المثقف النقدي في ذكرى محمود أمين العالم
تمرّ هذه الأيام الذكرى التاسعة على رحيل الناقد والمفكر الماركسي محمود أمين العالم (18 فبراير 1922 – 10 يناير 2009). كانت كتاباته تظهره في صور القادر على الجدل والإقناع المزوّد بالعدّة الحقيقية لأي كاتب أو مفكر أو ناقد، من معرفة عميقة شاملة وحس نقدي جارف، وانتصار تام لقضية الجماهير والطبقات الدنيا في المجتمع، لكن معرفته عن كثب كانت تكشف فيه عن كائن شديد الرقة والعذوبة والصفاء والحنو، مؤنس للنفس والعقل، يجيد المجاملة، ويصدر دوما عن لغة عفّة شديدة التهذيب مهما كانت حدة ما يقول وقسوته.
كان العالم صاحب رسالة ومهمة وطنية وهمّ إنساني كبير، وكان مناضلا بطبيعته، رافضا لكل صور العسف والإذلال والكبت، على الرغم من إبعاده عن الجامعة بعد حصوله على رسالة الماجستير وكانت بعنوان “فلسفة المصادفة الموضوعية في الفيزياء الحديثة ودلالتها الفلسفية” والتهيؤ من بعدها للعمل في الدكتوراه، لكنه فصل من الجامعة قبل حصوله عليها لانتمائه السياسي إلى الحركة الشيوعية، ثم معاناته معتقلا سياسيا طيلة عدة سنوات إبان العصر الناصري، وهجرته إلى فرنسا لسنوات طويلة هربا من العسف السياسي في مصر.
والمفارقة أن ذلك كله لم يفقده الحماس لعبدالناصر وإيمانه بزعامته ووطنيته ودفاعه عنه وعن ثورة 23 يوليو 1952 في كل مناسبة.
ولقد كان كتابه المشترك مع شريكه الفكري الناقد والمفكر الدكتور عبدالعزيز أنيس “في الثقافة المصرية” في منتصف خمسينات القرن العشرين يمثل زلزالا نقديا عصف بالكثير من الموازين النقدية والقيم المتداولة، وتبشيرا بفكر جديد ورؤى نقدية جديدة. ومنذ منتصف القرن الماضي واسماهما معا، عنوان لمدرسة جديدة دخلت في معارك فكرية ونقدية مع عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، الذي كان يعلق على كتاباتهما بأنها “يوناني لا يقرأ”.
كان العالم وأنيس يستخدمان لغة جديدة، لها معجمها ومصطلحاتها البعيدة كل البعد عن المتداول في ساحة الحياة الثقافية والأدبية، من هنا كان هجوم أنيس على نجيب محفوظ باعتباره معبّرا عن الطبقة الوسطى البورجوازية وليس عن طبقة البروليتاريا الكادحة من العمال.
ويعد كتاب “في أزمة الثقافة المصرية” لرجاء النقاش الذي ظهر بعد كتابهما بعدة سنوات أبلغ رد يتصف بنظرة إنسانية وجودية شاملة دون وقوع في أسر نظرية معينة، والوقوف عند تطبيقاتها الحرفية. لكن العالم يعود فيخصّ نجيب محفوظ -بعد ذلك بعقود من الزمان- بكتاب بديع عن عبقريته ومكانته الروائية، ودراسات أخرى كاشفة عن رحابة منهجه النقدي ورؤاه المتسعة لما كان يضيق به في شبابه إبان انغماسه في الأيديولوجيا.
وقد عصمته دراسته للمنطق والفلسفة من الزلل أو الوقوع في التناقض، فظل طيلة سنوات عمره، وفي كل كتاباته، محافظا على جوهر المفكر الطليعي فيه، والناقد الموسوعي السبّاق إلى المتابعة والاكتشاف قبل أن يلحق به القادمون على الطريق من بعده بسنوات، يقرأ ما لم يقرؤوه بعد، ويعرف ما لم يصل إليه علمهم بعد، ويقودهم في حدب وحنوّ إلى فضاءات أرحب ومدارات أبعد، رائدا من رواد التنوير والفكر الموضوعي الحر.
وكان محمود أمين العالم إذا جاء ذكر أخيه الأكبر شوقي العالم والأديب والمحقق وعضو مجمع اللغة العربية تكاد عيناه تغرورقان بالدموع وهو يتحدث عن شقيقه الأكبر، أستاذه منذ الطفولة المبكرة، والآخذ بيده إلى كنوز الثقافة العربية والتراث العربي وأسراره وموسوعاته، وكيف كان له فضل التأسيس وترسيخ حسه اللغوي وإنضاج وعيه الجمالي بالنماذج الرفيعة من الشعر العربي، وهي أمور مكنته من أن يكون شاعرا تجديديا مغايرا للسائد من حوله في مستهل حياته الأدبية، قبل أن يشغله التخصص الفلسفي، ومعاركه الوطنية والنضالية والفكرية، وهي المعارك التي أسبغت عليه ألقاب: المناضل الكبير والمفكر الكبير والناقد الكبير.
وعلى الرغم من أن محمود أمين العالم شغل العديد من المناصب الهامة والمؤثرة على مدار حياته المزدحمة بشواغل النضال ومتطلبات الفكر من أبرزها رئاسته لمجلس إدارة أخبار اليوم ورئاسته لهيئة المسرح، إلا أنه ظل حريصا على حريته واستقلاليته وفرديته، وصوته الخاص الذي يستبطن دوما وعيه العميق بالمواقف والمتغيرات، ويميزه عن غيره من الذين تحولوا -على الرغم منهم- إلى موظفين أو تابعين للسلطة.
حتى اندمج عن طواعية واقتناع في أنشطة المجلس الأعلى للثقافة، مقررا للجنة الفلسفة فيه، وناقدا بارزا ومفكرا رائدا في الكثير من ندواته وملتقياته، فإنه لم يفقد أبدا هذه الهوية الخاصة التي تميزه، يسارع بالعودة إلى جوهره وحقيقة وعيه المتمرد المتأبّي على الخضوع للسلطة، الرافض لأن يكون تابعا أو مقودا.
من هنا لم يكن غريبا وهو عضو لجنة التحكيم البارز في الملتقى الثاني للرواية العربية الذي نظمه المجلس الأعلى للثقافة، وهي اللجنة التي حكمت بأن تمنح الجائزة للروائي الكبير صنع الله إبراهيم، الذي وقف بعد إعلان فوزه، لا ليشكر الصنيع وإنما ليعتذر عن عدم قبوله للجائزة احتجاجا على أوضاع سياسية واجتماعية، ومثل موقفه هذا صفعة مدوية للمؤسسة الثقافية الرسمية، وعندما دوّى تصفيق الجمهور الحاشد في المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية، فوجئ الجميع بأن “العالم” -عضو لجنة التحكيم التي رفض صنع الله إبراهيم صنيعها- من بين المصفقين بشدة! لقد عاد “العالم” في ومضة سريعة إلى حقيقته وطبيعته وجوهره، فكان لا بد له، وهو الشديد الحرص على الحرية وعدم الخضوع لأي قيد، أن ينفعل بهذا الموقف الذي يؤكد حرية المبدع وتمرده على أوضاع يرفضها وواقع لا يرتضيه.
واستطاع العالم بهذه الجدلية الحية في داخله، بين ما يقبله وما يرفضه، بين آرائه المعلنة ومواقفه المؤكدة لهذه الآراء والأفكار، بين أمانة الكلمة والالتزام بقيم الشرف والكرامة وما يراه من حوله من تخلف وتراجع وظلامية، وما يشهده من انكسار كثير ممن كانوا يرددون شعارات النضال إلى جانبه، وإيثارهم السلامة حينا، والكسب العاجل أحيانا، ومغانم طبقة الخدم في كل الأحيان، استطاع أن يصنع لنفسه نموذجا وصورة غير قابلة للتكرار.
ولقد شاء القدر أن يرحل بعده بأيام قليلة شريكه الفكري ورفيق المرحلة النقدية المبكرة المتمثلة في كتابهما “في الثقافة المصرية” المفكر والناقد والعالم الدكتور إبراهيم أنيس أستاذ الرياضيات.
برحيل محمود أمين العالم يرحل عصر ويغرب زمان، وتطوى صفحة رائعة من صفحات النضال التقدمي والكفاح التنويري والسلوك الإنساني الرفيع، البعيد عن كل ما يخدش الشرف أو الكرامة، المؤمن -عن يقين- بحتمية انتصار قيم العدل والحرية مهما طال الظلام، وعصفت قيم البغي والتخلف والجحود، وهذا قدره ودوره ومكانته في ذاكرة مصر والعالم العربي.