والكوابيس والحرب من خلال قصص مضمّخة بالسّخرية وشخصيات مثقلة بالتعب والتناقض، تتوارث الآلام والترسبات النفسية والتشوهات الجسدية للحرب مثل القذيفة التي تصيب الباص الذي يحوي أمثال شقيقه من صمّ وبكم وعمي، وتقتلهم .والأخ الأصم الذي يعرضه أخوه للبيع لأنه سمع أن المسلحين يتاجرون بالأعضاء وهي التجارة الرائجة زمن الحروب.
والطفل المصدوم -حتما من الحرب- الذي يقضي حياته لا يعرف الابتسام رغم توسل أمّه له وهي على فراش الموت ورغم حضور الجيران وتوسلهم له “أمضيت جل حياتي لا أجيد الابتسام، بت الآن أعرف بأنني الرجل القادر على قتل الناس بدعابة” .وكذلك النكات التي يقضي الطفل الليل -هو وأبوه- يصنعها لكي يعبر حاجز المسلحين، ودون أن ننسى أيضا مشغّل الغرامفون الذي فقد ذراعيه جراء قذيفة أصابت البار الذي يشتغل فيه، ولكن برغم كل هذه المآسي الظاهرة يبقى الأمل والتحدي والصمود هو القاموس المعلن في هذه القصص العجيبة، فمثلا في قصة “غرامفون” رغم موت جميع من كان في البار لحظة سقوط القذيفة ينجو الأب ويبقى الغرامفون يشتغل وتعم الموسيقى المكان والفضاء في تحد كبير للموت، كما تصبح السينما -الفن- هي الملجأ للعائلة والجيران من الحرب في قصة “سينما” فنقرأ “حدث الأمر كله في اليوم الخامس لاتخاذنا السينما ملجأ”، هو إذن القص والفن ملجأ والإبداع المتحدي وكأننا بمازن معروف يستعير من درويش صرخته المتحدية في الجدارية “هزمتك يا موت الفنون..”.
وإذا كان كافكا “راهب الرواية المتشائم” فإن مازن معروف هو راهب القصة والكابوس الضاحك الحالم ..الذي نجح في “نكات للمسلحين” من التقاط اليومي المعيش والحروب التي طالما لازمت البشرية، بطريقته الساخرة وبكافكاوية وحالة من الإعلاء النفسي ومداواة لجراح الروح، روح الطفل الفلسطيني الذي نشأ في ملجأ في بيروت .كما نجحت هذه القصص في تكسير حاجز اللغة وحاجز المكان والزمان والمنفى الداخلي والخارجي والأسلاك التي تنبت مع كل فلسطيني منذ ولادته.
وللإشارة فإن مازن معروف شاعر وصحافي فلسطيني كتب في النقد الأدبي والمسرحي للعديد من الصحف والمجلات في العالم العربي وفي أوروبا .ترجم إلى العربية أربع روايات ومختارات شعرية وقصصية لشعراء وكتاب من العالم .كما ترجمت بعض قصائده إلى الفرنسية والإنكليزية والسويدية والألمانية والصينية.