نزار والجغرافيات المنسية
يكتب قصيدته ويودعها في قنينة وينساها، بين تحليق وعوم في المدى الأزرق. لم يتخيّل في يوم أن الموج سيعيد كتابة ملامح القصيدة بلغات أخرى ثم تنثني في اللهجات.
منذ القراءة الأولى صدمني نزار، أعاد نصه الشعري صياغة ذائقتي، حسب ما تريده يد المفردة وهي تكور عجين الإنسان. شدني إليه عبر الأشرطة المهرّبة، كان هناك آخرون يصدحون، إلا أنه كان الأقوى، صوت بلقيس يرافقه وصرخات لم نقو على سكبها في الهواء الضحل، ومحرمات نسينا كيف كان شكلها، فنترك ليد المفردة الشعرية أن تكور ما تكور من عجين آدمي.
الشعر بين التكفير والتحليق
في الحوزة الدينة مازال طلاب العلم يجلسون على الأرض فوق تلك الحُصْر التي بهت لونها، يتوسطهم أستاذهم وهو يشرح لهم الدرس، ثم يختلون في الغرف الكثيرة المبعثرة، مازلت أذكره يعرف بأبي عبدالله في السبعين من عمره، الجميع يحترمه ويصغي لكل كلمة تخرج من فم لم تبق فيه إلا أربع أسنان في المقدمة، نسيت ديوان نزار في يدي أو هو من تملكني وأنا أسرع للحاق بدرس ابن هشام، كنت أجلس بين الحشد الذي يرصد كلمات أبي عبدالله، لمح نزار في يدي، رفع يده قال:
تقرأ لهذا الكافر الفاجر الـ ….. أليس هو من قال:
……
لم أخف ولم أرتبك، فقد انسابت الأبيات من فمه كموج هادر، من أنزل رأسه رفعه ومن غفا صحا، قرأ الأبيات بارتعاش وحِمَمَيّة، سقط الكافر والفاجر والباذخ وبقي الشعر سيدا للموقف. أبوعبدالله الآتي من دولة عربية حرك هوس الشعر الجالس على الحصر البالية لينتزعوا نزار ويغيب بين الأيدي.
أصفهان وقصاصة شعر وبندقية
في تلك المدينة العجائبية التي تنضح شعرا كان نزار يحيي ليالي الجنود، كانت اللغة الفصحى تشكل عائقا، لكن نزار يتجاوب مع اللغات الآتية من جغرافيات لم نسمع بها، يقترب بحنو ويندمج في ارتكاب اللحظة بلغتهم أو بلهجتهم، كان هناك جنود عرب يعيدون متابعين صياغة المفردة بأقرب لهجة لهم، ما إن يهبط المساء حتى يتحلّقون مغامرين بساعات ما قبل النوم مع قصيدة كتبت في لندن أو إشبيلية أو دمشق أو في مدنهم.
تمر الأشهر بل يمضي أكثر من عام، اسمه حسن، يرعى الجاموس في منطقة (العمى) لا كهرباء ولا ماء ولا غاز إلا سحب هاربة وصوت الجاموس يكسر صمت الطين، تقع في مدينة الحويزة، لهجته الجنوبية تناسب صمته وقصر قامته، مد لي يدا غابت لأيام وهي تحمل قصاصة صحيفة متهرئة امحّى لونها، أذابتها سياط الشمس قال «هذه هديتي لك»، لم أعلم إلى أي بلد تنتمي هذه القصاصة أو من أين جاءت إلا أنها حملت «متى يعلنون وفاة العرب».
في نفس تلك المدينة، وبينما كنت أقضي مناوبتي الليلية محتضنا بندقية صدئة يرافقني مذياع لا يتجاوز حجمه إصبعين لو كشف لحُبست، أعلنت إذاعة مونت كارلو وفاة شاعر. الأرض باردة ورطبة والبندقية الأكثر برودة تجفف دمعا شعريا.
قد يكون نزار في إيران أكثر شاعر عربي، إن لم يكن الوحيد بين الشعراء العرب الذين تخطوا الحاجز الذي يفصل المتلقي عن النص ويجعله يشارك في تشكيل القصيدة.
ولكن الآن بعد مرور 10 أعوام على رحيله، أحيانا أعود إلى قصائده تأخذني لحظته الشعرية، إلا أنها لم تعد تلك السابقة التي كانت تشكلني معها. ورغم ذلك مازلت أدين لهذا الشاعر بالكثير.