اللهجة العامية والنص الأدبي
فهناك في العراق مثلا اللهجة الجنوبية وهي أيضا مختلفة بين مدينةٍ ومدينةٍ بل بين منطقةٍ وأخرى داخل المحافظة الواحدة، كما هو في كربلاء مثلاً فلهجة المدينة تختلف عن لهجة ناحية الحسينية وبالتحديد لهجة المسعود التي قد لا تفهم حتى من أهالي كربلاء وكذلك لهجات المناطق الغربية وأهل الموصل مثلما هي تختلف في مصر بين أهالي القاهرة والإسكندرية والصعيد مع الكثير من الاختلاف في طريقة النطق والمعنى كذلك.
وقد أطلق البعض من المؤرخين على اللهجات تسمية اللغة لأنها كانت في السابق لهجات محكية ومكتوبة وليست شفاهيةً فقط كما هي لهجات بني تميم وبني أسد ولهجة أهل الحجاز وبني حمير في اليمن، حتى إن بعض اللغات القديمة كالآرامية والأكدية دخلت إلى اللهجة ثم أصبحت جزءاً من التركيبة اللغوية.
أمام هذا الاتساع في اللّغة أو اللّهجة المحكية اللسانية التي تنوعت واختلفت واتّسعت، تكون اللّغة الكتابية التدوينية وهي اللّغة العربية الأصلية، معرضةً كما يقول البعض إلى التراجع في بقائها ومعناها، لأن الكثير من الأدباء يكتبون نصوصهم وتتداخل معها اللّهجة العامية كما فعل في العراق فؤاد التكرلي في «الرجع البعيد» وأيضا الروائي الراحل طعمة فرمان في رواية «النخلة والجيران» رغم أن الأول كان أكثر استخداماً للهجة العامية في نصّه الروائي، وكذلك الأديب العربي نجيب محفوظ في العديد من رواياته.
ومحفوظ استخدم اللغة الثالثة فضلا عن إحسان عبد القدوس «في بيتنا رجل» و»الطريق المسدود» إضافة إلى محمود عرفات في روايته «مشمش الرابع عشر» فضلا عن روائيين مغاربة تضمنت رواياتهم اللهجة الدراجة منهم محمد برادة في رواية «حيوات متجاورة» ومحمد زفزاف وروايته «محاولة عيش».
ولكن السؤال المنطقي الذي يستوجب حضوره هو لماذا يلجأ الكاتب إلى استخدام المفردات بجملٍ طويلةٍ في نصه الأدبي سواء منه القصّة أم الرواية وهما أكثر استخداماً في الشعر التي تعتمد على تضمين جملةٍ قصيرةٍ أو مفردةٍ في حين في النصّ السردي قد تجاوز البعض حدود الحوار إلى حدود المتن؟ هل هو قصور لدى الأديب في إيجاد البديل للمعنى أم إن المعنى لا يستقيم إلّا من خلال المفردة العامية الدارجة؟
ولأن الإجابة تؤكّد قدرة اللّغة العربية على تحصين المعنى والبديل الصوري والانزياح الدلالي، ولها أصول معرفية وهي ليست لغة جافة أو صادمة، أو لها معنى واحد بل إن المفردة العربية لها العديد من المعاني التي تختلف اختلافاً كلياً بين معنىً وآخر، ولهذا فإن فهم المفردة يأتي من فهمها داخل الجملة وسياقها العام.
ولو أوردنا مثالاً واحداً على ذلك كلمة «الحَبق» والتي يورد معناها على أنها «نبات عشبيّ تزيينيّ حوْليّ صيفيّ» وكذلك «حبَق فلانٌ: ضرَط ، أخرج ريحَ الحَدَث» بمعنى أن اللغة العربية المكتوبة التي لم تعد لغةً لسانيةً محكيةً بعد تسيّد اللهجات في التداول اليومي من الحديث بل لها العديد من التراكيب التي لا يعجز عنها المؤلف/المنتج للنصّ الأدبي معاناة في إيجاد بديل عن معنى مفردة يريدها أن تستقيم مع نصه.
ولكن السؤال أيضا لماذا يلجأ الأديب إلى استخدام المفردة العامية في نصّه؟ إن الإجابة هنا تقول إن المفردة الشعبية صارت أقرب إلى الفهم الذي يريده المنتج وهي أقرب إلى الواقعية والحقيقة من أيّ كلمةٍ أخرى وهي تعطي زمكانية الحدث والشخوص وتحدد حتى التاريخ فضلاً عن أن ما كان سابقاً من قراءةٍ مختلفةٍ للكتب لم تعد كذلك لدخول التقنيات الحديثة التي تراجعت معها قراءة المعاجم، ولو كتب الأديب كلمة «حبق» لجاء في ذهنه الشجرة طيبة الرائحة ولن تكون في معناها الثاني الذي سيقف معها القارئ في حيرةٍ من أمره. ولذا فإن الأديب هو ابن المرحلة رغم أن استخدام اللّهجة ليس بجديدٍ في القرن الحادي والعشرين بل سبقتها محاولات عديدة في بعض الدول العربية كما ذكرنا وبالتالي أصحبت لهذه المفردة الشعبية اللسانية قدرةً على تكوين ذاتها لتكون كتابيةً قرائيةً، ويمكن توصيل الفكرة والمعنى والتأويل والقصد الى المتلقي.
وهو أمر يعود كذلك إلى الحالة السيكولوجية للكاتب الذي يريد توصيل الشخصية إلى مبتغاها الدلالي في تعيين الفهم، فيكون أقرب حالةٍ داخل النصّ لكتابة اللّهجة هي في الحوار مع وضعه بين قوسين.
ولكن الأمر تطّور وأصبح العديد يستخدمها حتى في المتن، وهنا أصبح التعارض والمعارضة لهذه الخاصية وانتقادا لاذعا للتساهل في الكتابة باللهجة العامية التي ستضيع معنى اللغة والحفاظ عليها من تداخل المفردات الأعجمية إلى اللغة العربية، متهمين كتّابها بأنهم منساقون إلى العولمة.
ولكن من جهة أخرى فإن النص الأدبي ابن المرحلة وإن الشخصية داخل النصّ يريدها المنتج أن تكون أقرب إلى المتلقّي وتحقيق فائدة تعّدد الأصوات داخل الحوار وانزياحه من بنائية لغوية إلى بنائية فهمية قابلة لتطويع المفردة لإيصال المعنى بأقرب الطرق.
لكن هذه الطريقة تبقى مستهجنةً لدى البعض ويعدّونها حرباً على اللغة العربية، وآخرون يعدّونها طريقةً مهمةً من طرق الكتابة الأدبية، وهناك طرفٌ ثالثٌ ينتقد الإفراط في استخدام اللّهجة في المتن السردي ولا يريدون للنصّ الأدبي أن يكون كما هو النصّ المسرحي الذي تتداخل فيه اللّغات واللهجات، مع الحركة وقدرة المخرج على استمالة العاطفة والتأييد.