تسعة أشخاص
.. ورأيتني قد أحيط بي من كل جانب، وبدأت أكوام من الأوجه تثقبني بنظراتها الحادة وهي تستصغرني محاولة أن تنهشني بما تهيأ لها من قوة في هذه الأثناء وقد اغبرَّت من وقع الطيش وجوهها، لم يكن يخطر على بالي ذات يوم أن أقع في مأزق كهذا. طريقي لم تكن إلى هذه الوجوه الشـُّعث، ولا فكرت أن ألتقي بإحداها، فأين أنا وأين هم؟ لكنها الأقدار لا تدري بما تخبئه لك.. المهم أني وقعت بين أيديها تلك الهامات المستأسدة فوق هامات الضعفاء، وقبل أن أستفيق من هلعي كانوا قد جرَّدوني من لباسي وأسقطوني أرضاً وصوَّبوا إجرامهم نحوي.
شرعتُ أنظر إلى هذه الوجوه والخوف يعصر قلبي وكلهم صامت لا ينطق بكلمة ولا ينظر إلى شيء سواي. أأنا مهم إلى هذه الدرجة كي تحيط بي تسع بنادق ولا تزحزح أنظارها عني؟ هل كانوا يبحثون عنّي وأنا لا أدري؟ حاولت أن أتزحزح من مكاني قليلا لكنهم عاودوا إشهار بنادقهم أكثر في وجهي.
ربع ساعة من الصّمت بيني وبينهم لم أتجرَّأ أن أسألهم عن سبب إحاطتهم بي، ولا هم تكلموا أو خاطبوني، فبقيت في دهشتي أتعرَّق من هذه المحنة، إلا أنني بدأت أسترجع صوراً في ذهني عن هيئاتهم كأنهم خُشُبٌ مسنـَّدة. أين رأيتهم. آهْ؛ تذكرتُ الآن، رأيتهم في التلفاز، لكن في أيِّ وضع يا ترى؟ هذا ما لم أستطع أن أصل إليه.
ألا من يستطيع أن يكسِّر منكم جدار الصمت هذا. مللتُ وقوفكم وأنا وسطكم. ألهذا الحدّ تخشون رجلاً أعزل، لا شك أنكم ترتعدون من مواجهتي أيها الجبناء. تقدَّموا إن كنتم رجالا. أين زعيمكم يواجهني؟ لكنكم لا تقدرون عليَّ.
بينما أنا في شجاعة عظيمة أقهر بها كبرياءهم دون إحساس منهم تقدَّم أحدهم نحوي وعيناه ترمي بالشرر، فقال بصوت جهوري وهو يُحكم بندقيته بشدة كأنه يخشى أن أفاجئه على حين غرَّة فآخذ منه سلاحه وأقتله:
ـ من أنت؟ وكيف وصلت إلى هنا؟
لم يرُق لي سؤاله فلم أجبه، فانتفختْ أوداجُهُ وازدادت حُمْرَةُ عينيه فضربني برجله اليمنى على كتفي وهو يقول:
ـ ألم تسمع أيها الأحمق؟ أجِبْ وإلا استخرجتُ كبدك.
أجبته هذه المرة خوفاً من أن يجهل عليَّ فيرديني قتيلا:
ـ أنتم الذين قبضتم عليَّ ولا أدري لماذا.
تحركت الوجوه العمياء هذه المرة بدورها ونظرت إلى بعضها البعض فشرعتْ تقهقه وتقهقه وأنا أزداد استغراباً منهم.. حاولت من جديد أن أتذكر في أيِّ وضع رأيتهم لكن دون جدوى، وبدأت أحملق مرة ومرة فيهم.. كانوا ملثمين، ويرتدون السواد حتى ألويتهم التي من خلفهم استطعتُ أن أميِّزها. هي سوداء كذلك مكتوب فيها كلمة التوحيد بالأبيض، فقلت في نفسي: سبحان الله؛ اجتمع الحق والباطل في رايتهم!
آهٍ لو سمعوني أتفوَّه بما قلت لكانوا انهالوا عليَّ وخنقوني بألويتهم قبل بنادقهم، إنَّ منظرهم يبعث على الاشمئزاز، وروائح غير مألوفة خدشت أنفي من أجسادهم تنبعث، ليسوا كباقي البشر. هل هم يأجوج ومأجوج خرجوا وكنتُ أول مَنْ ساقه قدَرُهُ إليهم؟ أم هم يهود أصبهان خرجوا لملاقاة مسيخهم الدجال فساقوني معهم إليه؟ أم هم أتباع المهدي نزلوا بهذه الأرض وأرادوا الفتك بي؟!.. لكن المهدي روائح أتباعه كالمسك والعنبر، وأنا مسلم، فمن هم يا ترى؟
آهْ؛ لعلهم أتباع عيسى بن مريم لاقوْهُ حين نزوله من السماء فكنتُ أول من صادفوه في طريقهم.. تفحصتُ لباسي علَّ صليباً منقوشاً به أو خنزيراً مرسوماً به؛ لكنني مجرَّد من اللباس. أردتُ أن آخذه من الأرض لأتيقن مما يخامرني فظنَّ الذي ضربني من قبل أني أريد المكر بهم فسارع لضربي ثانية وكانوا قد كفوا عن قهقهتهم. فقال لي آخر أكثر شراسة منه ومنظره أفظع من الأول:
ـ تريد أن تخدعنا بأسلوبك المراوغ؟
لم أستطع هذه المرة كتم غيظي فانفجرت غضباً قائلا:
ـ وأنتم ماذا عنكم؟ ألا تفصحون لي هوِّيتكم فقد احترتُ في أمركم.
نظرت الوجوه مرة أخرى إلى بعضها فانفجرتْ قهقهةً أكثر من ذي قبل، وبقيت أنا محتاراً في أمرهم لا أفهم من حقيقتهم شيئاً. فعاودتني موجة الشرود، وحاولتُ أن أستجمع أفكاري وأنطلق من نقطة البداية. إلى أين كنت أتجه قبل أن أقع بين هذه الوجوه القاتمة التي تشبه شعورها شعور النساء. آهْ أخيراً تذكرت، كنتُ أطالع كتاب «أيام العرب في الجاهلية» وأتيت على قصة «داحس والغبراء». أعجبتني القصة بما تحمله من فروسية وإباء؛ لكنني أنكرتُ فيها سبب قيام الحرب بين عبس وذبيان.. وبينما أنا هائم في أحداثها غلبني النعاس وسقط الكتاب من يدي ودخلت في دوامة فرأيت نفسي بين هؤلاء الذين لا زال حمقهم لم ينتهِ بعد، وبعد هنيهة توقفوا عن القهقهة، وقال لي ثالث منهم وقد تقدم هو الآخر ناحيتي:
ـ تريد أن تعرف من نحن؟ حسناً..
نظر خلفه وابتسم له أصحابه كأنهم يوافقونه على ما سيقوله لي، ثم قال لي وهو لمَّا يتخلص من ابتسامته الخبيثة:
ـ نحن الذين اختارهم الله للقصاص من الخونة.
استجمعت نفسي واعتدلت في جِلستي وهم لا يزالون يحيطون بي ولا يثقون في كوني مجرداً من اللباس والسلاح؛ فقلت ونفسي معلقة بحبل النجاة:
ـ إذن ستعاقبون من كان سبباً في كسر الرهان.
ـ عن أيِّ رهان تتكلم أيها المعتوه؟! (قال الرجل ونفسه تتطاير شرراً).
أزعجتني كلمة المعتوه التي شجَّ بها الرجل سمعي، ودون أن أشعر قلت له وأنا أحاول النهوض:
ـ أأنت حذيفة بن بدر أم قيس بن زهير؟
لم يعقِل الرجل شيئاً من كلامي، فظن أنني أسخر منه؛ فعاود ضربي كما فعل أصحابه، فسقطتُ وقد التصق وجهي بالتراب، فنفضته وأنا أترجَّاهم هذه المرة بأن يتركوني لشأني فانطلق لساني صخِباً:
ـ إن كنتم تظنون أنني صاحب الغبراء حمل بن بدر فأنتم واهمون. أنا رجل تقطعت به السبل فوجدت نفسي بينكم يا آل عبس.
بدأ الرجال الثلاثة بالعودة إلى أماكنهم بعدما أشار إليهم أحدهم بالتراجع، وتقدم نحوي رابعهم.. عظيم الجثة، مغبرُّ الوجه، مفتول الذراعين، طويل القامة، أحمر البشرة كأنه عاقر الناقة، كثيف الشعر، معوجُّ الحاجبين، في يمناه بندقية كبيرة، وفي يسراه مثلها.. خفته وازدادت نبضات قلبي وارتعدت فرائصي وأيقنت أني هالك هذه المرة؛ فزمجر عن خبثه قبل أن يكلمني، وبقي يمعن النظر فيَّ.. تأمَّلني من رأسي إلى أخمص قدمي بعدما أشار إليَّ بالوقوف، وبقي على هذه الحال يرنو إليَّ ببصره، فازداد خوفي وقلت في نفسي: لعل هذا الشخص يعرفني..
بدأ الشخص يحوم حولي ذات اليمين وذات الشمال، ومن حين لآخر يهز بندقيتيْه ويخرج لسانه كثعبان يتربص بفريسته، واقترب منّي وهمس لي في أذني: أأنت شيعي أم سنيّ؟ ثم عاد إلى وضعه الأول وهو يحملق فيَّ ينتظر أن أجيبه، فأطلت الجواب فعاد يكرر ما سألني هذه المرة علناً أمام أصحابه.
لازال استغرابي وخوفي في آن واحد يتزايد، ولا أقوى على الردِّ مما أسمع.
ـ عن أيِّ شيعة وسنَّة تتحدثون.. نحن بنو الإسلام والله واحد (قلت في نفسي خوفاً من ردّة فعله إن أجبتُ بإحداها ونفيتُ الأخرى).
في هذه الأثناء باغت الجميع خامسهم وهو يقول ساخراً:
ـ لعل هذا الشخص من الذين قهرناهم بالأمس فبعثوه يتجسس علينا.. حرٍّقوه وانصروا آلهتكم!
هذه المرة كاد يُغمى عليَّ حينما سمعتُ ما سمعت، ويبس الدم في عروقي وبدأت أرتجف وأتعرٌّق، وانهارت معنوياتي وسقطتُ على الأرض كأني أودِّع الحياة قبل أن يرموني بالرصاص.. فما شأني أنا بمن قهروهم بالأمس؟!
قال عظيمهم جثة بصوت خشن: الله أكبر،اجمعوا الحطب.
وقبل أن يستفيقوا من هذه الكلمة قال سادسهم وكان أعور العين اليمنى:
ـ قبل أن تنفذوا حكمكم اسألوه مرة أخرى عن تواجده هنا كي نحتاط مما يُبيَّت لنا.
بدأت أجوب المكان ببصري وأنا ملقى على الأرض علّني أرى شيئاً يكشف لي عن حقيقتهم ويزيح غشاوة كنههم، فلم أرَ خِياماً ولا جِمالاً ولا أحصنةً كما كنتُ أتصور حينما اعتقدتُ أنهم آل عبس؛ حتى السيوف لم أرها بأيديهم، ولا نبالاً خلف ظهورهم، ولا رماحاً يتوشّحون بها، فقلت في نفسي: من هؤلاء يا ربَّ وما الذي ساقني إليهم؟!
خامرني شك في حقيقة كونهم من عبس، فقلت: إذن هذه قبيلة ذبيان، لكن أين جيادها وفرسانها وخيامها؟
بينما أنا في ريبي أتردد أسمع صوتاً آخر من اليسار -وكان سابعهم- يقول وهو يصوِّب سلاحه نحوي:
ـ دعوني أقضي عليه وننهي المسألة.. فما تنفعنا حياته!
كان هذا الشخص أقصرهم، لسانه ليس رطباً بلغة الضاد، فمن حين لحين كان يتلكأ في كلامه حينما حاوره ثامنهم وأنا أسترق السمع لمَّا ساد الصمت بين التسعة.. بدا لي أنه ليس من هذه المنطقة، حتى مظهره لا يشبه أعوانه، فقد كان أشقر، عيناه زرقاوان، شبيه صوته صوت النساء الناعمات في خدورهن. فقال له الثامن:
ـ هل سينضم إلينا هذا الأحمق؟
ـ لا أظن، فهو كما ترى يهذي بكلام، ولا نكاد نفهم منه شيئاً.
قال له الثامن وهو يحدِّق فيَّ:
ـ لو قتلناه وانصرفنا، فغيْرُهُ كثير.
كل الأصوات في هذه المجموعة سمعتها إلا واحدا لم يتفوَّه إلى حد الساعة بحرف، كان يظهر عليه أنه كئيب، وجهه ليس بالممتلئ مثلهم، ولحيته أقل كثافة من لِحاهم. كان كل هذا الوقت جامداً في مكانه لم يتزحزح. هم على الأقل تحركوا في أمكنتهم ببضع خطوات إلا هو، ما به واجمٌ كأن به مساً.
بعد مدة قصيرة من هذا الهدوء المقلق سمعت أولهم يقول لهم: إن النساء قادمات. ازددتُ حيرة مما أسمع وحدثتني نفسي بأنهن سبايا حرب، ولم أدر أيكون مصيري مثلهن أم ماذا. ربما سيسجنونني رفقتهن. تباً لها من معضلة.
وما هي سوى دقائق معدودة حتى توافدت النساء.. كنَّ شقراوات، بيض البشرة، مصقولة ترائبهنَّ، يمشين مشي الظباء فوق الكثيب، فقلت هذه المرة: لا أظن أنهن أسيرات، فلا قيد يحكم أيديهن أو أرجلهن. لا شك أنهن نساء إحدى القبيلتين، فأنا لم أدر بعد أأنا في عبس أم ذبيان؛ بل لا أدري أأنا في زمنهم أم في زمن آخر؟!
قال لي أحدهم ساخراً -وكنت أظنه رابعهم- وهو يتضاحك:
ـ ما رأيك أن نتوِّجك ملكاً علينا فتأمر وتنهى فينا كما تريد؟
شرع الجميع يقهقهون كعادتهم أول مرة، وتعالى ضحكهم وصيحاتهم بين الفينة والأخرى، واقتربت منّي إحدى الشقراوات فقالت لي بصوتها الناعم:
ـ ونحن سنكون جواريك يا مولاي.
عاودت المجموعة؛ ذكرانها وإناثها الضحك والتقلب في قهقهتهم ونهيقهم ونعيقهم المتقطع، وشرعوا يهتفون جميعهم؛ وكان سادسهم أكثرهم قهقهة، فقد ميّزته من بينهم، كان ضعيف البنية إذا ما قيس بأجسادهم، كلما ضحك حاول أن يخفي ابتسامته، ربما خشي أن أراه؛ فقد كانت أسنانه مبعثرة، ورباعيتاه غير موجودتين، فبدا كأنه وحش بشع المنظر.
بقيتُ على هذه الحال متلئب الأفكار، وازددتُ حيرة للمرة الألف في حقيقتهم.. والذي حيَّرني أكثر هؤلاء النسوة اللاتي انضممن إليهم، أهُنَّ زوجات هؤلاء الرجال؟ لكن عددهن أكثر من عددهم، وما الذي جاء بهن إلى هنا، نساء بأيديهن بنادق كالرجال أمر محيِّر. ينزلن مكاناً قفراً كهذا لا أنيس به غير هؤلاء المتنمِّرين عليَّ أمر يدعو للدهشة ويعيد للأذهان حكايات وأساطير عن نساء يَخْرُجْنَ للمغامرة.
وبينما أنا أحاور نفسي إذْ بالرجل الصامت ينطق أخيراً. الحمد لله انفكت عقدة لسانه، لم يكن يهمّني أن ينطق، فكلهم سواء عندي ما داموا يحيطون بي كالسوار في المعصم ولا يتركون لي متنفساً ولا تركوني أمضي لشأني. فقال بعدما أشار إلى الكل بإبعاد أسلحتهم عن وجهي:
ـ أطلقوا سراحه وهيا بنا من هنا.
ظننتُ أخيراً أنني سأنجو فقد راودني شك بأن تاسعهم هذا قد تفهَّمَ وضعي وأيقن أني تائه في هذه الصحراء البائدة، فرثى لحالي وأمر بإخلاء سبيلي. الحمد لله! أخيراً سأخرج من هذه الضائقة وأعود من حيث أتيت.
انصرفت المجموعة وبدأت تبتعد عن نظري إلى أن توارت، فالتفت إليَّ الصامت الناطق وأشار إليَّ بالقدوم نحوه، فظننتُ أنه سيرجع عن رأيه، وعاودني الخوف من جديد ولم أستطع أن أحرِّك رجليَّ، ولما تباطأت في القدوم رأيت شرارة تنبعث من عينيه، فرفع بندقيته وصوَّبها نحوي فانتفضتُ في مكاني فإذا أنا في عالم آخر. نظرتُ عن يميني وشمالي فلم أجد أحداً ونبضات قلبي تخفق بسرعة والهلع لا يزال يكتم أنفاسي وأنا أتنهد وأتعرَّق.. مددتُ يدي إلى قارورة ماء أطفئ بها حرارة الجو الساخن، فما عشته كان سوى حلم مخيف.. وبعدما سكن روعي أخذت الكتاب الذي سقط من يدي وكان لا يزال مفتوحاً في الصفحة التي كنت أطالعها فوقع بصري على عنوانه «داعش والغبراء «. مسحتُ عيني فلم أقرأ العنوان جيداً، بل «داحس والغبراء».