القراءة وعلاقات الدائرة
القراءة والكتابة مفردتان مدرستيان، كان آباؤنا يفتخرون أننا نقرأ، اليوم تفصح هاتان الكلمتان عن حقول لا حد لها من المعرفة النقدية عندما حوّلها النقد إلى جزء وبنية من الفلسفة والحداثة والفكر والممارسة والوجود. اليوم تتداخل الأفكار والأشكال لتأليف مفهوم جديد، مثلاً مفهوم “القراءة”. ليست هي مسك كتاب لتقرأه، بل هي مشاركة مع آخرين يمارسون أفعالا لاكتشاف الآخر، القراءة اكتشاف بآلية حفر المعاني.
نحن نعود بممارسة القراءة من الكل إلى الجزء، من مجموع القراءات عبر التاريخ إلى قراءة الذات، من قراءة المحيط الكوني إلى قراءة البيت، من قراءة البحر إلى قراءة النهر، ومن قراءة الجبال إلى قراءة التلال، ومن قراءة الصحراء إلى قراءة حبة الرمال. وفي صخب البحث عن المصطلحات النقدية الحديثة نجد من يحيل مفهوما على آخر ليعمق مسارا، وليعمق مساره. كل آليات البحث سيرورة ذاتية للمصطلح، المصطلحات تحيا معنا، وتجعلنا، كما يقول لاف كوست، نعيش في استعارتها.
ودائما ثمة مفهومات كبيرة عندما تحيل القراءة أو الكتابة إليها لتكتسب الحالة طاقة ومدى تلك السعة فيها. فمفهوم علاقة القراءة بالدائرة، مثلا، يعني في الفلسفة الشمول والحركة والمرونة واحتواء ما في الأرض-الرحم وما في البيت-المغارة وما في الرأس-العقل، وما في الإنسان-دورة الحياة، إضافة إلى بعد الدائرة الهندسي الذي يحتوي المربع والمثلت والمعين والخط المنحني المرن والممتد عبر كل الأزمنة، كاسرا الزاوية الحادة والقائمة وملتصقا بالمنفرجة. والقدرة التي تتيحها الرياضيات لنا على تراكم العدد تعطي الدائرة بنية القراءة طاقة الدوران والحفر.
استعار جيروم. ج. ماجان في 1991 مصطلح “القراءة المحيطة” (Radial reading)، وهو تعبير، كما يقول قاموس المصطلحات الأدبية للدكتور محمد عناني من (Readius)، أي قطر الدائرة، ليعني “القراءة التي يتسع نطاقها لتحيط بأقطار مصادر النص والمؤثرات في الأعمال الأدبية الحديثة القائمة على التناص، والتي تنتمي لتراث ثقافي عريض”. أما القارئ، فالمعنى الدقيق المثالي له آت من “القراءة المحيطة”، هو مجموعة القدرات والمواقف والخبرات والمعارف التي تتيح للقارئ أن يستخرج الحد الأقصى من القيمة في نص معين. ويضيف بعض المعلقين على تحديد جيروم أن تلك القيمة يجب أن تكون مشروعةً، أي غير مقحمة على النص، بل نابعة منه، ومستوعبة لحقيقتين: الأولى ما موجود في النص من قدرات تحيلك على المجتمع، والثانية ما هو موجود في المرحلة من أفكار كبيرة تجد صداها ومادتها في النص. هذه التبادلية بين النص والمرحلة والمجتمع بكل ما ينتج فيه هي العوامل التي تستخلصها القراءة المحيطة، أي تلك الأشياء التي تمتلئ بدائرة النص الداخلية وما يحيط بها.
إن العلاقة بين القارئ والدائرة مؤلفة من حلقات عدة:
أولاً: على القارئ ألاّ يكتفي بإعادة النص المقروء لموقعه القديم في سياق تجربة المؤلف ومشروعه الفكري، مع تشخيص ما أحدثه من حركة تجديد في مسار ذلك الموقع فقط، بل عليه أن يكون قد مهد لفتح حلقة جديدة في مسار مشروع المؤلف. فالتأليف هو إعادة ترميم العالم، وجعله مقبولا للعيش والفهم. أما القراءة له فهي وضعه في سياق دائرة كونية أعم.
ثانياً: عدم تعميم محتوى نص له سابق على محتوى نص لاحق، أي أن لا علاقة كبيرة بين قراءتك لنص المؤلف السابق بقراءتك لنصه اللاحق إلا في نقطتين:
1- أن تجد موقع النص اللاحق في سياق مشروعه الفكري.
2- أن تجد المتغيرات الأسلوبية والفنية في النص اللاحق وقد تقدم بها خطوة توازي تقدم خطواته الفكرية، أو أن نصه يشكل بداية لمشروع جديد. فالنص لا يقرأ لوحده دائما، بل يقرأ بمتعلقاته. لكنه في الوقت نفسه يحتفظ بمساحة ذاتية خاصة به. هذه الشبكة الدائرية تولد سورات لا حد لها من دوران بنية التأويل، وعلينا أن ندرك أن فعل القراءة ليس هو تلقي النص وفهمه فقط، بل إعادة تشكيل المعرفة.
3- إن القراءة تكون باتجاهين: اتجاه تقرأ به المؤلف، واتجاه تقرأ به نفسك. أعتقد أن هذا مشكل كبير في طبيعة القراءة نفسها، ومن هنا تعتمد القراءة على اسس معرفية ثلاثة:
1- أن يكون القارئ قد فهم مشروع الكاتب الفكري، وكيف يؤلف في ضوئه نصوصه، وإلا أصبحت القراءة مجردة من أي فهم عام.
2- إن قراءة القارئ للنص تكشف عن آليات معرفية جديدة خاصة به كقارئ، وإلا لا فائدة من قراءة تعتمد على معرفة ما يفكر المؤلف فيه فقط.
3- أن يكون القارئ نفسه متغيراً. فهو مؤلف كما يقال، وعليه أن يكون متطوراً في استقبال النص وفي جدلية قراءته، بمعنى أن يخضع ذاته لمعاينة نقدية بمثل ما يخضع النص لها، وأن يخضع الاثنين لمطلقات المرحلة الفكرية حتى لو كان القارئ في زمن آخر. نحن حين نقرأ المتنبي والجاحظ ماذا نقرأ؟ هل نقرأهما بمعزل عن مرحلتهما أم بما يتبقى منهما لمرحلتنا، أم لا هذا ولا ذاك، بل نقرأهما لأنها يتجاوزان مرحلتهما ومرحلتنا؟