حيوية النسق الظلامي وضعف التنوير المقاوم
خلال أربعة عشر قرناً مضت راكمت الثقافة العربية الإسلامية تجربة إنسانية كبيرة اتسمت في كثير من مفاصلها بالحس الكوني والقدرة على التماهي مع الآخر، سواء كان ذلك الآخر نسبياً “داخلياً” أو شبه كلي “خارجي” وقد كان هذا المنحى ناتجاً عن عدم قدرة الحضارة العربية الإسلامية على الاكتفاء الذاتي -إن جاز التعبير- ذلك الاكتفاء الذي ظلت تصرّ عليه بعض التيارات وعلى رأسها أهل الحديث وهم السلف الأقدم للتيارات الدينية الناشطة اليوم بمختلف مسمياتها، وكما راكمت الحضارة العربية الإسلامية في مسيرتها الطويلة مجموعة كبيرة من الأعراف والتقاليد التي يتشكل منها الجانب التفاعلي من هذه الحضارة المتمثل في الاحتكاك المستمر بالحضارات الأخرى والترجمات والتضمينات الثقافية المختلفة الحاضّة على الانفتاح والاستقبال والحاضنة للتلاقح والتوالج الإنساني والمعرفي، فقد احتفظت أيضاً في داخلها بجيوب مغلقة راكمت فيها صنوفاً من التقوقع على الذات والرفض المطلق للآخر والتوجّس فيه، بدأ ذلك بتبنّي تفسيرات وتأويلات تنطلق من فهم عربي بدوي للنص منذ الجيل الأول للحنابلة ثم تطور ليصل إلى عصرنا الحاضر وقد صار نظاماً غير قابل للاختراق حتى بعد أن هبطت على حواضنه الثروة وتفتحت شهيته لابتلاع العالم.
وعلى مدار قرون لم تستطع تلك الجيوب تقديم أيّ نوع من الامتثال للعناصر الثقافية والمعرفية القادمة من الحواضن الإسلامية والمتداخلة بالنسق المعرفي العربي العام، والتي كان يمتثل لها معظم النسق الحضاري الإسلامي بوصفها نتاج تطور مطّرد وتلاقح فهوم وأمزجة من حضارات مختلفة اختارت الإسلام دينا.
وحين احتاجت تلك الجيوب إلى منطق الآخر ومناهجه لتقديم مشروعها وتوضيحه وتبريره والدفاع عنه كما في حالة ابن تيمية وزملائه وتلاميذه، فإن الاستفادة من الآخر كانت تقف عند حدود الغرض الحجاجي مع اشتباكات جزئية فيما يتعلق بالألفاظ والمعاني، أما تبدّل نسق الوعي ومراجعة التأويلات والقدرة على اجتراح تصوّر جديد للعالم فكان شديد الصعوبة دائماً بل كان يزداد رغبة في الانغلاق والتقوقع على الذات ورفض الآخر خاصة ذلك الآخر المتمثل في التوجهات العقلية للمعتزلة والفلاسفة وتجارب التدين والإبداع عند المتصوفة ناهيك عن المذاهب غير السنية. حتى الكوّة التي كانت مفتوحة باستمرار على المذاهب السنية مالكية وشافعية وحنفية فقد أغلقها التوجس تجاه بدعية الأشاعرة والماتريدية التي التحف بها أبناء هذه المذاهب، وقد ظلّ الانفتاح على الآخر السني بسيطاً جداً مقارنة بتلك القرون الطويلة من تاريخ التزاحم في المكان وداخل الإسلام الجامع للجميع.
ولكن النسق المعرفي المتمثل في المذهب الحنبلي أساساً وإضافات ابن تيمية عليه لاحقا ثم ما تراكم عليه من موجهات مفاهيمه خلال القرون السالفة كان موعوداً منذ مطلع القرنين الثاني عشر الهجري الثامن عشر الميلادي بتبدلات كثيرة سنّت حرابه وأعادت تخليقه فتبدل ذلك النسق تزامناً مع انزياحات غير قليلة أصابت بنيته الأيديولوجية التقليدية وغيرت آليات عمله ليصبح جاذباً عتيداً لجميع التيارات الدينية الراديكالية حتى تلك التي تشكلت في حواضن مختلفة ولأسباب لا علاقة لها بالمرجعية التاريخية هنا.
وقبل أن نرى ما إذا كان علينا أن نعترف أنه منذ ثلاثة قرون تقريبا كنّا على موعد مع تخلّق نسق مضاف يشكل البؤرة التي تشكل مجموعة تطورات في النسق ذاته وفي نشأة أو تحور تيارات لاحقة تجذبها إمكاناته المادية وتأويلاته ويجمعها معه الجنوح لممارسة الإرهاب.
ولكي يتضح ما نرمي إليه سنقف قليلاً عند مادة نسق قبل أن نستأنف. فإذا كانت المعاجم تعرف النسق من كل شيء: بأنه ما كان على طريقة نِظامِ واحد عامّ في الأشياء (لسان العرب، مادة نسق) فإن النسق المعرفي أو المرجعي الذي تقوقعت فيه التيارات النابذة للآخر قديماً لم يعد كما كان وفق موجّهاته ومفاهيمه الأولى، فقد مرّ هذا النسق بتحولات متباينة عبر تاريخ الإسلام الطويل، لكنه مع الأسف كان يتطور عكسياً بمعنى أنه كان في كل مرحلة يزداد انغلاقاً على نفسه وتزداد رغبته العنيفة في نبذ الآخر وكراهيته.
كمثال على ذلك فقد مرّ موقف هذا التيار “المرجعية” من التصوف بثلاث مراحل أو ثلاثة أطوار كلها تؤشر على تبدل النسق وتحوره أكثر تجاه العنف.
ساعدت المؤسسات التعليمية التي تمتلكها هذه التيارات وسيول المطبوعات والخطب والأشرطة والأقراص المدمجة ثم الشبكة العنكبوتية وغيرها من وسائل المعرفة المختلفة على تخليق الإرهاب بشكله الذي نواجهه من نسق معرفي تم انتقاؤه من عدة مصادر ومن مستويات نصية متباينة تتداخل وتتعاضد ومنها تتشكل هويته
الطور الأول امتد من القرن الثالث إلى القرن السابع، وفي هذه الفترة كانت مناوأته للتصوف والمتصوفة جزئية تلتبس بالتعصب المذهبي والخلافات الكلامية والجدل الفكري أو الاصطدام الذي يسببه الجديد المحدث للمتوجس خلقة في كل جديد، ولم يكن في تلك الفترة ما يلفت عدا ما فعله ابن الجوزي في “تلبيس إبليس″ ولكن ما فعله ابن الجوزي كان مجرد إنكارات لمظاهر عند المتصوفة وغيرهم لم يأبه بها أحد بل أنكرها عليه كثير، فقبل زمن ابن الجوزي كانت علاقة الإمام أحمد بن حنبل بالصوفية جيدة، وكان أبوحمزة الصوفي (ت269هـ) يجالسه ويستفيد منه وكثيراً ما كانت تعرض عليه مسائل “فليتفت إلى أبي حمزة يسأله ما تقول فيها يا صوفي؟”.
الطور الثاني من أطوار مناوأة الحنابلة للمتصوفة هو طور مدرسة ابن تيمية، وفي هذا الطور ازدادت المناوأة وعكست صراعات ابن تيمية مع المذاهب والأعلام المنافسين في عصره نفسها على الصراع حدة ونقداً ولم تكن بريئة من الأغراض والطموحات السياسية. فقد كان ابن تيمية يترضى على الجيلاني والهروي والواسطي وغيرهم، ولكنه كان حاداً أشد ما تكون الحدة مع معاصريه أو من سبقوه بزمن وجيز خاصة إذا كانوا ممن يخالفونه مذهباً واعتقاداً.
وفي هذا الإطار كان الحنابلة يرضون تمام الرضى عن المتصوف الحنبلي ويغضون من غير الحنبلي تبعاً لمناوأتهم لمذهبه.. فكان عبد القادر الجيلاني والهروي ويوسف بن الحسين الرازي، وأبو حمزة الصوفي، وابن الحيواني وأبوالجود الفارسي عندهم في محل عالٍ لأنهم من الحنابلة مذهباً واعتقاداً، وقد ذكّرهم بكل الخير كبار رجالهم، مثل ابن تيمية وابن الجوزي والذهبي وابن القيم وغيرهم، ولكنهم كانوا يتحفظون على الصوفية من غير الحنابلة الذين ظهروا بعد القرن الرابع بشكل خاص، أي بعد انتشار العقيدة الأشعرية وانتساب مجموعة كبيرة من الصوفية إليها، وقد انعكس هذا على موقف الحنابلة من مجموعة من الكبار في عالم التصوف مثل الغزالي والعز بن عبدالسلام والسهروردي والقشيري وأمثالهم.
وقد كان ابن تيمية صريحاً وأميناً في ذكر أسباب الخلاف الحقيقية وهي أسباب اعتقادية كما أسلفنا، فهو مثلاً يرى أن ما ذكره الشيخ أبو القاسم القشيري في رسالته المشهورة (يقصد الرسالة القشيرية) من اعتقاد مشائخ الصوفية فإنه ذكر من متفرقات كلامهم ما يستدل به على أنهم كانوا يوافقون اعتقاد كثير من المتكلمين الأشاعرة وذلك هو اعتقاد أبي القاسم الذي تلقاه عن أبي بكر بن فورك وأبي إسحاق الإسفراييني.
وهذا الاعتقاد غالبه موافق لأصول السلف وأهل السنة والجماعة لكنه مقصر عن ذلك (حسب رأي ابن تيمية) ومتضمن ترك بعض ما كانوا عليه وزيادة تخالف ما كانوا عليه، والثابت الصحيح عن أكابر المشايخ يوافق ما كان عليه السلف وهذا هو الذي كان يجب أن يذكر.
لكن المتغيّر الأكثر لفتاً للأنظار هو الهجوم الشرس لابن تيمية على أصحاب التصوف الفلسفي خاصة ابن عربي وهو هجوم بلغ حد التكفير، مع أن هذا لم ينفرد به ابن تيمية ولا انفرد به أتباعه فقد شاركهم فيه بعض أتباع المذاهب الأخرى. غير أن ابن تيمية لم يقدم على حرق كتاب ولا تدمير مزار أو تخريب أثر عدا حادثة نسبت إليه بعد موته ولم يعرض لها هو في كتبه.
الطور الثالث هو طور المدرسة الوهابية وما بعدها إلى اليوم. وفي هذه المرحلة لم يعد الوهابيون يفرّقون بين المنتسبين للتصوف من الحنابلة وغيرهم، ولا بين التصوف في عمومه والتصوف الفلسفي ولم يعد هناك مجال حتى للنقاش أو الحوار، فالتصوف كله في نظرهم واحد وكله مرفوض وملعون وشرير. وقد التبست حربهم على التصوف بأسباب متداخلة وتسببت في إتلاف تراث واسع من الآثار والكتب والشواهد الثقافية.
هذا النسق المتبدل سيغدو أكثر راديكالية منذ مطلع القرن العشرين ومنذ ثلاثينيات ذلك القرن سيغدو نسقاً تختلط فيه عناصر كثيرة ضاعفت قوة الموجهات السابقة لغيريته، وساهم اجتذابه لتيارات أخرى مثل الإخوان المسلمين في تخليق تضمينات وموجهات ومفاهيم أكثر تعالياً وفوقية وازدراءً للآخر ورغبة في استئصاله.
إن الإرهاب في صلبه هو ركام هذا النسق المرجعي التاريخي، أما صورته التي نعرفها اليوم فقد ساعدت على تخليقها مجموعة عوامل منها:
1- دعم الأنظمة: لقد وجد هذا النسق المرجعي نفسه مسنوداً بأنظمة نافذة تنتمي لهذه الحواضن وتقدم نفسها بوصفها حامية النسق والمتبنية لنشره.
2- السيولة المالية: وهي سيولة مذهلة يصعب على العناصر المستهدفة بالتنظيم والأدلجة والاحتواء والتفريخ مقاومتها.
3- الانفجار المعرفي: لقد ساعدت المؤسسات التعليمية التي تمتلكها هذه التيارات وسيول المطبوعات والخطب والأشرطة والأقراص المدمجة ثم الشبكة العنكبوتية وغيرها من وسائل المعرفة المختلفة على تخليق الإرهاب بشكله الذي نواجهه من نسق معرفي تم انتقاؤه من عدة مصادر ومن مستويات نصية متباينة تتداخل وتتعاضد ومنها تتشكل هويته.
4- المنابر الإعلامية: الإرهاب كيان منظم يمتلك كماً هائلاً من المنابر الإعلامية وخطابه التعبوي يصيب الهدف بسهولة كونه خطابا دينيا موجها لأمة تغلب عليها الأمية والتخلف وتعيش عقدة الماضي بشكل مرضي.
كل ذلك أرسى مجموعة من المفاهيم والأعراف الثقافية القديمة الجديدة، ولقد ترتبت على تلك المفاهيم مجموعة من الإجراءات أهمها تبدل أصول اللعبة تماماً وفيما كانت اللعبة تتبدل مرّ الشكل المتخلّق للإرهاب بتجارب ساهمت في بلورته مثل استفزاز الثورة الإيرانية وحادثة الحرم المكي المعرفة بحادثة جهيمان، مروراً بتجارب الجهاد الأفغاني والبوسني والشيشاني والتجربة الجزائرية وتأسيس القاعدة وظهور حركة طالبان وأحداث الـ11 من سبتمبر والغزو الأميركي للعراق وهيجانات الشوارع عام 2011 وصولا إلى التمظهرات الكبرى المتمثلة في داعش وأخواته.
ولعل أهم خصائص النسق المعرفي الإرهابي كما نراه اليوم يتمثل في مجموعة من النقاط قدمها حسين حماد في كتابه “ذهنية التكفير.. الأصوليات الدينية والعنف المقدس″ منها أنه ” يميل إلى اختزال الحقائق المتنوّعة والمتعددة للأشياء في حقيقة واحدة ونمط واحد من أنماط التفكير، بالإضافة إلى أنه ينتج أساسا عن تفكير محدود. وعادة ما يوظف لخدمة المسلمات الدينية ونادرا ما يترك لنفسه حرية الانطلاق والجنوح في آفاق التخيلات والتأملات العقلية، فهو يفرض على نفسه قيودا وأسوارا لا يتجاوزها ولا يتخطاها”. كما أنه “نكوصي ماضوي يقدس الماضي ويتحرق شوقا للعودة للأرحام المرجعية في الفقه واللغة والأفكار، لأن هذه الأرحام تبدو له وكأنها ملاذ آمن وطريق سهل للارتواء من منابع التدين النقي، ومن هنا يتسم بهذا الحنين الجارف لاستعادة الماضي التاريخي للأسلاف، والعودة إلى العصر الذهبي للسلف الصالح، ومن ثم يتمّ نفي الحاضر والمستقبل لحساب هذا الزمن المطهر من كل الخطايا”. وهو “يعاني من أحادية البعد، ويعجز عن إدراك أنّ للحقيقة عدة أوجه وليس وجها واحدا، فهو يعجز عن التفكير بشكل جدلي من خلال الـ’معا’ والـ’ضد’ والـ’شيء’ ونقيضه، حيث أنه يُعطي لنفسه الحق في الامتلاك المطلق للحقيقة، وهذا الزعم يعطيه الحق في نفي الآخر ورفضه ثم تكفيره تمهيدا لسحقه وتصفيته”.
ثم هو”عقل دوغمائي، والدوغمائية هي نوع من الاعتقاد المطلق في امتلاك الحقيقة التي تعلو فوق النقد والشك، وكل الأصوليات الدينية المعاصرة تزعم لنفسها امتلاك الحقيقة المطلقة وتنزع في تفكيرها نزوعا دوغمائيا. ووفق هذه الركائز مجتمعة يتشكّل المنطق الأصولي، الذي يتنافى مع منطق الثنائيات المعرفية ومع طبيعة البشر وطبيعة الحقائق وطبيعة هذا الوجود، والتي تشبه جميعها ثراء وتنوع ألوان الطيف، حيث أن اختزال الإنسان والعالم والأشياء وفق منطق “أما-أو”، وفق ما يذهب إليه حماد، هو نوع من التفكير المرضي الذي يمنح أصحابه تبريرا سهلا لممارسة الإرهاب” (ابن تيمية، تقي الدين، الاستقامة، تحقيق محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الطبعة الأولى 1983).
ولكن مفهوم النسق المعرفي في هذا السياق لا يمكن أن تكون له الفعالية المرتجاة، فهو لا يعمل بكفاءة عالية ولا يكون منضبطاً إلا إذا قرأناه في ضوء غيره من المفاهيم مثل مفهوم الأفق المعرفي الذي يعني أن في كل حقبة من تاريخ البشرية توجد مجموعة من الأفكار والقيم والحقائق المعرفية السائدة تتحدّد في ضوئها مفاهيم الإبداع، والعلم، ومناهج البحث العلمي، ومعايير الحكم على جدة وجدية هذا الخطاب الفردي أو الجماعي وذاك.
وحينما نقول إن الأفق المعرفي الذي سبق ورافق ظهور كابوس الإرهاب كان يتجه بقوة لصالح مفاهيم العنف والقتل والتدمير واحتكار الحقيقة والدين ونبذ كل ما يعرفه ويألفه المجتمع ورفض كل شروط الحضارة المعاصرة بوجهها الكوني وأفقها الإنساني فهذا يعني أن هذا الأفق المعرفي يقوم بإضافة فعالة ومخيفة تتخطى النسق المعرفي القديم دون أن تعارضه بما يعنيه ذلك النسق من جمود واجترار وركون إلى المألوف والسائد، وهو إذ يعيد تقديمه مشحوناً بانفعالات أشدّ هيجاناً وحقد أكثر تأججاً يستهدف الداخل أنظمة ومؤسسات ومجتمعات وأفراداً ومذاهب وأحزابا وتيارات تغايره ويستهدف العالم كله بوصفه أغياراً يصعب القبول بهم.
دور الثقافة في مواجهة الإرهاب
ما هو إذن الدور الذي يمكن أن تضطلع به الثقافة في مواجهة الإرهاب؟ بالرغم من أننا لا نستطيع أن نقول إن الموضوع قد حسم تماماً وإن الوجه القبيح في تاريخنا وتراثنا قد استولى على كل شيء إلا أن الهزات الكبيرة التي شهدتها المجتمعات العربية خلال العقود الأربعة الأخيرة وما نتج عن تلك الهزات من عوامل الخوف والتصدعات المجتمعية والثقافية كان يؤدي إلى انتقال القيم باتجاه مقترب التخلف والتشوه وإلى مفزع الشك والارتياب وإلى النكوص المفجع عن التطور والحداثة والتخطي والمغايرة.
إن المقارنة بين داعش والنازية مثلا والكلام للمفكر اليمني حسين الوادعي “ليست صحيحة لأكثر من سبب من أهمها أنه لا يوجد فكر خاص بداعش بحيث يتم عزله ومحاربته، المعركة ضد الفكر النازي كانت أسهل فهناك رموز للنازية وكتب خاصة بها وأفكار تفلسفها وبالتالي يمكن محاصرتها وتحريمها. أما بالنسبة إلى داعش فالمسألة معقدة جدا ولعل كثيرين لم ينتبهوا إلى أنه لا يوجد لداعش فتاوى خاصة بها أو كتب خاصة بها أو حتى أفكار خاصة بها! فأفكار داعش يشترك فيها مع غيرها من التيارات الإسلامية وخاصة الحنبلية الوهابية والإخوانية القطبية، ومرجعيات داعش هي نفس مرجعيات المؤسسات الدينية الرسمية (ابن تيمية، ابن حنبل، ابن القيم، ابن عبدالوهاب). ونفس مرجعيات الإسلام السياسي المعاصر (المودودي، سيد قطب، عبدالله عزام)، وأفكارها هي نفس الأفكار التي أصبحت شائعة حتى في الكتب المدرسية (الجهاد، الولاء والبراء، الجاهلية المعاصرة، الشهادة، الفرقة الناجية).
وكل فظائع داعش والقاعدة كانت لها مثيلاتها في موروث العنف الإسلامي وكتب التراث من سبي النساء حتى إحراق الأسرى وذبحهم، كان الفكر النازي والفاشي جملة اعتراضية في السياق الأوروبي لذا كانت محاصرته وتحريمه ممكنان. أما “فكر داعش فلا يمكن فصله عن الفكر العام للموروث الديني دون المرور بمرحلة إصلاح ديني جريئة وجذرية” (العفيف، أحمد جابر، شاهد على اليمن أشياء من الذاكرة، دار الفكر دمشق ص 420 ط 1/عام 2000).
إذن فإن التعامل مع أنساق الثقافة العربية التي كانت حواضن سلبية أو إيجابية (رافضة أو متقبلة) والتي هيأت الشروط الموضوعية لإنتاج كابوس الإرهاب بوصفه ممارسة لا عقلانية ولا إنسانية ثم بوصفه أكثر أشكال التدين تعبيراً عن محاولات الإنسان لتحويل الدين إلى كائن وحشي لا أخلاقي مرعب سيبدو أمراً محالاً في هذه العجالة، لذلك سأتخذ من الحالة اليمنية نموذجاً أقارن من خلاله الدور الذي لعبته الثقافة في مواجهة الإرهاب.
وسأنطلق أولاً من مفهوم الثقافة الواسع المتمثل في كونها تشمل أنماط القيم والسلوك والدين والمعاش والطقوس والعادات والتقاليد وأنظمة الأكل والموسيقى عموماً وأنظمة المعنى السائدة. ثم تمظهرات ذلك كله من خلال الثقافة الرسمية أو الثقافة العالمة المتمظهرة في الإنتاج الفكري والفلسفي والسوسيولوجي والنظري والإبداعات السردية الروائية والقصصية والشعرية والإبداعات التشكيلية وإنتاج الأفكار والمعاني إلى جانب رؤى النخبة الضيقة جداً أقصد الجيل التنويري الذي اشتغل بالسياسة من بوابة الريادة التعليمية والثقافية وكذلك الثقافة الشعبية بفنونها المختلفة.
لا بد أولاً من الإشارة إلى هشاشة جبهة الثقافة والمثقفين في اليمن، ولا بد من التأكيد على كون هشاشتها تفوق كل تصور وذلك لجملة من الأسباب:
أولها: كون المؤسسات الحاضنة للثقافة والمثقفين شبه منعدمة وإن وجدت فهي هامشية جداً ضعيفة الإمكانات، قليلة الحيلة، وفي مرات كثيرة لا تكون أكثر من مجرد حضور اسمي لا غير.
ثانيها: بنية الدولة التقليدية الميالة دائماَ لعدم تقدير الثقافة بل والاستخفاف بها وبرموزها وكياناتها.
ثالثها: التحاضن طويل المدى بين السلطة ورموز التيارات الدينية المتطرفة بكل تمظهراتها.
رابعها: تجريد السلطة للتيارات الدينية سيفاً على مخالفيها، واتخاذها سنداً في حروبها جعلها جزءاً من السلطة وأطلق ممارساتها الإرهابية ضد المجتمع وثقافته وإرثه الديني القارّ المتمثل في التصوف والمذهبين الشافعي والزيدي والعادات والتقاليد الاجتماعية وكذلك الإبداع الأدبي والفني ومنابر التطلعات الحداثية القليلة ومؤسسات التعليم.
الوجه القبيح في تاريخنا وتراثنا قد استولى على كل شيء إلا أن الهزات الكبيرة التي شهدتها المجتمعات العربية خلال العقود الأربعة الأخيرة وما نتج عن تلك الهزات من عوامل الخوف والتصدعات المجتمعية والثقافية كان يؤدي إلى انتقال القيم باتجاه مقترب التخلف والتشوه وإلى مفزع الشك والارتياب وإلى النكوص المفجع عن التطور والحداثة والتخطي والمغايرة
في مطلع السبعينات من القرن العشرين شهدت صنعاء مظاهرة احتجاجية قادها الشيخ عبدالمجيد الزنداني تستنكر إقدام الحكومة على التفكير في إنشاء أول جامعة في شمال اليمن. وكانت حجة المحتجين أنها ستكون حاضنة لتعليم الكفر ومرتعاً للاختلاط والفساد الأخلاقي. وكان ذلك في وقت تزخر فيه صدور النخبة التنويرية بتطلعات وطموحات لا حدود لها ففشلت احتجاجات الزنداني ونجحت تطلعات أحمد جابر عفيف وعبدالكريم الأرياني (غيلان، عبد الرحمن، الجماعات الجدينية وتكفير المثقفين – صحيفة الثقافية نموذجاً، مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر- القاهرة الطبعة الأولى 2017).
لكن ما أن أهلت ثمانينيات ذلك القرن حتى كان شباب الإخوان يجوبون المساجد في طول اليمن وعرضها ليقرأوا في خطب الجمعة فتوى تكفير المقالح الشاعر الكبير ورئيس تلك الجامعة. كما شهدت ممرات كلية الآداب حادثة من أطرف الحوادث فقد وقف أساتذة الجامعة وطلابها مذهولين وهم يشاهدون متعصباً دينياً وقد أشهر سيفاً وراح يطارد أستاذ علم الاجتماع حمود العودي وهو يقسم بالله أن يريق دمه. ثم تواترت تلك الممارسات في الجامعة وخارجها خاصة بعد صعود التيارات السلفية فتم تكفير مجموعة من الكتاب من أمثال عبدالكريم الرازحي وأبوبكر السقاف. وطال التكفير صحيفة الثقافية ومعظم كتابها وعلى رأسهم رئيس تحريرها سمير اليوسفي ومحمد عبدالوليّ وعلي المقري ووجدي الأهدل وبشرى المقطري وحكم على الكاتب عبدالجبار سعد بالجلد وحبس الكاتب صالح البيضاني وطورد وهدّد آخرون.
ودشنت مظاهر واسعة لتديين الجامعات على الطريقة السلفية الوهابية الإخوانية الطالبانية تم من خلالها ترهيب وضرب وفصل الكثير من الطلاب والطالبات ومنعت الحفلات وكسرت أدوات الموسيقى واعتبرت مناهج علم الاجتماع والفلسفة والتاريخ والآداب بشكل عام مناهج كفرية.
بموازاة ذلك كان إرث التصوف يستهدف بشكل مريع فتم هدم آلاف الأضرحة وطال العبث والحرق آلاف المخطوطات وهدمت مساجد أثرية لا لشيء سوى الرغبة في استبدال النسق المرتبط بها كون الاجتثاث أمر يسهّل مهمة الاستزراع.
كما استهدفت رموز أثرية للمذهب الإسماعيلي ومورس الضغط والترغيب والترهيب على أسر العلم بهدف خلخلة المذهبين القارين الشافعي والزيدي واستبدالهما فاشتغلت فتاوى التكفير والتبديع وشهدت مئات المساجد معارك اقتلاع للقائمين عليها سالت بسببها الدماء ودنّست بها بيوت العبادة.
وفي خط ثالث تم حذف حصص الموسيقى في المدارس واستبدل في أكثرها النشيد الوطني بأناشيد الإخوان المسلمين، واستبدل تصفيق الاستحسان بالتكبير والمسرح بالمبيت في المساجد، وتم تغيير مظاهر الأعراس فدشنت جهود واسعة لخنق الفنون الشعبية المرتبطة بالأعراس من أزياء وزينة ورقص وغناء وموسيقى وأطاحت الهجمة الهوجاء بدور السينما حتى أغلقتها عن بكرة أبيها وتمت محاصرة الحواضن التقليدية لكل تلك المظاهر حتى أوشكت أن تلفظ أنفاسها وقطع دابر الزيّ النسائي الذي يتميز بالعراقة والتنوع وتم تثبيت بديل واحد عنه يفتقر للجمال وتنقصه أنفاس الحياة.
وحين أوقف الحوثيون سنة 2004 حفلاً موسيقيا في مسرح الهواء الطلق بحجة أنه يسيء إلى صنعاء القديمة كان التياران الضد (السلفية الوهابية والإخوان) قد تكفلا بتدمير كل جميل في التراث وقتلا كل تبازغات الحداثة في المجتمع اليمني بل كانا قد انتقلا منذ أمد إلى ممارسة الإرهاب المسلح وارتبطا بالقاعدة وبأجندة السلطة والقوى الخارجية وكان قد تم اغتيال مصفوفة من الرموز السياسية والثقافية اليمنية وكانت قد صدرت فتاوى تكفّر معظم اليمنيين، بدأت بتكفير الجنوب كله سنة 1994، وكان زمن السياحة قد انتهى ومرغت سمعة اليمن في التراب وأفقر الملايين من أبناء الشعب اليمني نتيجة شره المكونات الإرهابية للسلطة والمال ورغبتها في تدمير كل ما ومن يقف في طريقها.
وأصبح مألوفاً أن تبث وسائل الإعلام خطبة لشيخ “يقف أمام حشد من أنصاره وأتباعه يؤجج في أرواحهم غريزة العدوان ويهيئهم كقتلة لكن بدم بارد دون أن ينتابهم أي شعور بالذنب أو الخطيئة، فهم يبدون في حالة حماسية عالية وفي حالة استعداد تام لحرب أو غزوة مقدسة” (الحمامصي، محمد، نكوص العقل الأصولي أصل الإرهاب ومنبع التطرف، صحيفة العرب – لندن/العدد: 10065، بتاريخ 13/10/2015م، ، ص6).
إنه مشهد تباركه السلطة ولم يعد المواطن العادي يرى فيه خطراً على الأمن والقانون وهيبة الدولة والاستقرار وقيم السلم والتعايش، فالمشهد ليس إلا لقطة من تنميط طويل الأمد على النموذج الأفغاني اعتاده اليمنيون منذ ثمانينات القرن العشرين وهو استنساخ وتوأمة طالبانية وتمهيد للقاعدة ومن ثم داعش وأخواته ولما يستجد بعدها.
وحين نجوت شخصياً من حادثة التفجير الانتحاري في ميدان التحرير بصنعاء صباح التاسع من أكتوبر 2014 حيث لم يكن بيني وبين المكان أكثر من مئتي متر وكان يفترض أن أقطعه راجلاً، كان تاريخ الإرهاب قد اكتمل وكان الصراع قد تحول إلى حرب مكشوفة، وكان هدف تخريب الدولة قد تحقق وهو واحد من أهم أهداف الإرهاب بل هو في الصميم من معتقدات منتجيه.
ستسألون أين دور المثقف وأين دور الثقافة في المواجهة؟ الجواب أن محاولات الكتاب والمثقفين والفنانين في التصدي لهذه الكارثة كانت تواجه من جهة بقمع شديد تقوم به تلك التيارات مسنودة بالسلطة، ومن جهة أخرى فإن الكيان المؤسسي الذي يؤطر مثل هذه المحاولات كان غائباً، وإن وجد فهو هش قليل الحيلة إزاء استفحال غول الإرهاب واستقوائه بالسلطة والقبيلة، ولعل أهم محاولات الوقوف في وجه هذا الكائن متعدد الأذرع كانت تتمثل في صحيفة الثقافية فقد واجهت هذه الصحيفة مظاهر الإرهاب قدر استطاعتها وتعرّض رئيس تحريرها وأكثر كتابها للتكفير وظلت عرضة لحملات التشهير والمحاكمات المتلاحقة حتى تم إيقافها، وقد نشر الكاتب عبدالرحمن غيلان كتاباً بعنوان “الجماعات الدينية وتكفير المثقفين -صحيفة الثقافية اليمنية نموذجاً” وهو يوثق الأسباب والدوافع ومظاهر الصراع التي أدت إلى تكفير ومحاكمة صحيفة الثقافية اليمنية ورئيس تحريرها ومجموعة من المثقفين مطلع القرن الحالي من خلال رصد أنشطة التوجهات الدينية المتشددة في اليمن بأخلاطها السلفية والإخوانية وتحالفاتها المسنودة بقوة المخترقين للدولة والقبيلة من أجل الهيمنة الرقابية القائمة على حسّ المصادرة واحتكار التقييم الكامل لما يجب أن يُكتب أو يُناقش أو يُعرض من إبداعٍ وثقافةٍ وفنون. ويعتبر هذا الكتاب التوثيقي الهام كاشفاً لمرحلةٍ تنامى في ظلالها التدخل السافر من الجماعات الدينية في حرية الناس وتشكيل ما يُشبه اللوبي في الجهات القائمة على أمر التعليم والثقافة والفنون والإعلام ومنابر المساجد كان الهدف منه التحكم في كلّ مجريات الحياة الثقافية والإبداعية، ووضع اختيارات الناس تحت مجهر التحكم.
وقد توقف طويلاً أمام إشكالية التكفير في علاقة الجماعات الدينية بالمثقفين من خلال قراءة ربط فيها بين وعي الماضي والحاضر تحت سقف الحرية في سياقات سلط خلالها الضوء على العلاقة الملتبسة للجماعات الدينية بالدين ووعيها القاصر بالعمل الثقافي وتعاطيها السلبي مع مفهوم الحرية، وقدم عرضاً واسعاً لحروب ثقافية قادها الإخوان المسلمون في اليمن بهدف كسر شوكة البارزين من المثقفين والكتّاب والمبدعين وأهمها المعركة التكفيرية التي قادها الشيخ عبدالمجيد الزنداني ورجال دين آخرون ضد صحيفة الثقافية. هناك أيضاَ كتب قليلة حاولت فضح الإرهاب وسلوكياته منها كتاب “أقلام وهراوات” للكاتب صالح البيضاني وهو كتاب يرصد تاريخ المصادرات والترهيبات والتعسّفات التي طالت الكتاب في قرون ماضية ويقارنها بما يحدث في عصرنا من استفحال لهذه الظاهرة مبرزاً التضحيات التي قدمها أهل القلم على مذبح الحرية والتنوير، أما كتاب “عودة العقل” الصادر للكاتب عصام القيسي فهو مقالات متفرقة تؤكد على ضرورة العقل كواعية للتفكير وناقد للظلام والجهل والدكتاتورية والإرهاب، وهناك كتابات متفرقة لكتاب مثل عبدالباري طاهر وعبدالكريم الرازحي ونبيل سبيع وقادري أحمد حيدر وغيرهم واجهوا هذه الظاهرة متعرضين لصنوف الأذى عارفين أن شروط الواقع تجعل كتاباتهم دون جدوى، كذلك أقيمت عديد الندوات بمبادرات من منظمات المجتمع المدني لعل أهمها “ندوة الفكر في مواجهة التكفير” أبريل 2013، وهناك أعمال فنية مثل فيلم “الرهان الخاسر” للمخرج فضل العلفي، وفيلم “الضحية” للمخرج عماد دلاق وغيرها من الأعمال التي كانت تحاول أن تفعل شيئاً رغم الفقر وقلة الحيلة والحصار والخوف كون المبادرات بلا روافع، ولأن السلطة والمال والعسكر والقبيلة في اليمن كانت كلها في صف الإرهاب، وكانت المؤسسة الرسمية بكل تجلياتها تسانده، وكان المثقف وحيداً عارياً إلا من كلمة معظم من يقرأونها يعتبرونه مجرد مسخ مارق يقف ضد الدين وضد حراسه الأمناء. لذلك كله كان البقاء مجرد بقاء المثقفين والكتاب والمبدعين على قيد الحياة هو ملحمة نجاح تستحق الاحتفال بها.