قارئة الفنجان
كان لقائي الأول بكلمات نزار قباني من خلال قصائده المغناة، وإلى اليوم مازلت أستمع إلى الموسيقى في كلماته، وأحوّل قصائده حين أقرأها -من دون قصد مني- إلى لحن. ربما يرجع ذلك إلى علاقتي الأولى بقصائده، أو قد يكون لطبيعة شعر نزار وكلماته المسكونة بالموسيقى. لم أندهش حين عرفت أنه كان مغرما بالموسيقى في وقت من الأوقات وسعى لتعلمها، بل كان يطمح لأن يكون موسيقيا أو رساما. لكنه اهتدى في النهاية إلى الوسيط الأقدر على بث أفكاره ومشاعره. اهتدى نزار إلى الشعر لكنه احتفظ في نفس الوقت بوشائج من صلة مع هذا العشق الأول، هي الموسيقى التي ظلت تسكن رغما عنه روح قصائده.
جلست والخوف بعينيها
تتأمل فنجاني المقلوب
قالت يا ولدي لا تحزن
فالحب عليك هو المكتوب
كنت صغيرة حين استمعت لأول مرة إلى صوت عبدالحليم حافظ وهو يغني هذه الأغنية، لا أدري كيف اختلطت في مخيلتي تلك الصور التي ترسمها الكلمات بصوت عبدالحليم.. كانت الصورة بالغة الغموض، وأحيانا موحشة بالنسبة لي.. قصر مهجور، وأسوار، وامرأة حبيسة لا يستطيع أحد التسلّل إليها. كنت أتلقى الأغنيات حينها كأفكار لمطربيها، هم الذين يبوحون بأسرارهم للناس، وهم من وضعوا هذه الكلمات بلا شك. كنت مغرمة بكلمات قارئة الفنجان، القصة وحالة الغموض وأجواء الترقب. رسمت صورة للعرّافة في مخيلتي، امرأة عجوز تحرك الفنجان ثم تحاول قراءة ما فيه. رأيت هذا المشهد من قبل أمام عيني، كان طقسا تمارسه جدتي أمامنا لمن يطلب منها ذلك من أهل البيت أو الضيوف الذين يعرفون مدى ولعها وشطارتها في مثل هذه الأمور. كانت صورة العرافة في الأغنية تشبه صورة جدتي كثيرا، أو هكذا كنت أتخيلها. حتى اليوم مازالت صورة قارئة الفنجان عالقة في ذهني، تذكرني بجدتي وهي تجلس في مكانها المفضل في ركن البيت، بابتسامتها ونظرتها الساهمة، وهيئتها وهي تقرأ لأحدهم ما يسرّه وتخفي عنه ما قد يضايقه.
مرت الأيام وأدركت في ما بعد أن كلمات الأغنية ليست لعبدالحليم حافظ، وأنها لنزار قباني، وسعيت بكل جهدي وأنا في سن مبكرة للعثور على أحد دواوينه. أتذكر جيدا أول لقاء لي بشعر نزار، كنت حينها في بداية المرحلة الثانوية. حين تلقفت الكتاب أسرعت بالبحث عن هذه القصيدة التي غناها عبدالحليم (قارئة الفنجان) خاب أملي حين لم أعثر عليها في ذلك الديوان، لكني بحثت عنها في ما بعد إلى أن عثرت عليها، اندهشت لذلك الاختلاف بين القصيدة والأغنية بالحذف والإضافة، اختلاف يرتبط بمحاذير الدين مرة أو مراعاة لأحكام اللحن الموسيقي مرة أخرى. استمعت في ما بعد للعشرات من القصائد المغناة لأشعار نزار قباني لمطربات ومطربين كثر على امتداد الوطن العربي. ربما لا يعرف الكثيرون مثلا أن أم كلثوم غنت هي الأخرى لنزار قباني أغنيتين غير ذائعتي الصيت لأسباب مجهولة، وهما «أصبح عندي الآن بندقية» و»عندي خطاب عاجل إليك»، الأغنية الأخيرة غنتها رثاء لجمال عبدالناصر. بكيت حين سمعت تلك الأغنية لأول مرة، وأنا التي لم أعاصر سنوات جمال، لكنّ شيئا ما في كلمات الأغنية دفعني إلى البكاء، ربما كان ذلك السحر والشجن والصدق الذي كتب به نزار قصيدته. كانت كلمات نزار المغناة رفيقتي لاحقا في سنوات المراهقة وسنوات العاطفة المتأججة، من عبدالحليم حافظ إلى نجاة الصغيرة وفيروز وماجدة الرومي وفايزة أحمد ثم كاظم الساهر.
أيظن أني لعبة في يديه
أنا لا أفكر في الرجوع إليه
اليوم عاد كأن شيئا لم يكن
وبراءة الأطفال في عينيه
ليقول لي إني رفيقة دربه
وبأنني الحب الوحيد لديه
على رأس من غنوا لنزار قباني كان صوت نجاة الصغيرة رفيقي في لحظات التوهج العاطفي. الحزن والشجن الذي يلف صوت نجاة وهي تغني أغنيتها الاستثنائية «أيظن» كان عظيما ومؤثرا إلى درجة كبيرة. مازالت الأغنية إلى اليوم تمثل لي واحدة من أروع أغنياتها على الإطلاق، هذه الأغنية الرائعة، ربما تشبه قارئة الفنجان في كونهما تعتمدان معا على قصة، إنها حكاية تروى بالشعر والموسيقى، حب وانتظار وخلاف، ثم عتاب ومغفرة ولقاء جديد، توليفة ساحرة من الحب والشغف والحنين تلمس القلوب المكلومة. غنت نجاة الصغيرة أكثر من قصيدة لنزار قباني، كان لكل منها مذاقها وذكرياتها المرتبطة بها.. ماذا أقول له، وإلى رجل، وأسألك الرحيل، ولكن ظل لوقع أغنية «أيظن» تأثيره الذي لا يضاهى. لكل بيت في هذه القصيدة لحنه الخاص، هكذا أراد عبدالوهاب حين وضع لحنها. سمعت نفس الأغنية بصوت عبدالوهاب مرات، غير أن صوت نجاة ظل مرتبطا في ذهني بتلك الكلمات وبالذكريات الحلوة التي تستدعيها كلما سمعتها من جديد.
لا تسألوني ما اسمه حبيبي
أخشى عليكم ضوعة الطيوب
والله لو بحت بأي حرف
تكدس الليلك في الدروب
وكأن نزار قباني كان يكتب قصائده ليغنيها أحدهم دون غيره، هكذا كنت أقول في نفسي حين أستمع إلى صوت فيروز وهي تغني له أغنياتها الثلاث، لا تسألوني، وموال دمشقي، ووشاية. ثلاث أغنيات فقط هي كل ما غنت فيروز من قصائد نزار، كأنها قصائد كتبت لها وحدها لتغنيها بصوتها دون غيرها، لا أتصور أن أحدهم يمكنه أن يصل بهذه القصائد الثلاث إلى تلك المكانة غيرها. ربما كان ذلك من تأثير ألحان الأخوين الرحباني، فهما اللذان وضعا اللحن للأغنيات الثلاث. صوت فيروز لا يضاهيه صوت آخر، صوت يجمع بين الحزن والفرح في آن. هكذا كانت فيروز رفيقتي في لحظات الشجن والسعادة، مثلما كان نزار قباني أهم اكتشاف لي في بواكير أيامي.