روح لأجل الكتابة
“الكتابة تحتاج روحا، وأنا لا أمتلك الروح للكتابة الآن”، هكذا أجيب أصدقائي كلما سألوني عن أخبار الكتابة معي.
قررت أن أذهب إلى طبيب نفسي بناء على نصيحة إحدى الصديقات بعد أن وجدتني أقضي الوقت ممدة على كنبة رمادية أمام التلفزيون أشاهد الأفلام القديمة وآكل البيتزا باستمرار وأمامي أنواع مختلفة من الشوكلاتة وفناجين قهوة بأحجام مختلفة، حتى أن وزني ازداد خمسة عشر كيلوغراماً في السنة الأخيرة. صرت أقول إني لست فقط كبيرة الآن بل أيضاً صرت سمينة وهذا يحبطني ويزيد رغبتي في أكل المزيد من البيتزا، البيتزا مهدئ لكل المخاوف، في الواقع هي العلاج لانعدام الأفراح في الحياة.
هذا أيضاً ما قاله الطبيب النفسي، قلت له أنا أفهم كل شيء، لكن لا أستطيع أن أفعل أيّ شيء بهذا الفهم. وهذه الأيام لا أستطيع أن أكتب، لا أمتلك الروح للكتابة، كما أني لا أستطيع الالتزام بحمية غذائية، وأذهب للنادي الرياضي الذي أحرص على تجديد الاشتراك السنوي فيه فقط لأجلس في مقهى النادي وأشرب الشاي والقهوة مع بعض السندويشات.
قال بدون تردد “إنه الاكتئاب” كمن يعلن اكتشافاً خطيراً، ووصف لي علاجاً مضاداً له، عرفت لاحقاً أنه علاج مضاد للحياة أيضاً. قلت له لو أخذت الحبوب سأصبح رسمياً مريضة اكتئاب، أحب أن أظل مكتئبة فنياً فقط، إذ يمكنني مقاومته بالكتب والسينما والبحر والأصدقاء، أنا أقرأ الكتب وأذهب إلى السينما ولديّ الكثير من الأصدقاء المضحكين.
في ظلام صالة السينما تضيء روحي، لكن في الأفلام الجيدة فقط، للأسف أصبحت أغلب الأفلام عنيفة ومرعبة أو مبتذلة الآن، يقولون تجذب الجمهور أكثر، لكن أنا من الجمهور ولا أحبّ كل هذا، أريد أفلاماً إنسانية ترتقي بروحي وتعالج كآباتي وجروح الحياة الكثيرة، لكن لا يبدو أن أصحاب الصالات يهتمون برغباتي.
الطبيب قال توقفي عن خداع نفسك، إنه مرض العصر، منذ متى وأنتِ تعانين من حالة التبلّد هذه؟ لم أستطع تذكر مدة زمنية، ذاكرتي أيضاً مشوشة، فاستشفّ من حيرتي أنها مدة طويلة. “لا تخافي هي حبة واحدة في اليوم، علاج جديد لا يسبب إدمانا”، كما قال. أيقنت بعدها أن الطبيب النفسي أيضاً مثل أصحاب صالات السينما لا يهمّهم سوى بيع المخدرات للجمهور.
وقفت في طابور المنتظرين لأدويتهم في الصيدلية، الطابور طويل، أكثره نساء، بدت عليهن جميعاً رجفة خفية، يقفن منتظرات بصبر ورجاء للحصول على تلك الوصفة التي ستزيح عن قلوبهن صخرة الاكتئاب. جلست في كرسيّ جانبي أنتظر دوري وأفكر من يا ترى وضع تلك الصخرة على قلوب النساء؟ بَدونَ بلا ملامح، لا تهتم أيّ منهن بهندامها، يحملن أنفسهن هكذا فقط كيفما اتفق بمنتهى اللامبالاة.
تناولت حبتين منه ليومين، حسنا، ثلاث حبات، تحولت لكائن آخر، كائن يشبه تلك النسوة في طابور الصيدلية، لكنه لا يشبهني. الطبيب قال إن المفعول لن يظهر إلا بعد أسبوعين من تناول العقار، في الواقع ظهر مفعوله بعد اليوم الأول. أصابني بالبلادة، نعم كنت أمرّ بحالات تبلّد قبله لكن لم يكن ذلك يعجبني، لكن بعد تلك الحبة أصبحت أعرف أنّي متبلّدة دون أن أنزعج من ذلك، لم أشعر بأيّ ضيق، مشاعري صارت محايدة، لا شيء يزعجني، لكن أيضاً لا شيء يسعدني، لا أكره شيئاً، لكن أيضاً لا أحب شيئاً، لا شيء يهمّني، لثلاثة أيام كنت شخصاً مثل كل الذين كرهتهم في حياتي؛ أولئك المفصولين روحياً عن الإحساس بمعنى ومعاناة الوجود. تجعلك تلك الحبوب تشعر أنك شخص عادي تماماً، بلا أيّ نكهة بلا أيّ هالة بلا أيّ رائحة، والمشكلة أنك لا تكره نفسك لذلك. أحسست أن المقدرة على كره الذات أمر ضروري، هو مقياس الوعي والإدراك وقابليتك للشعور بالحب.
إن فقدت القدرة على كره البشاعة والفشل وانعدام المروءة ووضاعة الأخلاق والقذارة، فلن تستطيع أن تشعر بالحب تجاه الجمال ونقاء النفوس وصفاء الأرواح وفروسية العقول وروعة الأصدقاء وبهجة الطبيعة ونظافة الشوارع. هو إحساس مطلق باللامبالاة؛ ولكن ليست تلك اللامبالاة الفنية التي تجعل المرء متمرداً على الأُطر العامة و”المناسب” و”التقليدي”، لكنها لامبالاة اللامكترث حتى بلامبالاته؛ لامبالاة الجثة نحو العيون الباكية عليها. توقفت عن تناوله. تباً للطب النفسي الحديث، إنه تجارة بحته لترويج أدوية التخدير، يسلبون الناس أرواحهم.. “يُخصونهم نفسياً”، فيصبح الواحد منهم حياً بدون حياة ولا يعترض.
الآن أفكر في العودة إليه، مضت مدة طويلة لي أمام شاشة التلفزيون، العلبة أمامي، أفكر ماذا لو خُلقت قبل اختراع التلفزيون؟ لربما كنت ملأت وقتي بقراءة الكتب التي تتراكم في مكتبتي دون أن أفتح حتى الغطاء البلاستيكي على أغلفتها.
أحب الكتب، هي حبوب اكتئابي، كان الانتهاء من قراءة رواية كفيل بإخراجي من دنيا البلادة لدنيا الحياة بكل قوة ووضوح رؤية وتوازن نفسي وسعادة. لكن هذا كان أيام الطفولة والشباب الأول، حين لم يكن لديّ الكثير من الكتب. هل تقتل الكثرة الرغبة؟ كنت أحلم بمكتبة كبيرة، كنت أشتهي رائحة الكتب، كلما دخلت إلى مكان فيه مكتبة كنت أبكي من شدة الإحساس بجمال الحياة، لكن لم يكن لديّ في البيت مكتبة. لا أحد يهتم بالكتب غيري، الآن أصبحتُ مستقلة، أشتري ما أشاء من الكتب، ولديّ الوقت، لكن ليست لديّ الروح. أين تذهب أرواحنا الأولى حين نكبر؟ من يسرقها منا؟ الزمن؟ الناس؟ الأحداث؟ أقول إنها خيبات الأمل. في بداية الحياة يظل الإنسان مؤمناً بالأمل، ثم يصاب بخيبات متوالية على كل الأصعدة، ثم يفقد الإيمان بالأمل، ثم لا يعود أيّ شيء يهم.
البارحة تفرجت على فيلم هوليودي عادي، في الأحوال النفسية الجيدة أنتقي ما أشاهد من أفلام، لكن في حالات البلادة أشاهد أيّ شيء. البنت تكتشف أنها تحب صديقها بعد أن يموت وتظل محتفظة برماده في قارورة تحملها معها، حتى تكتشف عدد علاقاته فتنثر الرماد في الشارع. الكذب يدمّر الحب، والحب أسمى ما يمكن أن تعتنقه الروح، إنه إشراقتها الخاصة. لكن ذهابه يترك مرارة تستمر فترة طويلة، ربما للأبد. فتنمو صخرة على القلب تربض مثل كلب أسود شرس تصطف بسببه النساء في طابور عيادة نفسية. لذلك ربما من الأفضل ألاّ نحب، وربما من الأفضل ألّا نتعلق بأيّ آمال كبيرة، الآمال الكبيرة هي مفتاح خيبة الأمل الذي نفتح به باب كهف الاكتئاب.. علينا أن نتذكر دوماً أن نضع أقدامنا على أرض الواقع فنحسّ فقط بما هو أمامنا وبما هو بأيدينا ونعتني فقط بأنفسنا وبما يريحنا وبما نستطيع السيطرة عليه.
أعرف أنّي أقول هذا الآن فقط، وأنّي في الصباح سأنسى مجدداً هذه النتيجة العقلانية وأخرج بسقف مرتفع من الآمال الكبيرة لأعود في المساء وقد سقط السقف على رأسي لأحتمي بالكنبة الرمادية ليوم رمادي آخر. أوشك أن أمد يدي إلى العلبة في الطاولة الصغيرة لكن عوضاً عن ذلك أمد يدي إلى جهاز اللابتوب الواقع أرضاً، أسحبه، أضعه على حجري، أفتحه، وأكتب هذا النص.