في التجربة الروائية
ناهيك عن الأعداد الغفيرة من الجنود المعاقين الذين صاروا يقرعون أرصفة مدننا الكالحة التي أنهكتها الحروب الرعناء، يقرعونها بعكازاتهم. إبان تلكم الأعوام الثلاثة سمعتُ قصصاً عن الأمهات الثكالى « كل طلقة تثور في حرب تترك ندبتها في قلب أم»، بحسب تعبير قيسين كولييف، قصصاً عن الزوجات المحرومات من الحب والحنان المتعطشات لرائحة رجل ذهب إلى الجبهة بعد يوم أو أيام قلائل من الزواج، أيام وليالٍ مرَّتْ مرّ السحاب، لم تعدْ الزوجة الشابة التي قلما يزيد عمرها عن 20 أو 25 سنة تتذكر سوى ملامح قلائل من المدة التي أمضاها معها الجندي الشاب الذي تفحمتْ جثته إبان الحرب أو بقيتْ في الأرض الحرام لتأتي الذئاب والنسور وتلتهمها بعيداً عن وطنه وأهله وأحبته، إلا أن زوجته المخلصة، حالها حال بنيلوب زوجة أوديسيوس، ظلتْ وفيةً له تنتظر عودته على أحرّ من الجمر. لكن الحرب طالتْ وطالتْ ولم تورثنا نحن العراقيين سوى المزيد من الدمار والخراب الاقتصادي والسياسي والاجتماعي وتصيبنا بأمراض نفسية أقلها اليأس والكآبة.
لقد مضى الجنود الذين عرفتهم وزرتُ منازلهم وشربتُ معهم الشاي والقهوة وعالجتُ أسنانهم إلى الحرب بلا رجعة. كنتُ أسمع جرس الموت يرنّ متى يشاء وحيثما يشاء، يرنّ هنا، ويرنّ هناك. مضى الجندي من دون رجعة مضى. وتعيّن على الزوجة الشابة أن تندبه وتحزن عليه: تلطم على صدرها وتعفر جبينها بالتراب وتخدش خديها بأظافرها.
عبر سنوات حياتي كلها كنتُ أتواصل مع العالم عبر سفرائه الحقيقيين وهم أفضل ما يمكن أن يقدّمه عبر شعرائه وروائييه وكتابه المسرحيين وموسيقييه ومخرجيه السينمائيين. إذ لم تتحْ لي ولأبناء جيلي فرصة السفر. كنا في الواقع ممنوعين من السفر خوفاً على مواهبنا وقدراتنا التي تكلّستْ جراء رتابة الاستمرارية حتى صرنا نضيق ذرعاً بأنفسنا. وكنتُ، أنا شخصياً، أعود إلى الحقيقة الوحيدة التي هي الأدب، بحسب تعبير بيسوا.
***
كان الأدب هو عزائي الوحيد وأنا أسمع تلك القصص المروّعة من أفواه الأمهات العجائز والزوجات الشابات الجميلات لكن الشاحبات الذابلات اليائسات ذوات الوجوه التي أعياها السهر والأرق والعمل المنزلي كانت دموع النسوة الحزينات تبلبلني، تورثني الكآبة «لأن دمع المرأة أثقل من حجر الهرم» بحسب تعبير يفتوشنكو.
أنا مدين لمهنتي الطبية في إتاحة الفرصة لي للتواصل مع الآخرين والتحدث إليهم والإنصات إلى معاناتهم وعذاباتهم وأوجاعهم، لكنني في كتاباتي كنتُ أؤكد على ضرورة أن نحافظ على الأمل الهش الذي بقي لدينا.
لم أكنْ أدوّن القصص والروايات انطلاقاً من اليأس والقنوط بل انطلاقاً من إحساسي بالأمل، وهو ليس الأمل الساذج الغيبي الذي يتشبث به المؤمنون بالقضاء والقدر، بل الأمل الناجم عن إدراك حركة التاريخ والإيمان بقدرات الإنسان وصلابته، وكان أبطال قصصي ورواياتي يكشفون من خلال أفعالهم عن ثقتهم بأنفسهم وعن قدرتهم على تجاوز ظروف حياتهم المحيطة بهم.
وكنتُ ولا أزال أتذكر فريدا كالو الفنانة المكسيكية التي تعرضتْ لظروفٍ صحيةٍ قاسية ولحادثة جعلتها تعيش مستلقيةً على ظهرها في السرير زمناً طويلاً. لكنها لم تستسلمْ لتلك الظروف القاسية وبقيت تصارع العذاب والألم وتعشق الحياة والفن وكانت خير من عبّر عن ذلك من خلال لوحات فنية فريدة جعلتها محط اهتمام نقاد الفن.
كانت تتجاوز معاناتها مع المرض ونزق زوجها وعلاقاته الغرامية غير الشرعية من خلال الرسم والرسم والرسم.
أنا أعتقد أن الأدب هو وسيلتنا الوحيدة لنداوي به جراحاتنا، أوجاعنا، مآسينا. إنما لا بد لنا أن نتنفس عبر الحكايات التي نرويها ونغني ونرقص ونلهو ونمرح ونصرخ. أعتقد أنه يتعين على الكاتب أن يكتشف تقنيات من شأنها أن تجعل الواقع أكثر قوةً وكثافةً مما هو عليه، أي أنك تجرّبه في الكتابة بصورةٍ أقوى مما تفعله خارج الكتابة. أو، بكلمةٍ أخرى، أن نعيد إنتاجه بطريقة حيوية تثير مخيلة القارئ وتدفعه إلى التأمل وتوجيه الأسئلة.
لقد صرخ سوادي حمدان بطل روايتي «خميلة الأجنة»، وضرب رأسه بالمنصة الكونكريت لأنه تعرّض للإذلال وصار يرقص مع الغجريات لغرض إدخال الفرح إلى أفئدة العراقيين في زمن الحرب القاسية. الواقع لم تستطعْ صرخته أن تخرج من حنجرته وظلت حبيسة صدره. «في ظهره وصدره نبتتْ حدبتان. حدث ذلك في العام الثالث للحرب. الحدب تكبر وتنمو وتتنفس. الحدب تشوهات ولادية أو غير ولادية. الحدب دروع عظمية نبتت جراء العدوى، الحرب. الحدب كائنات حية مستقلة. الحدب تبتسم، تضحك، أو تلتزم الصمت. الحدب أوجاع مجسمة، مجسدة، عذابات مصفحة بالكالسيوم والفوسفات. الحدب لها أسماء وألقاب وكنايات. حدبهم كائنات شفافة، مفرطة الحساسية. حدبهم تتألم، تقاسي، تتعذب. حدبهم، حتماً، تمرض أكثر منهم. وزارات الصحة في العالم العربي ابتكرتْ شهادات ولادات ووفيات للحدب. تاريخ الولادة: يوم كالح مشبع بالغبار أو الدخان الأسود. مسقط الرأس: خندق في الصحراء. القومية: عربية، طبعاً. هي ذي شاهدة القبر حفر عليها نقاش حجر الكلمات الآتية: هنا ترقد بسلام الحدبة الفلانية. الحدب المسكينة تحملتْ نوائب الدهر. شكتْ من تدني المستوى المعيشي. تعرضتْ لابتزاز وتهديد أحزاب ومنظمات سياسية متناحرة. صحفي ذكي تنبأ بولادة جيل من الحدب الغاضبة المناوئة لأميركا» (ص ص 123- 124 من الرواية).
«في الحرب لن يسقوك غير كؤوس السم. الجميع يشربون الكؤوس حتى الثمالة. الجنود، الأمهات، الخطيبات، الأطفال الرضع، أجنة الأرحام، أجنة الزواج الشرعي واللاشرعي. حلمات الحرب تشخب شرابها المسموم في أفواه الجنود. هو ذا مصيركم، هو ذا قدركم المحتوم، ذوقوا ما تذوقون، لن نفطمكم من حليب الحرب. الحرب لعبة، هواية، نزهة، خدعة من وحي خيالنا.. من بنات أفكارنا. نحن حراس البوابة الشرقية. الحرب لعبة نحركها بأصابعنا، دمية من دمى القش مشدودة بخيوطٍ نحركها كيفما نشاء» (ص ص 125-126).
«حدب العراقيين لم تكنْ سوى صرخات احتجاج ضلتْ طريقها، الصرخات لم تخرجْ من حناجرهم، ولا من عيونهم، ولا من أيٍّ من الفتحات التسع في أجسادهم. الصرخات أرادتْ أن تخرج من زنزاناتها. جربتْ أن تخرج من الظهر، وحينما يئستْ جربتْ أن تخرج من الصدر. إنما لا جدوى. حدبهم ظلتْ تتألم مع انفجارات دموعهم. لا أحدَ يستجيب لصرخاتهم الملتاعة، الجميع يتفرج على كوارثهم، يتفرجون على مآسيهم هازين رؤوسهم أسفاً، يصورونهم بالكاميرات الفوتوغرافية، والفيديوية أو السينمائية. مَن هو الزاني الأعظم الذي أورثهم كل هذه العذابات المريعة؟ مَن هو الجاني الذي سببَّ كل هذه الفوضى، كل هذه التشوشات؟ مَن هو الشيطان المدمِر الذي كان وراء كل هذه التعهرات؟» (ص 127).
وعودة إلى الحرب، أقول إن الحرب على الرغم من مآسيها وويلاتها إلا إن الآداب العالمية وُلدتْ مع الحرب أو بدأتْ مع الحرب، «الإلياذة « في اليونان القديمة، «مهابهاراتا « في الهند، «الشاهنامة» في إيران، « فن الحرب» في اليابان. لا يمكننا أن نتخلص من الحرب، وسنظل ندفع الثمن دوماً.
يقول عبدالملك مرتاض في كتابه «في نظرية الرواية: بحث في تقنيات السرد» حين يكتب أي روائي رواية فهو الذي يكتب وهو الذي يُنشىء الشخصيات وهو الذي يتخذ لروايته سارداً، في بعض الأطوار السردية. لكن المؤلف يظل حاضراً في العمل الروائي؛ فهو الذي يهندسه وهو الذي ينسجه ويدبجه. إن المؤلف يتخذ له أقنعة مختلفة في الكتابة الروائية تبعاً للتقنيات السردية التي يتبناها، وتبعاً للضمائر التي يستعملها من دون سواها.. أيّ قارئ مستنير يدرك أن المؤلف متخفّ وراء السرد، فهو حاضر بقوة، فهو كالمخرج السينمائي» (ص 207).
يرى المشاهد العادي صور الممثلين والممثلات ولقطاتهم المثيرة وغير المثيرة وحركاتهم وتنقلاتهم، لكن المشاهد الذكي يرى المخرج من خلال الممثلين والممثلات «إنه هم، وهم هو» بحسب تعبير عبدالملك مرتاض.
يقول الكناني، وهو شخصية ثانوية في روايتي «خميلة الأجنة» وصديق سوادي حمدان، الشخصية الرئيسة في الرواية «تتراكم في أعماقي طاقة هائلة للتمرد وحاجة للانعتاق. في شبابي كنتُ متمرداً ضد الدكتاتوريات العسكرية وكنت أتخيل نفسي وأنا أنفّذ إحدى العمليات الانتحارية ضد قوى الاستبداد والعسف.. أفجرّ بدني بعنف وأتحول إلى أشلاء لا متناهية. وأتلاشى في المجهول. أما الآن فقد حوّلتُ تمردي إلى ميدان الكتابة، معلناً احتجاجي ضد الكلمات الرنانة والكليشيهات الجاهزة والقوالب الجامدة والوعود المعسولة التي طرقتْ وتطرق أسماعنا منذ دهور طويلة. إذا نُشرتْ (ثلاثيتي) سيسميني النقاد: فتى الرواية الغاضب، الأديب المشاكس، الفيلسوف الحزين. سينعتونني بالعزلة أو الصمت أو الزهد. سيسمون عزلتي ماركيزيةً ويسمون صمتي بريكانياً أو باسترناكياً. إني أؤمن أن الفم عضو الصمت وليس عضو الكلام فقط. فالصمت أسلم والحلم أسلم والزهد أسلم. هذه الصفات الثلاث لازمتني طوال السنوات العشر الأخيرة، أو الأصح طيلة النصف الثاني من حياتي، زمن الكتابة، العمر الثاني، أو قل الحياة الثانية أو الحياة العمودية كما يسميها توماس مان» (ص 291).
والآن، حين أقرأ هذه الجمل التي كتبتها وأعدتُ كتابتها وفكّرتُ فيها بعمق أشعر أن الكناني كان جزءاً مني، أو كان يمثّل جانباً من جوانب حياتي، أو لعله كان نسخةً أخرى مني مثلما كان الأنداد بالنسبة لـفرناندو بيسوا، أولئك الأنداد الثلاثة الذين خلقهم: آلبيرتو كايرو، ريكاردو رييس، وآلفارو دي كامبوس. ومثلما كان بيسوا يمنح كل واحد منهم وصفاً فيزيولوجياً، كل واحد منهم له سيرة حياة، كان يتعيّن عليّ أن أمنح شخصياتي الروائية صفاتٍ بشرية خاصة بهم، وأهبهم حيوات تختلف اختلافاً جذرياً عن حياتي، ووجهات نظر وآراء وتطلعاتٍ تختلف عن وجهات نظري وآرائي.
مع أن طموحاتنا الكبرى قد تلاشتْ أو تكاد تتلاشى إلا أننا بقينا نتشبث بالقلم، وكنا نسافر أبداً ومن دون انقطاع بين حقول الإبداع، ونستنفر ذخيرتنا الثرية من التجارب والقراءات والترجمات لنوظفها في كتابات تجريبية تكشف عن شكلٍ جديد وأسلوبٍ جديد، متجولين بين المدن والأزمنة والثقافات، مرصعين نصوصنا باقتباساتٍ من أناييس نن وماركيز وجيمس بولدوين وتوماس مان وجبران خليل جبران وابن عربي والنفّري وإليف شفق وناتالي حنظل وسواهم، مدركين أن الحياة قصيرة والفن شاسع، بحسب تعبير غوته.
الفنون كلها: الشعر، المسرح، الرواية، الفن التشكيلي، الموسيقى، السينما، تحفزنا على أن نعي ذواتنا والعالم الذي من حولنا. يتعين علينا دوماً أن نوجه الأسئلة تلو الأسئلة إلى أنفسنا، أسئلة تتعلق بمغزى الحياة والموت والحب والحرية والعدالة. يجب أن نتعرف على أحدنا الآخر ونقترب أكثر فأكثر من أحدنا الآخر. ولا بد لنا أن ندوّن ما في جعبتنا من معرفة وآراء وأفكار وتجارب في ما نكتب من أشعار أو روايات أو قصص قصيرة لأن هذه هي طريقتنا الوحيدة للتواصل مع ماضينا وحاضرنا واستشراف مستقبلنا، ولاكتشاف ذواتنا وذوات الآخرين.