نزار قباني.. المُقْـلِق
نزار قباني من معلمي الشعر الكبار. حقيقة لا نعترف بها أحيانا ونطمرها بسبب بداهتها المطلقة في الوعي الشعري العربي. في فترة ما من سنيِّ انفتحت شهيّتنا على الشعر فوجدنا فيه بعضا أو كل ضالتنا وحساسيتنا. بعدئذ كانت شعبيته بين الأوساط المتوسطة والمتعلمة، خاصة بين النساء، أمرا مقلقا للكثير منا.
لقد كانت رديفا للقول الشعري المباشر، المبسَّط (وإن لم يكن بسيطا) واللاعب على بعض المكبوت الجسدي والسياسي. لم يكن النبش في المحرَّم والإيروتيكي بالنسبة لهؤلاء البعض ونحن منهم، سوى توطين لفكرة سائدة محض شهوانية وذكورية، أي لم تكن سوى توطيد لاستلاب المرأة وإنْ بلغةٍ شعرية محايثة، طريّة وسهلة وعذبة وأسيانة. وبدا للبعض أن صورة الشاعر العربي «دونجوانا» و»دانديا» Dandy و»غندورا» و»مروّضا للنساء» و»معسول الكلام» قد يمثلها من بين من يمثلها نزار قباني عن جدارة.
مازلتُ مقيما عند هذا التصور بتشذيبات وتعديلات مهمة، أولها أن هذه (الصورة للشاعر) العربي هي العلامة المميّزة لقباني الأرستقراطي الدمشقي المدلل، وهي صورة من الفردانية والخصوصية بمكان، وإنَّ ما لا أرغب فيه في مقامها لا معنى له طالما أنه قُدِّم أو قَدَّم نفسه على هذه الشاكلة. لقد تقدَّم قباني منذ البدء بهذا النوع من (الأسطورة) التي أحيطت به ووجدت لها رواجا عربيا في عالم ينقصه إلى حد كبير معسولو الكلام «الغندورون» والدونجوانات من النمط الإسباني الرفيع الذين يمتهنون- إذا صح التعبير- إغواء النساء.
بعد شهرته الكبيرة، عزز هذه الأسطورة ارتباطه ببلقيس. لكن لا لشيء آخر، هذه المرة، سوى الرنين والوقع اللذين يحدثهما الاسم بلقيس. وهو اسم يمتلك شحنات عاطفية وتاريخية تليق بأساطير العشق العربية الكبيرة: ليلى، لبنى، سعدى، بلقيس…إلخ. لو كان اسمها شيئا آخر لاختلف أمر القران الأسطوري ذاك، فهو نمط من القرانات العشقية التي تجد لها على الفور صدى في الضمير الشعبي المشحون بإرث غزلي، حسيّ أو عذري، هو الأشهر من بين جميع ثقافات العالم.
2
معلم كبير لا يُنكر أحد من أهم الشعراء المشاهير الحاليين تأثيره على شعرهم في لحظة ما من تطورهم الجمالي والأسلوبي. وإذا ما كان بعض مقلدي نزار قد استمروا بتقليد أسلوبه ولغته الناصعة وطرافة زوايا نظره فهم لم يقدّموا إلا نسخا باهتة من قصائده وإعادة كتابة لا غير لشعره. اثنان منهم معروفان: سيدة وسيد. على أن آخرين ممن تتلمذوا على شعره في بداياتهم ثم انتقلوا إلى فسحة رحبة مخصوصة لهم لم ترتفع أصواتهم بدينهم له إلا على استيحاء وفي مناسبات قليلة.
إن حيوية شعره وطلاقته ومباشرته المخادِعَة ومعالجته لقضايا العرب الكبرى التي جمهرت، كلها، أكبر أعداد المستمعين له ممن لم يشهد حضورهم أي شاعر عربي آخر – وهو ما تقوله طبعات دواوينه أو أعماله الكاملة العشرات من المرات- قد جمهرت أيضا الأعداء حوله من الشعراء العرب المشاهير. وهؤلاء هم تلخيص بليغ لواقع الثقافة العربية بقضّها وقضيضها رغم مزاعمهم الجَّلَل.
3
سوى أن ما يقلق البعض، ونحن منهم، على المستوى الشعري والجمالي الخالص هو أن نزار قباني، كما يخيّل إلينا بقي عند تخوم محدّدة، وظلت قصيدته تنويعا على (نموذج) واحد ناجح لدى الجمهور، لم تبرح منه طيلة أكثر من ثلاثين عاما من كتابته للشعر. لكن ألا يكتب الشاعر، أي شاعر، في حقيقة الأمر سوى تنويعات لا نهائية على (أنموذج)، أنموذجه المثالي؟ سؤال مشروع لا يمنع من القول إن شعر نزار قباني لم يقبل النزعات الجمالية والتجريبية اللاجماهيرية التي وسمت شعر معاصريه.
وكان الأمر حقا من حقوقه، كما من حقوقنا التساؤل عن سبب توقف قصيدته في مراوحةٍ أسلوبية مقيمة، بعيدا عن التطورات التي شهدها (الشعر الحديث) بتياراته وروافده كلها، الصغيرة والكبيرة. سؤال من طبيعة تتعلق بمعنى (الشعرية) عند نزار قباني التي لا يقبلها الجميع لأنها تبدو اهتماما بحساسية المتلقي التي لم تبرهن دائما على الرفعة، قبل اهتمامه بمتطلبات الشعر ومناطقه الداخلية.