فضاء سوداني.. قراءة في \'صور زنكوغرافية ليوم عادي\'
القصة موضوع قراءتنا «صور زنكوغرافية، ليوم عادي» واحدة من قصصه المتميزة التي حملتها مجموعته «لهذا الصمت صليل غيابك». وكنا قد قدمنا قبل عدة سنوات، متابعات نقدية حول قصته «ذات صفاء، ذات نهار. سادس أخضر» إلى جانب قصته «نشيد التماسك» تمهيدا لنشرها في أدب ونقد وقتها. ولكن يبدو أنها ضاعت، مع كثير من الكتابات التي تضيع في المنافي، فسمة المنافي التنقل الدائم وعدم الاستقرار.
الوظيفة التي يلعبها الوصف في النص القصصي ظلت تجد اهتماما مستمرا لدور هذه الوظيفة في التفسير والترميز معا – فهي ليست مجرد حلية للأسلوب كما كان يعتبرها النقد القديم، ولا هي بمثابة تجميل للقصة فحسب- إذ يتحرك الوصف فيما يحيط بالشخصية، أو المكان ليكشف عبر توصيفه المكان، أو الأشياء التي توجد فيه، عن التركيب النفسي للشخصية، مشتغلا في التبرير لسلوكها -الشخصية- فوظيفة الوصف رمزية وسببية، كما أنها أيضا نتيجة إذ يعتبر الوصف، عنصرا ذا أهمية حيوية، في العرض، بخلاف ما كان عليه، في العصور القديمة، وقد انتهى هذا التطور إلى غلبة العنصر الروائي في القصة، إذ وظف له العنصر الوصفي الذي فقد ما كان يتمتع به من استقلال، مقابل اكتسابه للأهمية الدرامية، غير أن هناك بعض المحاولات القصصية المعاصرة تهدف إلى تحرير الوصف من سطوة الحكاية عن طريق بناء ما يسمى بـ»الحكايات الوصفية».
الراوي في هذه القصة «صور زنكوغرافية ليوم عادي».. هذا اليوم غير العادي في واقع الأمر، فالمفارقة أنه في مكان مثل البلاد، محل هذه الوقائع يعد عاديا! نتاج تراكم العسف والقمع الناهضين في التجسس وحركة أجهزة الأمن! كما قالت اللغة الوصفية المشحونة بالوقائع والأحداث والانفعالات! يتم تقديم هذا اليوم عبر الوصف -منذ الاستهلال- الدقيق، لصور واقعية مشحونة ومحتقنة لمشاهد من الحياة اليومية. تصف حالة متوترة لبطل المشهد الأول «انحنى بزاوية حادة نحو الأرض. جهدت يده اليمنى في محاولة جادة لالتقاط كتاب من وسط الكتب التي كانت تفترش الأرض، بطريقة حاول فارشها أن تبدو قدر الإمكان، متسقة. وبأسلوب فوضوي أقرب للتشنج، واتحاد عشوائي مع قدميه النابت منهما ساقان مرتجفتين، راحت يده اليسرى تحاول منعه الانكفاء على وجهه. حينما كانت اليد اليمنى تلامس الكتاب امتدت ثلاث من أصابعها بالانكماش نحو الراحة. وبينما أفلح الإبهام والسبابة في التقاطه، تحولت الزاوية الحادة إلى منفرجة.. فإلى وضع طبيعي».
فعبر هذا المقطع الوصفي نستطيع تحسس مدى اهتمام بائع الكتب بالنظام. ومدى الجهد الذي يبذله هذا المشتري للحصول على الكتاب. حيث يعبر الوصف عن حالته النفسية.. حالة التوق لتحقق الامتلاك للكتاب. فالوصف هنا يقدم لنا موضوع الاستهلال وفضاءه وأشياءه، في بطانة من الحمى والمقاومة.
القصة كلها تنهض في مناخ العسف والرقابة والخوف. بكل ما يعتمل في الوجدان من حذر وترقب الاعتقال.. فهذه الحمى تتحكم في مسيرة بطل القصة وهو ينتظر الحافلة أو يركبها متخللا الزحام، باحثا عن موطئ قدم، أو وهو يستيقظ من نومه ليمضي إلى مساعدة عم خضر أو لعب الدومينو مع عم جابر أو وهو يتبادل المثاقفة مع أصدقائه حول الكتابة والكتاب والموسيقى والغناء والحياة والناس، والوضع الاجتماعي-الاقتصادي المأزوم، الذي يتخلل كل ذلك.. إلى أن يتم اعتقاله في المشهد السادس.
تمر كل هذه المشاهد عبر الوصف، متخللة الوحدات السردية الصغرى، بروح البوح المعطون في التساؤل، محمولة على أكتاف اللغة المجازية بكل ما تحتويه على طاقة انفعال لتشكل مجالا ديناميا يمثل فيه البطل الذي تعرفنا عليه ابتداء من الاستهلال، مركزا لأحداث ووقائع الفضاء القصصي، إذ يلقي بظلاله على مشاهد الحياة الأخرى «كان ركاب عربة البوكس صامتين، يحاولون تجنب النظر إلى بعضهم، بالالتفات يمينا أو يسارا، أو بانكفاء رؤوسهم على صدورهم، إلا من اختلاس النظر، بين لحظة وأخرى، إلى وجهي فتاتين كانتا من ضمن الركاب.
وحينما تركت العربة شارعا، ذا أشجار ضخمة وعتيقة، منتقلة إلى شارع ذي بنايات حديثة و سامقة، قالت إحدى الفتاتين للأخرى الجالسة بجوارها: إنني بعد كل محاضرة، أزداد إعجابا واحتراما للدكتور مكي، أرأيت كيف ناقش اليوم، أزمة المثقف السوداني؟
ولكن ألا ترين معي، أن رؤيته للمسألة، كانت ممنهجة بصرامة، ومتطرفة أكثر من اللازم؟
وهذا ما نحتاجه حقا في هذه المرحلة.
معك حق. ففي مثل هذه الظروف، لسنا في حاجة للحلول الوسطى.
انتبهت أذنا شاب كان يجلس قبالة الفتاتين. انتقل الانتباه إلى عينيه. مسح وجهي الفتاتين بنظرة مستقيمة. وبلا تفكير، وبطريقة آلية، تحولت نظراته إلى وميض غريب!
توقفت العربة، في المحطة النهائية. نزل الركاب. أشعل الشاب ذو النظرات، ذات الوميض الغريب، سيجارة ثم سار خلف الفتاتين. وهكذا يختم راو القصاص يومه غير العادي، بمتابعة رجل الأمن للفتاتين!».
إن غلبة الوصف في نص «صور زنكوغرافية ليوم عادي» على السرد، تأتي بإبراز عالم الأشياء وشحن هذه الشخصية، بمزيج من المشاعر المتناقضة لتكون الشخصية بهذا التركيب النفسي المعقد، معادلا موضوعيا لمتناقضات الواقع الحي المعيش، وكل ذلك عبر وظيفة الوصف. إلى أن تختم هذه القصة التي تعتمد في بنائها، على الوحدات السردية المقتطعة، من مشاهد الحياة الواقعية من حيث حركة الأحداث.
القصاص يمهد لكل حدث، بمناخاته الشعورية. ما يجعل الشخوص أكثر قدرة على مواجهة مصائرهم المأساوية.