النقد المزدوج نحو سوسيولوجيا مغايرة
"نقصد إذن حركة مزدوجة منسقة نرى أنها وحدها قادرة على تجاوز التكرار وتفتح أمام السوسيولوجيين إمكانية معرفة علمية أقل استلابا وأكثر تكيفا مع خصوصية الموضوع المطروح"عبد الكبير خطيبي
لعله من نافل القول أن كتابات عبدالكبير الخطيبي وأعماله السوسيولوجية والفلسفية كذلك، لم تحظ بالاهتمام الكافي من طرف السوسيولوجيين بالمغارب والمشارق، على عكس ما لقيه من اهتمام في الدراسات الأدبية، إلى درجة أن هناك بعض المفكرين من لا يعتبره سوسيولوجيا، على اعتبار أنه يمارس نوعا من ” التأمل الفلسفي”، كما هناك من يعتبره يمارس نوعا من “الميتاسوسيولوجيا”.
يستعصي على هؤلاء أو بشكل أدق يتعذر عليهم فهم الإنتاج السوسيولوجي للكاتب، والحالة هذه، وإبعاده عن المعرفة السوسيولوجية والقذف به على هامشها، ما دامو ينظرون إلى السوسيولوجيا من داخل المنظومة ومن جوانية الاعتقاد الضيق في الحدود الصلبة والمتحجرة بين الحقول المعرفية المتعددة. مرد ذلك، أولا وقبل كل شيء، كون كتاباته انسيابية يستعصي على المرء سجنها في حقل معرفي مخصوص من ناحية، وكون أن تفكيره السوسيولوجي لا أكاديمي ولا مؤسساتي من ناحية ثانية. وبالتالي سيستحيل على المرء أن يحيط بأعماله مادام لم يتحرر بعد من أغلال كل تصور، هذا إن صدق عليه بأنه تصور، يرمي إلى سجن وكبح شعلة الحياة في نصوص فكر يجعل من مقوماته الركيزة الاختلاف والتعدد، وفتح الأفق والتحرر من كل القيود التي من شأنها أن تقذف بشعلة الحياة تلك في العدم.
وإن كان المفكر عبدالكبير الخطيبي، قد لقي اهتماما أكبر لدى الأدباء، وبدرجة أقل في الفلسفة مع بعض شذرات الكاتب عبدالسلام بنعبدالعالي، حول النقد المزدوج، فإنه شبه غائب إن لم نقل منعدم الوجود، كمشروع، في الحقل السوسيولوجي بالمغرب والعالم العربي.
في مقابل ذلك نجد غيابا تاما لأي رصد أو قراءة سوسيولوجية فككت الإنتاج السوسيولوجي للمؤلف. وفي هذا الباب، يمكن أن نجعل من “النقد المزدوج” مفتاحا لهذا التفكيك، بما هو في نظرنا استراتيجية. ذات بعد فلسفي نعم، لكنها سوسيولوجية أساسا. ذلك التفكيك الذي يقول نعم (للاختلاف) وليس لا، وإن هو قال بـ”اللا”(للكليات المطلقة)، فهو يقولها من أجل “النعم”، من أجل الاختلاف.
هل هناك سوسيولوجيا في أعمال الخطيبي أو بمعنى آخر، هل هناك مفعول (ومفعولات) سوسيولوجي في كتاباته؟ هل يمكن للنقد المزدوج مجاوزة قصور سوسيولوجيا العالم العربي وإنتاج سوسيولوجيا مغايرة؟ نعم، هناك سوسيولوجيا لدى مفكرنا؛ سوسيولوجيا فلسفية وتاريخية، على هامش السوسيولوجيا والفلسفة والتاريخ: إنها سوسيولوجيا مغايرة.
إن النقد المزدوج يجعل من سوسيولوجيا العالم العربي سوسيولوجيا مغايرة، تفسح المجال للسوسيولوجيا في العالم العربي للقطع مع كل ذاتية حمقاء والتمسك بالاختلاف والانفتاح على الأفق. تقوم، بما هي استراتيجية تفكيكية على تفكيك مزدوج: تفكيك الأسس الميتافزيقية للمفاهيم السوسيولوجية ومنها للمعرفة السوسيولوجية التي صيغت عن المجتمعات العربية، سواء كانت من نتاج هذه الأخيرة أو من نتاج المجتمعات الغربية، وإعطاء أولولوية للتاريخ في كل كتابة سوسيولوجية، مع الأخذ في الاعتبار أن كل كتابة سوسيولوجية هي كتابة للتاريخ، والعلم والأيديولوجيا. كما أن إنتاج مفاهيم سوسيولوجية من داخل اللغة العربية وسننها بإمكانه أن يساهم في تطوير سوسيولوجيا مخصوصة من ناحية ويساهم في تقليص التبعية لسوسيولوجيا المركز، بالإضافة إلى ضرورة الانفتاح على الفلسفة عموما وعلى فكر الاختلاف بشكل خاص.
هكذا، يتبين لنا أن للنقد المزدوج ضرورته الاستراتيجية كاستراتيجية في تنمية وتطوير سوسيولوجيا العالم العربي (المعهودة) بصفة عامة وسوسيولوجيا المغارب بصفة خاصة وسوسيولوجيا المغرب بصفة أخص، كسوسيولوجيا مغايرة تقوم على الاختلاف والتعدد. تلك هي نفس السوسيولوجيا التي يمكنها أن تتفكر في هذا الاختلاف والتعدد، من خلال أولا وقبل كل شيء النظر وإعادة النظر في سوسيولجيا العالم العربي الحالية، لا من حيث علاقتها بالسوسيولوجيا الغربية كسوسيولوجيا المركز فحسب، وإنما من حيث علاقتها بذاتها (كهامش) أيضا.
إننا نرى في النقد المزدوج فعالية سوسيولوجية. إنه بمثابة مطرقة الخطيبي، كاستراتيجية (سوسيولوجية) تفكيكية بالتعريف من ناحية، وفي فكر الاختلاف عموما، بمحاورته من ناحية ثانية: آلية لمجاوزة سوسيولوجيا العالم العربي الحالية لذاتها، التي يمكنها أن تخلخل جملة من الإشكالات التي تجذرت في سوسيولوجيا العالم العربي: التأخر التاريخي والمجتمعي، العلاقة مع الغرب، الخصوصية والكونية، التراث والحداثة، وغيرها من الإشكالات النظرية والمجتمعية التي طالما أعاقت وتعيق إبداع فعالية سوسيولوجية هامشية. هامشية بالمعنى الذي تحول فيه لأن لا تكون المركز ولا تكون هامشا للمركز إلا في ما يجعلها تخلخله عن مركزيته تلك، وأن تكون هامشا للهامش نفسه في نفس الآن: تلك هي استراتيجية النقد المزدوج، إنها حركة مزدوجة من الداخل إلى الخارج ومن الخارج إلى الداخل، من الهامش إلى المركز ومن المركز إلى الهامش: تكون كليهما ولا تكون أحدهما. إنها حركة ساكنة وهجرة معمرة. ذلك هو السبيل إلى زحزحة وخلخلة المركز: من خلال الهامش. بخلق هوامش جديد ومتعددة، بخلق فجوات في جوانيته، ومن ثمة تفجير المركز في الهوامش. من هنا والآن، وباستراتيجية النقد المزدوج نحو سوسيولوجيا مغايرة.