محيي الدين اللباد المشاغب صانع الكتب
هو “مشروع بصري” حسب التسمية التي يعتمدها ابنه أحمد في مقدمته لمجلدات كتاب اللباد الأب “نظر”. وهي تسمية غامضة، غير أنها مريحة من أجل ألاّ نضيع في الطرق المتشعبة التي مشى فيها اللباد منذ بداياته. فما من صفة واحدة من صفاته ممكنة لتقديمه، أن يكون ذلك الفنان جاهزا أو معلّبا هو ما لا يمكن أن يتوقعه أحد من المولعين بتمرده. هو رسام أطفال ورسام كاريكاتير ومصمم وغرافيكي ورسام أغلفة وكاتب ومؤرخ فنون وناقد وهو صانع كتب أولا وأخيرا. كان كلّ تلك الصفات مجتمعة من غير أن تخذله واحدة منها. ولكنه كان أيضا مخترع أنواع فنية ومؤسس دور نشر.
لا ينافسه أحد في عالمنا العربي في شغفه بالورق العصيّ على الإهمال، بالرغم من أن اللباد نفسه كان ميالا إلى إحياء كل ما هو منسي ومهمل والاهتمام بكل ما هو هامشي وصغير ويومي. وكان في ذلك يتجاوز بالمعاني الذي يستخرجها تيار الفن الشعبي الأميركي (بوب آرت)، من جهة واقعيته النقدية.
المتجدد بروح طفل
فضيلة محيي الدين اللباد (1940 ــ 2010) أنه ومنذ البدء كان يمتلك استعدادا لنفي القناعات الثقافية المكرسة، سواء شعبيا أو رسميا. كان كالطفل يولد من جديد، كلما سيطر عليه إلهام فكرة. فكان يجدد نفسه باستمرار، ومعه تتجدد مفردات لغته التي لا تكف عن مزج السخرية من أساليب الحياة بالموقف الجاد من الحياة نفسها.
وهو ما صنع ظاهرته التي لا أظنها تتكرر. وبالرغم من أنه كان مواطنا مصريا بعمق فإنه كان وبالقوة نفسها فنانا عالميا، يجد مسؤوليته في التصدي لأشكال التعبير المتاحة شعبيا وتعريتها وفضح ركاكة ورثاثة لغتها التي تتستر بالتسلية والتهذيب.
مَن يطّلع على المجلدات الأربعة التي يتألف منها كتابه “نظر” الذي سبق أن نشر محتوياته في مجلة “روز اليوسف” منذ العام 1985 لا بد أن يقف مبهورا أمام تلك الخبرة الموسوعية التي تميز بها اللباد في مجال الفنون البصرية. فإلى جانب المعلومة الدقيقة اجتهد اللباد في وضع تجربته الشاسعة بين يدي القرّاء، وكان كريما في ذلك.
فاللباد في كل ما كتبه ورسمه كان معلّما بكل ما تعنيه تلك الصفة.
بين التأثر به وتقليده
من اليسير أن تكون رسومه الموجّهة إلى الأطفال ذات تأثير كبير في جيل من الرسّامين العرب ولكن السقوط في تقليده الساذج كان هو الآخر يسيرا. ذلك لأن أسلوب اللباد في الرسم كان جديدا على المستوى العالمي. ولم يسبق لرسام أن قرر أن يتصدى وحده لمشروع مؤسسة بحجم مؤسسة والت ديزني الأميركية. ما فعله صاحب “نظر” في صنع البدائل النظرية لما اعتبره نوعا من التضليل والتجهيل لم يكن إلا نوعا من المراجعة النقدية لما انطوى عليه التراث العربي من معجزات بصرية. وقد يكون ضروريا هنا ألاّ نهمل الجانب التفكيكي الذي انطوت عليه تجربة اللباد. غالبا ما كان الفنان يفكك المشهد البصري ليعيد عناصره إلى أصولها ومن ثم يعيد تركيب تلك العناصر وفق رؤية جديدة، غالبا ما تكون مناقضة للأصل.
اللباد الذي استفاد من التكعيبية في تقنية التعامل مع مواده وطريقة نظره إلى تحول الصورة، لا بسبب تحول المزاج أو الانطباع بل بقوة المواد نفسها كان تفكيكيا في نظرته إلى مصادر إلهامه. وهو ما أعانه على فهم الكثير من الظواهر الدعائية والإعلامية التي كانت متاحة جماهيريا.
اللباد يشكل علامة فارقة في تاريخ فن الكوميكس في مصر والعالم العربي
الفنان الملتزم بحريته
كان اللباد نوعا من الفنان الملتزم، غير أن طريقته في التعامل مع السياسة كانت تقدم حريته على أيّ نوع من أنوع الخضوع العقائدي. لذلك فإن تجربته تنطوي على فهم متقدم وريادي لمفهوم الفن الملتزم. وهو مفهوم اكتسب من خلال تجربته الكثير من المرونة الحية والتماهي مع أسباب الحياة. مفاجأة اللباد الذي عاش المرحلة الناصرية تكمن في أنه لم يكن ابن التجربة المصرية في الفن الملتزم. لقد شق الرجل لالتزامه الإنساني نهرا يشبهه ويذكّر به. وهو ما جعله يصمد أمام نداءات الحياة المباشرة التي حنطت الأشكال المتاحة باعتبارها رموزا.
يقول “قررت في عمر مبكّر أن أعدّ نفسي لأكون على ما أنا عليه الآن. كان هذا الاختيار قد اتضح في السابعة أو الثامنة من العمر، إذ لم أكن أستمتع بمشاهدة الأعمال الفنية المعقدة حرفيا. أتذكر حين كنت أتصفح مجلة الهلال في تلك الفترة، وأشاهد النسخ المصورة للوحات عالمية كانت كثيرا ما تصيبني بضجر لم أكن أعي مصدره. وفي ذات الوقت كان اهتمامي يتحوّل نحو رسائل بصرية أبسط بكثير، أقرب إلى واقعنا اليومي المعيش. اتجه اهتمامي إلى العلامات التجارية للمنتجات المتداولة آنذاك. باكو زهرة الغسيل ماركة زوزو، زجاجة كوكاكولا، طوابع البريد، علب الكبريت، ماركات السجائر، شخصية ميشلان، وغيرها من منتجات ارتسمت علاماتها في وجداني الذاتي، لتمثل في ما بعد ذاكرتي البصرية الأولى. أتذكر أيضا اهتمامي بطريقة كتابة عناوين الأخبار في الصحف، وما كانت تحمله من رسائل بصرية قوية باللون الأسود، وعندما دخلت كلية الفنون الجميلة بالقاهرة كانت غايتي التخرّج منها وأن أعمل ما أقوم بعمله الآن، وليس لأكون فنانا مصورا. أرسم اللوحات التي تعلق على الحيطان”.
صانع الكتب قال كل شيء ليعترف.
ليس ابنا لأحد
ما أهّله ليكون رساما مضادا أنه كان مستعدا أصلا لاختراق القوالب الجاهزة التي وضع فيها الفن الذي تعلمه. لم يكن اللباد ابنا لأحد، بالرغم من أنه تعلم الشيء الكثير من بيكار، معلّمه المصري الذي سبقه إلى الحرفة. غير أنه كان مثاليا في الدرس. لقد وجب عليه أن ينسى ما تعلّمه، بالرغم من أنه لم يكفّ عن شكر معلّمه.
وفاء اللباد لمعلّمه لم يكن لأسباب تقنية، بل لأسباب أخلاقية، بالرغم من أن بيكار كان هو الآخر معلّم تقنيات. لقد كان بيكار فاتحا في مجاله. غير أن كلّ ما فعله بيكار لم يشكّل أساسا للمدرسة التي سيؤسسها اللبّاد مستعينا بقوة خياله. لقد وصفه ابنه أحمد بأنه رسّام البصر والبصيرة. وهو وصف دقيق لفنان، كان ينتقل بخفة بين ما يشترك به مع الآخرين في رؤيته وبين ما يراه وحده.
محيي الدين اللباد كان فاتحا. لا يزال الشيء الكثير منه يقع في ما لا يمكن توقعه واقعيا. فالرجل لعب في منطقة خيالية، لم تتسع لسواه ولم ينافسه أحد عليها، بالرغم من كثرة مقلديه في الرسم كما في التصميم، وبالأخص في مجال تصميم أغلفة الكتب.
اللباد ظاهرة عالمية كُتب لمصر أن تكون حاضنتها.