محنة الفلسفة محنة الإنسان
هناك حقيقة قد يغفل أو يتغافل عنها الكثيرون، وهي أن الفلسفة تقوم بدور حيوي ومحوري في تقدم الأمم والشعوب، كما أنها الأساس الذي تبنى عليه نهضة الأمم وتقدم الحضارات. ومن هنا جاء قول ديكارت في كتابه “مبادئ الفلسفة” إن حضارة الأمة وثقافتها إنما تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها. وفي هذا السياق نشير إلى أن الفلسفة العربية في عالمنا العربي المعاصر تعاني من محنة حقيقية يدركها كل من يعمل في مجالها.
تعاني المدارس والجامعات العربية من تراجع ملحوظ لتدريس الفلسفة، بل ومن الوقوف ضد الفلسفة بوجه عام، وكأن الفلسفة شيطان شديد الغواية تغوي الناس وتجعلهم يرتكبون الأفعال المرذولة، أو أنها عقبة في سبيل التقدم والرقي الحضاري. وإذا ما ألقينا الضوء وتأملنا بعمق محنة الفلسفة العربية وأسباب تراجعها، فإننا سنجد أن أحد أهم الأسباب هو التراجع الواضح والملحوظ لتدريس الفلسفة في العقد الأخير، ومحاولة استعمال سلطة الدين لتديين المناهج التعليمية العربية، وتكريس النهج المضاد للفلسفة واتساع العلوم الدينية مقابل تراجع الفلسفة. وإذا كان هذا يحدث في الوطن العربي، فإننا نشهد في ذاك الوقت تطورا للفلسفة في الغرب على مستوى تطبيقها في المناهج التعليمية. بل لا نبالغ في القول إن الغرب يحاول أن يجعل من الفلسفة منهجا تربويا في المرحلة الابتدائية، وهذا إن دل فإنما يدل على أهمية ومكانة الفلسفة في حياة هذه الشعوب والمجتمعات.
من هنا نلفت الانتباه إلى أن أزمة الفلسفة في العالم العربي هي أزمة الإنسان العربي بوجه عام، فالمجتمعات العربية مسكونة بضدية الفلسفة، والوقوف ضد من يقوم بالاشتغال بها، بل محاربة الفلسفة على مختلف الأصعدة، بل الأدهى من ذلك ساد انطباع عام لدى معظم الشعوب العربية أن كل من يشتغل بالفلسفة هو إنسان به مس من جنون، ويسكن برجا عاجيا، بل هو منفصل عن الواقع، ويعزف لحنا لا يفهمه الآخرون، ويعيش في جزيرة منعزلة.
وبناء على ذلك توجد فجوة واسعة بين من يعمل بالفلسفة وبين مجتمعاتهم، وهذه هي الطامة الكبرى والمصيبة الفادحة، لأن الشعوب العربية لا تدرك أهمية الفلسفة، وما تقوم به من دور كبير في نهضة الشعوب وتقدم المجتمعات، ولم لا والفلاسفة هم مرآة عصرهم وضمير مجتمعاتهم، والمنظرون لمشاكل مجتمعاتهم، بل يضعون الحلول لهذه المشاكل. وإذا ما رجعنا إلى الوراء قليلا لنرى ظهور ودخول مصطلح الفلسفة إلى الثقافة العربية الإسلامية، سوف نرى أنها دخلت إلى هذه الثقافة عبر تعريب الفلسفة اليونانية وخصوصا في عهد المأمون، وكانت تسمى في ذلك الوقت علوم الأولين. ومن هنا تبلورت ثلاثة مجالات للنظر العقلي في الحضارة العربية الإسلامية هي علم الكلام والفلسفة والتصوف. ومحنة الفلسفة العربية بوجه عام تتجلى في الصراع بين الدين والفلسفة.
من هنا يطرح سؤال جوهري ومحوري يفصح عن هذه المحنة التي تعيشها الفلسفة العربية؛ ما هي علاقة الدين بالفلسفة؟ هل هي علاقة تضاد وصراع وتناقض؟ أم علاقة تعاضد وانسجام؟ والإجابة على هذا السؤال توضح كيف أن هذه القضية شغلت أذهان الفلاسفة المسلمين والعرب، لذا حاولوا التوفيق بين الفلسفة والدين، ولعل أشهر هؤلاء هو الفيلسوف ابن رشد في محاولة إحداث منهج توفيقي بين الشريعة والحكمة. وفي هذا السياق يجب أن نطرح سؤالا مهما لماذا تظهر العلاقة بين الدين والفلسفة في العالم العربي وكأنها علاقة تصادمية وليست تفاعلية انسجامية؟ وما الذي دفع العديد من الفقهاء في الإسلام إلى تحريم الفلسفة؟ لا بد هنا أن نستدعي فتوى ابن الصلاح الشهرزوري الذي حرم الفلسفة والمنطق والاشتغال بهما. يقول الشهرزوري في فتواه إن الفلسفة أس السفه والانحلال، ومن تفلسف فقد عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المطهرة.
وقد شخص المفكر فؤاد زكريا تلك العلاقة بين الفلسفة والدين وأرجع هذا الصدام بينهما إلى أن الفلسفة تفترض مقدما تعدد الآراء وتقبل الرأي الآخر، أما الدين فبارتكازه على الحقيقة المطلقة يرى أن الرأي الآخر مروقا وزندقة. وللخروج من هذا المأزق الذي تعيشه الفلسفة العربية في قضية الصراع بين الدين والفلسفة، يدعو فؤاد زكريا إلى الاهتمام بما يسمى فلسفة الدين التي تتناول طبيعة التجربة الدينية، والسمات المميزة للإيمان الديني بالقياس إلى أنواع الإيمان، وطبيعة اللغة الدينية.
من كل ما سبق يجب أن نلفت الانتباه في هذا السياق إلى أن محنة الفلسفة العربية تؤكد واقع المجتمع العربي المأزوم على كل المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والدينية. وهنا نطرح هذا السؤال لماذا هذا الموقف السلبي من الفلسفة في الوقت الراهن؟ وهل العقل الأشعري كما استخلص البعض قد أدخل الفلسفة العربية الإسلامية في أزمة؟ ولقد أجاب بعض المختصين عن ذلك بالقول إن الفلسفة عمل عقلي نقدي شاق يبحث في عمق الأشياء والظواهر لمعرفة العلاقات والروابط الجامعة بينها، وهذه السمات والخصائص ليست من خصائص المجتمعات العربية، ولا ثقافتها التاريخية، مجتمعاتنا العربية لا تحب العمل، وتكره النقد، فمن الطبيعي ألا تحظى الفلسفة باهتمامات هذه المجتمعات.
من كل ما سبق نرى أن من الواجب الاهتمام بالفلسفة على جميع المستويات، وإدخالها في مناهجنا الدراسية في المدارس والجامعات، فهي تكون وتشكل رؤية نقدية، وتكشف عن بواطن الأمور، وتساعد في تحقيق نهضة الأمم والشعوب، وإذا أرادت مجتمعاتنا العربية التقدم والرقي وأخذ مكانها اللائق بين الأمم فعليها إعطاء الفلسفة وتدريسها المزيد من الاهتمام، فالفلسفة هي الحلم الذي يجب أن نسعى لتحقيقه في حياتنا ومدارسنا وجامعاتنا، من أجل نهضة شاملة. ورأينا كيف اهتم الغرب بالفلسفة في كل مناهجهم التعليمية مما ساعد على تقدمهم.