المكنسة الكهربائية
قبل أن تنعقد مني عُقدةُ العشرین، تعرّفتُ علی شاعرٍ یدعی نزارا (ولم أدر آنذاك أنّه بكسر النون أم بفتحها). رأیت اسمه علی کتاب فأعجبني العنوان: لعبت بإتقانٍ وها هي مفاتیحي. قیل إن هناك أشرطة من أشعاره وبصوت الشاعر نفسه. لم أکن أسمع طیلةَ حیاتي شریطاً من شعر أو غناء أو طرب أبدا وأنّی یُتاحُ لِي ذلك وإنِّي قد نشأت في بیت عریق وغارق في «الكلاسیكية» بما تحتوي علیه هذه المفردة من معانٍ ومعمعان؛ بیت لا یحلم رجاله بغیر الحور ویُلعنُ فیه الضارب علی الطُنبور.
فبعد اللُتیا والتي حصلت علی الشریط، کان یوم الجمعة الذي لم یجمع شتات بیتنا أبدا. فأبي -الوالد الماجد- کان علی عادته خارج البیت، مدعواً إلى ولیمة مّا (لم تكن بالطبع ولیمة لأعشاب البحر بل کانت من أنعام البرّ).
دخلت غرفةً ما. لم تكن هناك غرفة تختص بأحد دون سائر أهل البیت.
کانت أمي، کالمعتاد، تطهو والإناث، کالمعتاد، منشغلات بغسل الثیاب وتنظیف البیت بالمكنسة الكهربائیة التي دخلت بیتنا صارخةً لتعلن دخولنا في عصر الحداثة.
دخلتُ الغرفة وتم تشغیل الجهاز فإذا بأحد یضرب علی العود وإذا برجل یُنشد ویقول: إني خیرتك فاختاري / ما بین الموت علی صدري / أو … وإذا بأبي یدخل ویقول بسجعه المعتاد: یا هذا! ما هذا؟!
أجبتُ منكَّسَ الرأس مرتعشًا من الهام حتی الإبهام: جُعلتُ فداك یا أبتِ … هذا… هذا… نزار قباني!
قال الوالد الماجد: کنّا الیوم فی المأدبة وذکره بعض الأفاضل وأسمعنا شریطا من ترهات أشعاره التي لا وزن لها ولا قیمة. لم نفهم من هبائه المنثور شیئاً وانشد ذلك الفاضل المناضل، في بدیهة، أشعارا علی ذلك السبك:
إني أکلتُ اللحمَ / وشربتُ الشايَ / فامتلأت مثانتي / فذهبت إلى الميضأة / لـ… فضحك الوالد الماجد وحینها دخلت أمي -التي لم تقل قط لوالدي «في سریر الحب: کلا!» حسب تعبیر نزار- وبرفقتها سائر إناث البیت، دخلن مندهشاتٍ من قهقهة الوالد المرتفعة.
2
کانت ضحكة الوالد بدایة لبعض لانهایاتي. انفتحت عليّ أبواب السماء والأرضین السبع. وصلتني سبع کراسات من أشعار نزار. غلفتها حتی لا تُری أسماءُ الدواوین -وأعوذ بالله من تلك الأسماء: «طفولة نهد»، «یومیات امرأة لا مبالیة»، «أشعار خارجة علی القانون».
کانت الكراسات دائما قریبة من باقي کتب الوالد الحافات بدوشکه، أمثال سبل الراغبین وصوت الحق. کنت بین آونة وأخری أقرأ نزارا بحضرة الوالد، لكنّي کنت أسرقُ الكراساتِ واحدةً تلو أخری لأجید قراءَتها قبل أن أُنشدها بحضرة الوالد حتی لا ألحن في نحوها أو صرفها والأحری، کنت انتخب منها أشعارا تلیق بشبانٍ ذي أصالةٍ مِثلي حتی لا أهيم خلف «لا أُبالیین» یقولون ما لا یفعلون.
کانت هذه «السرقات الأدبیة» عند انشغال الوالدِ المهذَّب بصلاتي المغرب والعشاء. أما بعد الصلاة ووجبة الطعام، فكنت أُعلن للحریم -وبإشارة سبابةِ الوالد المرتفعة نحوي ونحو السماء- عدمَ جوازِ دخولهن في غرفة المكتبة حتی لا تزداد أفاعي البیت سماً.
کنتُ أجلس جِلسةَ العبد/ الولد/ التلمیذ بحضرة المولی/ الوالد/ الأستاذ؛ أُقبِّل یدَ الوالد الیمنی أولا، وأبسملُ ثانیاً واستعیذُ بالله من الشیطان الرجیم ثالثاً، بل مِن شرّ نفسي فإنَّ النفس لأمارة بالسوء. أما الوالد الكامل، فإنُّه کان یسترجِعُ ویُحَوقِلُ ویُهَلَّلُ عند کل مفردةٍ ألحنُ بها؛ صرفاً کان أم نحواً أم تجویداً. کنت أقرأ نزارا مع رعایة جمیع أصول التجوید عسى أن تذوبَ إباحية أشعاره في ترتیلي.
کان الفضاء یمتلئ روحانیةً لم أعهد لها مثیلا. فعندما أصل إلی أشعار أو کلمات توحي بالحب وتنص علیه -وما أکثرها في شعر نزار مع رقابتي الشدیدة!- کنت أقرأها بتلفتٍ وهدوء وکان الوالد یهزّ رأسه ویقول إنّ هذه الأشعار کلّها في الله ولله. إنها ذات صبغة روحانیة، وأن تاه الشاعر کما تاه عرب الجاهلیة فقرّبوا قرابینهم للأصنام بدلَ الإلهِ الواحد القهّار. وبهذه التفاصیل والتفاسیر المعنویة تمثل نزار أمامی وکانّه الحلاج أو ابن عربي. وکنت حینما أصلُ إلی مفردةٍ قریبةٍ من مفردات الدین، کان الوالد یرفع صوته ویقول: أَسمعتَ ما قلت قبل لحظات! هل تری! إنه یعني الله، فكل حب سوی حب الله جلَّ وعلا باطل وعاطل. أما أنا فكنت أهز رأسي معلناً صحةَ قول الوالد لأنّ کلامَ الشیخ شیخُ الكلام، والسّلام.
وعندما وصلنا إلى سورةِ –عفواً- إلى قصیدةِ «یا تونس الخضراء… « باح الوالد بسر لم یسمعه قبلي أحدٌ أبداً. کان الوالد یحفظها عن ظهر قلب بحذافیرها منذ سنةٍ ألقاها نزار قباني بنفسه. کان والدي يقرأ کلَّ بیت قبل أن أقرأه إلاّ أنّه کان هناك بعض التغییرات. لم أدرِ آنذاك من أین أتى اختلاف القراءات! أهي مِن ضعف حافظة الوالد الماجد (سامحني الله في هذا الشك المریب) أم مِن شيءٍ آخر؟ وبعد بُرهة من الزمن علمتُ أن الشعراء –عادةً- یُغیِّرون بعض المفردات في أشعارهم لأنهم في کلّ وادٍ یهیمون.
کان من المفروض أن یبقی الوالد الماجد حیاً في النهایة لیفتحَ أبوابَ قریحته علی حدیقة أزهار شعر نزار مثلاً، أو أن يقرأ ما کتبته واقترفته یداي العاصیتان حول سماحته، فیُعاقبني، أو أن یموت الوالد المصلح وعلی صدره دیوان نزار وکأنّ الوالد کان يقرأ قُبیلَ وفاته هذه السطور:
خلاصةُ القضية/ توجَزُ في عبارة/ لقد لبسنا قشرَةَ الحضارة/ والرّوح جاهلیة… بناءً علی أنّ فكر جلالة الوالد لم یتغیر، أو أن أکون أنا -بدوري- استمراراً لسلطة الوالد الكلاسیكیة علی أساس أني لم أعترف بالشعر المنثور ولا بحضور وحقوق الإناث مثلاً، أو أنّ الوالد المبجّل کان يقرأ هذه الفقرة من شعر نزار، کما اقترحت إحدی المعجَبات بنزار والوالد الماجد معاً:
إني خیرتك فاختاري/ ما بین الموت علی صدري/ أو…
لكنّي ورغم الجهود! لم أستطع أن أُنهي مساهمتي النزاریة، فبقي النصُ مفتوحاً کما رام نزار لكل نص، ولتكتب کلُ قارئة لفنجاني ما یروق لها لو کانت مكاني، وأملي ألا تُعاني نصفَ ما أُعاني.