استعادة صورة ملتبسة بين مفكرين
أسهم المفكر صادق جلال العظم (1934-2016)، في ثمانينات القرن الماضي، في النقاش والسجال الذي دار حول مفهوم الاستشراق الذي أسس له المفكر إدوارد سعيد (1935-2003) بعد صدور كتابه «الاستشراق (1978) الذي حمل الاسم ذاته. كان أحد تمثيلات ذلك السجال اصطلاح «الاستشراق معكوسا” الذي أوجده العظم، والذي يمكن القول أنه بات يرادف استشراق سعيد، ليس بصفة التضامن لكن بصيغة النقد، ولعديد الافتراضات المعرفية التي قدمها المفكر الأخير في كتابه التأسيسي ذاك.
"الاستشراق والاستشراق معكوسا" هو عنوان مراجعة قام بها المفكر العظم في العام 1980 لكتاب «الاستشراق”، والتي وصفها سعيد في كونها تحليلا «مشغولا بعناية فائقة، ويقدم⊃ وثيقة مقنعة ومثيرة للإعجاب”، لكنها أيضا، لم تلق إعجابا كافيا منه بسبب ما أسماه بقراءة «حرفية جدا، وغير حرفية كفاية”. وهو ما اتضح تاليا، من خلال رسائل تبادلاها معا، حينما رغب العظم بنشر المراجعة تلك في مجلة «دراسات عربية” والتي كان يشرف على تحريرها سعيد إضافة إلى كتاب آخرين.
دراسة العظم، أو تحليله لجهد إدوارد سعيد، ضمها فصلا في كتابه «ذهنية التحريم”.
الاستشراق في نظر سعيد هو شراكة بين النص الخطابي والأرشيف والسلطة. ويعرّفه باعتباره «خطاب منظم، وبناء عليه فإنه معرفة مكتوبة، لكن كونه في العالم وعن العالم مباشرة فهو أكثر من مجرد معرفة، إنه سلطة”. الاستشراق، هو كذلك، مؤسسة وحقل دراسات أكاديمية تناهت ارتباطاتها بالمصالح الاقتصادية والتجارية والسياسية والاستراتيجية للغرب التي اخترقت⊇ نطاق الشرق الجغرافي وتوسعت فيه وأخضعته لها، واتخذت مع مرور الزمن شكل توجهات فكرية وأيديولوجية. انطوت على فرضيات نظرية وتفسيرات وتصوّرات ومن خلال نتاج علمي وفكري، أدبي وسياسي تم التعبير عنه عبر هذه المؤسسة. حتى⊇أصبح، كما يبين سعيد، «مذهبا معرفيا عن الشرق، شبكة مقبولة تسمح منافذها بتسريب صورة الشرق إلى وعي الغربيين”.
موضوع الاستشراق، الذي بدأ منذ عصر النهضة الأوروبي حسب تحديد إدوارد، وستتم إزاحته من قبله إلى عصر الإغريق، كان يدّعي البحث عن حقيقة الشرق أثناء دراسته لمجتمعاته ولغته وثقافته وعقائده. وهي قراءات جاءت بالنسبة إلى المفكر الفلسطيني بصورة أحكام تقويمية تنطوي على مواقف عنصرية وتصورات اختزالية تدّعي تفسير واقعه، كما لا تخلو من مزاعم الاستقلالية الفكرية وموضوعية الحياد العلمي. والنظر إلى هذا الشرق بوصفه صورة ثابتة خضعت لخرافة الطبيعة الثابتة، لذا هي صورة غير متمايزة تنطوي مشهديتها الرتيبة والساكنة على خصائص جوهرية خامدة وذات طبيعة غير متحولة. ذلك ما جعل الشرق يستبعد عن وجوده أثناء زمنه المديد فكرة التحوّل حتى أثناء حضوره ضمن شروط تاريخية متغيرة.
رغم ذلك، لم ينتقص المفكر إدوارد سعيد من جهود مستشرقين في مجالات عدة منها تحقيق المخطوطات ودراستها وجهود ترجمتها التي انبروا لها للتعريف بأهميتها، وعملهم الدؤوب في الاكتشافات الأثارية التي قاموا بها للكشف عن الموروث المادي للحضارات التي سكنت هذا الشرق.
لقد جاءت ملاحظات المفكر جلال العظم بسياق نقدي يفسر إشكاليات عدة خضعت لها تحليلات إدوارد سعيد التي تم افتراضها من قبله بصفة تأكيدات تعبر عن واقع الاستشراق وتساند حقائق ثابتة عنه.
من تلك الاعتراضات التي أعلنها العظم على أطروحة سعيد، اعتبار الفكر الغربي ومنظومة الاستشراق بمثابة خط مستقيم يبدأ من نقطة هوميروس وينتهي إلى نقطة ⊇كارل ماركس وكأنه «يتصف بنزعة متأصلة لا يحيد عنها لتشويه الآخر(الشرق) وتزييف واقعه وتحقير وجوده، كل ذلك في سبيل تمجيد ذاته والإعلاء من شأنها وتأكيد تفوّقها”.
اعتراض كان قائما على عدم القبول، جراء النظر إلى فكر الاستشراق بكونه أداة للتوسع الأوروبي نحو الشرق ومنظومة اهتمامات سياسية واقتصادية واستراتيجية، تم إنشاؤه بأثر تراكم النتاج النصي المعرفي الذي قدمه الاستشراق الثقافي، الأكاديمي، بإطاره المعرفي الخاص، وتحويل الوعي به إلى ممارسة فعلية. أي ما كان وعيا تأمليا لنصوص قد تحول إلى وعي اقتصادي وعسكري وجهاز تنفيذي إداري، والذي أوجد بدوره شخصيات شهيرة، أمثال نابليون بونابرت، واللورد كرومر وآرثر بلفور ولورنس العرب. وهو تفسير وطريقة صياغة فكرية، كما يذكر العظم، تمنح «الأهمية العظمى والأولوية الحاسمة لكل ما هو ذهني وخيالي ومثالي وانفعالي وتصوّري في مقومات الفاعلية البشرية”، لتحل محل الواقع الخام بمصالحه ودوافعه وتعليلاته الفظة وكأن الواقع بات مادة النصوص ونتاجا عنها.
يعلل المفكر العظم في حوار أخير قبل رحيله «مجلة الجديد، عدد 19»، من أن دراسته «الاستشراق والاستشراق معكوسا” كانت نوعا من التنبيه والتحذير للشرق للمضي في صناعة صورة مشوّهة عن الغرب. بذلك يطالب بالرجوع إلى الذات «لنرى ما حقيقة هذا الشرق كما نعيشه ونحياه نحن أولا كشرق وبمعزل عن الصورة التي يقدمه الغرب لنا”.
إجابة العظم ، في ضفتها الأخرى، ستحتمل كذلك التباسا في تأليف الصورة المرتجاة عن الشرق، مرة، أثناء تخطيه للنقد الذي وجّهه لسعيد، حينما تحفّظ على قدرة أيّ خطاب وصفيا كان أم متخيلا، في أن ينشئ واقعا حقيقيا، أي استعادة تمثيلات النص المتخيل والخطاب السردي كمعرفة قابلة على إنتاج الواقع بوصفه حقيقة. ومرة ثانية كيف يمكن لهذه الأحداث المصيرية الفاجعة التي تجري في الشرق الآن، والتي بدأت منذ سنوات عدة، أن تتحول إلى مناسبة مهمة لإنتاج معرفة بلغة جديدة عن هذا الشرق، الذي بات متداعيا، وبأسباب مجادلة الغرب من موقع القوة.
استدعاء هذا الالتباس يظهر بأن⊇منظومة الاستشراق لا زالت مشروعا مفتوحا لم يكتمل بعد، حاملا معه أزمة شديدة الالتباس لتلك العلاقة التي لم يؤكدها التاريخ بعد، والقائمة على جدلية التفاضل ما بين ثنائية المعرفة والسلطة.